أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي تفسير الربع السادس عشر والسابع عشر من سورة البقرة بأسلوب بسيط

تفسير الربع السادس عشر والسابع عشر من سورة البقرة بأسلوب بسيط

تفسير الربع السادس عشر من سورة البقرة بأسلوب بسيط

الآية 243: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ﴾: يعني: ألم تعلم قصة الذين فرُّوا من أرضهم ومنازلهم؟ ﴿ وَهُمْ أُلُوفٌ كثيرة، ﴿ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾؛ أي: خشية الموت، وهنا وقع خلاف بين المفسِّرين؛ "فمنهم من قال: إنهم فرُّوا من ديارهم خوفًا من القتال؛ أي: إن عدوهم نزل بأرضهم، وقد كان الواجب عليهم أن يثبتوا ويدافعوا عن أرضهم، ولكنهم تركوا ديارهم للعدو، وفرُّوا جُبنًا من القتال، وخوفًا من الموت"، "ومنهم من قال: إنهم فروا خوفًا من مرض الطاعون الذي نزل بأرضهم، ففروا - اعتقادًا منهم - أن المرض سوف يُميتُهم بذاته، وليس بقدر الله تعالى، فاعتقدوا أن السبب هو الذي ينفع ويضر، ولم يعتقدوا في أن كل شيء بيد مسبب الأسباب - سبحانه وتعالى - الذي بيده ملكوت كل شيء"، ﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ﴾ فماتوا دفعة واحدة؛ "عقوبةً لهم على فرارهم"، ﴿ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾ الله تعالى بعد مدة، ليستوفوا آجالهم - المكتوبة في اللوح المحفوظ - وليتَّعظوا ويتوبوا، وليبين سبحانه لخلقه آياته بقدرته على إحياء الموتى، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ بنعمِه الكثيرة عليهم، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ فضل الله عليهم، بل ربما استعانوا بنعم الله على معاصيه، وقليل منهم الشكور الذي يعترف بالنعمة، ويصرفها في طاعة المنعم - جل وعلا.

وبمناسبة ذكر الفرار من المرض: فإنه قد يسأل سائل ويقول:كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري -: ((لا عدوى))، وبين قوله في نفس الحديث: ((وفرَّ من المجذوم - وهو الذي أصابه مرض الجذام - كما تفرُّ من الأسد))؟ وخلاصة أقوال العلماء في ذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لاعدوى))؛أي: لا عدوى مؤثرة بذاتها - يعني لا تنتقل بذاتها - إنما ينقلها الله - سبحانه وتعالى - إذا شاء، واعلم أن هذا يكون من باب الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الذي يصيبنا، وأنه هو الذي يصرف عنا السوء، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((فرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد))، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون - كما في صحيح البخاري -(إذا سمعتم به بأرض:فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها: فلا تخرجوا فرارًا منه))، فإنه منباب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى، وجعلها سببًا للهلاك أو الأذى،والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء؛ مثل اجتناب مقاربة المريض، أو القدومعلى بلد الطاعون، أو غير ذلك، ولكن مع الاعتقاد الجازم أن السبب لا ينفع ولا يضر بذاته، وإنما كل شيء بيد الله سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ﴾ [الحجر: 21]؛ وقال تعالى: ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [يس: 83]، وكذلك نعتقد أننا لا نصاب بمجرد مخالطة المرضى، وإنما جعل الله - سبحانه وتعالى - مخالطةالمريض للصحيح سببًا لإعدائه، وقد يشاء الله أن يخالطه ولا تحدث عدوى، فالأمر يرجع في ذلك إلى قدر الله تعالى، ومن لطيف ما يُذكَر هنا "أنعمر بن الخطاب رضي الله عنه - حينما كان أميرًا للمؤمنين - خرج إلى الشام، فلقيه أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه رضي الله عنهم، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فقرر عمر الرجوع إلى المدينة، فقال له أبو عبيدة: "فرارًا من قدر الله"؟ فقال له عمر: "نعم؛ نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله"، "وهذا يدل على أن الأخذ بالأسباب إنما هو جزء من القدر"؛ فعلى سبيل المثال: إذا أصاب العبد مرضًا ما، فعليه أن يأخذ بالأسباب التي أمره الله تعالى بها، كالذهاب إلى الطبيب، وأخذ الدواء، ولكن مع عدم تعلق قلبه بالطبيب ولا بالدواء، وإنما عليه أن يعلق قلبه بالله الشافي، الذي يوفق الإنسان لأخذ الدواء المناسب للداء، والذي يُعلِّمه ما لم يكن يعلم، وهذه نقطة هامة جدًّا؛ لأن تعلق القلب بغير الله تعالى هو من أعظم مفسدات القلب، وهو بداية الشرك.

الآية 245، 244: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ لأقوالكم ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بنياتكم وأعمالكم، فأحسنوا النية، واقصدوا بها وجه الله تعالى، واعلموا أن القعود عن القتال لا يفيدكم شيئًا، ولو ظننتم أن في القعود حياتكم وبقاءكم، فليس الأمر كذلك، فإنكم لا تُمتَّعون بعد القعود عنه إلا قليلاً، ولهذا ذكر الله تعالى هذه القصة السابقة تمهيدًا لهذا الأمر، فكما لم ينفعهم خروجهم من ديارهم - بل أتاهم ما كانوا يحذرون (وهو الموت) - من غير أن يحتسبوا، فاعلموا أنكم كذلك، ولما كان القتال في سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذل، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغَّب فيه، وسماه قرضًا، فقال: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾؛ أي: ينفق إنفاقًا حسنًا - يعني من مال حلال - طالبًا للأجر، وذلك في جميع طرق الخير، وخصوصًا في الجهاد، ﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ لا تُحصى من الثواب وحسن الجزاء، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وذلك بحسب حال المنفق مع الله، وبحسب نيته، ونفع نفقته، والحاجة إليها، ولما كان الإنسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر: دفع الله تعالى هذا الوهم بقوله: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ ﴾؛ أي: يضيِّق على من يشاء من عباده في الرزق ابتلاءً لهم، ﴿ وَيَبْسُطُ ﴾؛ أي: ويوسِّعه علىآخرين امتحانًا لهم، فالتصرف كله بيديه سبحانه،وله الحكمة البالغة في تضييق الرزق وتوسعته؛ لأنه - سبحانه - الأعلم بما يُصلِح عباده من الفقر والغنى، فأنفقوا ولاتبالوا فإنه هو الرزاق، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ )، وقد سمى الله تعالى ذلك الإنفاق قرضًا؛ حثًّا للنفوس على البذل؛ لأن المقرض متى علم أن ماله كله سيعود إليه، مع مضاعفة حسناته، سهل عليه إخراجه، ومجيء لفظ الجلالة(اللَّهُ) في قوله: ﴿ يُقْرِضُ اللَّهَ ﴾ فيه غاية الطمأنة للمنفق، وضمان التعويض له؛ لأنه يعلم أن قرضه سيعطيه لغني كريم قادر.

الآية 246: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ ﴾ وهم الأشراف والرؤساء ﴿ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ ﴾ زمان ﴿ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: ولِّ علينا ملكًا نجتمع تحت قيادته، ونُقاتل أعداءنا في سبيل الله، ﴿ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾ ؛ يعني: هل الأمر - كما أتوقعه - إن فرض عليكم القتال في سبيل الله أنكم لا تقاتلون؟ فإني أتوقع جُبْنَكم وفراركم من القتال، ﴿ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ ﴾ يعني: وأيُّ مانع يمنعنا عن القتال ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾؛ أي: وقد أخرجنا عدونا من ديارنا، وأبعدنا عن أولادنا بالقتل والأَسْر؟ ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوا ﴾؛ أي: جبنوا وفروا عن القتال ﴿ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ﴾ ثبَتوا بفضل الله تعالى، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ الناكثين لعهودهم).

الآية 248: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ ﴾؛ أي: علامة ملك طالوت - الذي اختاره الله ليكون ملكًا عليكم -: ﴿ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُوهو الصندوق الذي كان بنو إسرائيل يضعون فيه التوراة - وكانأعداؤهم قد انتزعوه منهم - ﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ ﴾: أي طمأنينة ﴿ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ تثبِّت قلوب المخلصين، ﴿ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ﴾: والبقية هي ما تبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره، وهي هنا: عصا موسى، وفتات من الألواح التي تكسَّرت، وشيء من آثار أنبيائهم ﴿ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ من أرض أعدائهم العمالقة، فتضعه بين أيديهم في مخيماتهم، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَلَآيَةً لَكُمْ ﴾؛ أي: إن في ذلك لأعظم برهان لكم على اختيار طالوت ملكًا، فعليكم بأمرالله ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ بالله ورسله، فأتت به الملائكة تحمله، وهم يرونه بأعينهم).

الآية 249: (﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ﴾؛ أي: فلما خرج بجنوده لقتال العمالقة: ﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾؛ أي: ممتحنكم - على الصبر - بنهرأمامكم تعبرونه، ليتميز المؤمن من المنافق، ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ ﴾؛ أي: من ماء النهر﴿ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾ ولا يصلح للجهاد معي، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ فلا لوم عليه، ﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ ﴾؛ أي: فلما وصلوا إلىالنهر انكبوا على الماء، وأفرطوا في الشرب منه ﴿ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ﴾ صبَروا علىالعطش والحر، وحينئذ تخلف العصاة، ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ﴾ لملاقاة العدو - وكان عدد المؤمنين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً - فلما رأوا كثرةعدد العدو، وكثرة عدته وسلاحه: ﴿ قَالُوا لَا طَاقَةَ ﴾؛ أي: لا قدرة ﴿ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ ﴾- قائد العمالقة - ﴿ وَجُنُودِهِ ﴾ الأشداء، ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾؛ أي: فأجاب الذينيوقنون بلقاء الله - مذكرين إخوانهم بالله وقدرته - قائلين لهم: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ ﴾ مؤمنة صابرة ﴿ غَلَبَتْ فِئةً كَثِيرَةً ﴾ كافرة باغية ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ وإرادته، ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ بتوفيقه ونصره).

الآية 250: (﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا ﴾؛ أي: ولما ظهروا ﴿ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ ورأوا الخطرَ رَأيَ العين: فزعوا إلى الله بالدعاءوالضَرَاعة، فـ ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ﴾؛ أي: يا ربنا أنزل على قلوبنا صبرًا عظيمًا، ﴿ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾: واجعلها راسخة في قتال العدو، لا تَفِرُّ مِن هَوْل الحرب، ﴿ وَانْصُرْنَا ﴾ بعَونِكَ وتأييدِكَ ﴿ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾).

الآية 251: (﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ ﴾ عليه السلام ﴿ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ﴾؛ أي: المُلك والنبوة، ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ مِنالعلوم، ﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾؛ أي: ولولا أن يَدفعَ اللهُ ببعض الناس - وهم أهل الطاعةِ له والإيمان به - بعضًا، وَهُم أهل الشِّرك؛ وذلك بالجهاد والقتال في سبيله ﴿ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ بغَلَبَةِ الكُفر، وتَمَكُّن الطُغْيان،وأهل المعاصي، ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾).

تفسير الربع السابع عشر من سورة البقرة بأسلوب بسيط



الآية 253:﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ الكِرام الذين قصَّ اللهُ تعالى على رسولِهِ بعضًا منهم، وأخبره أنه منهم في قوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ في خِتام الآية السابقة لهذه، فهؤلاء الرسل ﴿ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍب ﴾ حسب ما مَنَّ الله به عليهم، ولكننا لا نُفرقُ بين أحدٍ منهم في الإيمان بهم، ﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ كَمُوسَى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ عالية كمحمد صلى الله عليه وسلم، بعُموم رسالته، وخَتْم النُّبُوة به، وتفضيل أمَّتِهِ على جميع الأمم، وغير ذلك، ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ:أي: المُعجِزات الباهرات الدالَّة على صِدقِ نُبُوَّتِهِ ورسالته، ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾: أي: وقوَّيْناهُ بجبريل عليه السلام، يُلازمُهُ في أحوالِهِ، فكانَ يَقفُ دائمًا إلى جانب عيسى يُسَدِّدُهُ وَيُقوِّيه إلى أنْ رَفعَهُ اللهُ إليه، ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ما اقتتل الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾: أي: ما اقتتلت الأمم التي جاءت بعدَ هؤلاء الرسلِ﴿ مِن بعد ما جاءتهم البيناتُالمُوجِبة للاجتماع على الإيمان، ﴿ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا ﴾: أي: وقع الاختلاف بينهم: ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ ﴾: أي: ثَبتَ على إيمانِهِ،﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ:أي: أصَرَّ على كُفره، ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾ مِن بعد ما وقع بينهم هذا الاختلافُ المُوجِب للمُعادَاة والمُقاتَلَة، ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَايُرِيدُفيُوفق مَن يشاءُ - بفضلِهِ - لِطاعتِهِ والإيمان به، ويَخذلمَن يشاءُ - بِعَدْله وحِكْمتِهِ - فيَعصِيهِ ويَكفر به).

الآية 254:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ: أي: أخرِجوا الزكاة المفروضة عليكم،وتصدَّقوا مما أعطاكم اللهُ ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾: وهو يوم القيامة، حيثُ ﴿ لا بَيْعٌ فِيهِ ﴾: أي: ليس فيه بيعٌ ولا ربحٌ ولامالٌ تفتدونَ به أنفسكم مِن عذاب الله، ﴿ وَلا خُلَّةٌ ﴾: أي: ولا صَداقة صَديق تُنقذكم، ﴿ وَلا شَفَاعَةٌ ﴾: أي: ولا شفاعة تُقبَلُ إلا مِن بعدِ أن يَأذنَ اللهُ لمن يشاءُ ويرضى، كما ذكَرَ اللهُ تعالى ذلك في آيةٍ أخرى)، ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ المتجاوزونَ لِحدودِ الله تعالى).

الآية 255: ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ:يعني: اللهُ الذي لا يَستحق العُبُودِيَّة إلا هو﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾: أي: القائمبتدبير المَلَكُوتِ كله، القائم على كل نفسٍ بما كَسَبَتْ، (وقد قال بعضُ المُحَققِين: إنَّ ﴿ الْحَيّ الْقَيُّوم ﴾ هو اسمُ اللهِ الأعْظَم الذي إذا دُعِيَ به أجابَ، وإذا سُئِلَ به أعْطَى؛ ولذلك ينبغي للعبد أن يَذكُرَ هذا الاسم في دُعائِهِ، فيقول: (يا حَيُّ يا قيوم)، ثم يدعو اللهَ بما شاءَ مِن الخير)، واللهُ سبحانهُ ﴿ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ﴾: أي: نُعاس، ﴿ وَلانَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ: أي: مَن هذا الذي يَجرؤ أن يَشفعَ عنده إلا مِن بعد أن يَأذنَ له؟ وفي هذا رَدٌّ قاطِع على مَن يُنكِرُون حديثَ الشفاعة - الثابت في صحيح البُخاري رَحِمَهُ الله - وذلك لأنهم يُحَكِّمُونَ عقولَهُم في ذلك بدونِ عِلم، فيَحْتَجُّونَ بقوْلِهِم: (كيف يَذهب الناس إلى الأنبياء - ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم - لِيَشفعوا لهم عند ربهم، ولا يذهبون مباشرة إلى اللهِ تعالى ليطلبوا منه الشفاعة؟) ويعتبرون أنَّ هذا الحديثَ ضعيفٌ بِحُجَّةِ أنَّ الناسَ بذلك سيجعلون الأنبياءَ شُرَكاءَ للهِ تعالى، ويعتقدونَ أنَّ هذا يَتَناقَضُ مع قوْلِ اللهِ تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، ونحن نقولُ لهم: إنه قد ثَبَتَ - في نفس الحديث - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يَذهبُ لِيَخِرَّ تحتَ العرش ساجدًا، ثم يَحْمَد اللهَ تعالى بمَحَامِدَ لم يَحْمَدْهُ بها مِن قبل، فيقولُ اللهُ له: (يا محمد، ارفع رأسَك، وَسَلْ تُعْطَهْ، واشفعْ تُشَفَّعْ)، ففي هذا دليلٌ واضحٌ أنه قد استأذنَ رَبَّهُ في الشفاعة، وأنَّ اللهَ قد أذِنَ له، ألاَ يَتفقُ هذا تمامًا مع قولِهِ تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه، وقولِهِ تعالى: ﴿ إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26]؟ ونحن نعلمُ أنهم يَفعلونَ ذلك حِرْصًا منهم على عدم الشركِ باللهِ تعالى، ولكننا نُذَكِّرُهُم بقوْل الإمامِ عَلي رَضِيَ اللهُ عنه: "لو كانَ الدينُ بالرأي لكانَ أسفلُ الخُف أوْلَى بالمَسْحِ مِن أعلاه)، والخُفُّ هوَ شيءٌ يُلبَسُ في القدم مِثل الجَوْرَب، (ورغمَ أنَّ أسفل الخُفِّ هو الأوْلَى بأنْ يُمسَحَ في الوضوء؛ لأنه هو الذي يَتسِخ، إلا أنَّنا أُمِرْنا بالمَسح أعلاه)، وَنُذَكرُهُم - أيضًا - بأنَّ المَرْأة تَقضِي صيامَ الأيام التي مَرَّتْ عليها وهي حائِض في رمضان، ولا تقضي صلوات تلك الأيام، وبأنَّ اللهَ تعالى قد جعل عدد ركعات الصلوات مختلفة: (فالصبح نُصَلِّيهِ ركعتين، والظهر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، وهكذا)، فهذه كلها أشياء تَعَبُّدِيَّة لا تَخضَع للعقل في شيء.

فلذلك ينبغي ألاَّ نجعلَ العقلَ حاكمًا على دين الله، فيُصَحِّح ويُضَعف بهَوَاه، فإنَّ عقولَ البشر مُتفاوتة، وقد يقولُ لكَ قائل: (أنتَ لستَ أذكَى مِني، وإنَّ عقلَكَ ليس أفضل مِن عقلي، فأنا أرى هذا صحيحًا وأنت تراهُ ضعيفًا، والعكس)، وَلتعلمْ - أخي الكريم - أنه لا يَتَعارضُ - أبدًا - نَص صحيحٌ معَ عقلٍ سليم، ولكنَّ المُشكِلة أنَّ الناسَ تستَحِي أن تقول: (أنا لا أفهم هذا الحديث، ولا أفهم المُراد مِن هذه الجُزئِيَّة، ولا أفهم كيف أجمعُ بين هذا الحديث وهذه الآية، وهكذا)، فطالما أنَّ علماءَ الحديث - وَهُم أهلُ التخصص، وأهلُ الذكر في هذا المجال - قد أجْمَعُوا على صِحَّةِ حديثٍ ما، فلا ينبغي أن تُضَعفَ الحديث لِمُجَرَّد أنك تعتقد أنه لا يتفق مع عقلك، وإنما ينبغي أن ترجع إلى أهل العلم المتخصصين لِيُفهِّمُوكَ بإذن اللهِ تعالى، فأنتَ لا تعلمُ الفرقَ بين العام والخاص، والمُطلَق والمُقَيَّد، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك.


﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيدِيهِمْ وَمَاخَلْفَهُمْ: أي: وَعِلمُهُ تعالى مُحِيطٌ بجميع الكائنات - ماضِيها وحاضرها ومُستقبَلها - فهو سبحانه يَعلمُ ما بينَ أيدِي الخلائق من الأمور المُستقبَلة، ويعلمُ ما خلفهم مِن الأمور الماضية، ﴿ وَلا يُحِيطُونَ ﴾: أي: ولا يَطَّلعُ أحدٌ مِن الخَلق ﴿ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ: والكُرسي: هو مَوضِع قدَمَي الربِّ - جَلَّ جلالُه - كما ثبتَ ذلك عن ابن عباس رضي اللهُ عنهما، مِن غير أن نُشَبِّهَ قدمَي الرب بقدمَي المخلوق؛ لأنه سبحانه ليس كَمِثلِهِ شيء، فلا يعلمُشكلَ هذه القدم إلا اللهُ سبحانه وتعالى، ونحن نقولُ ذلكَ لأنَّ هناك مَن يُؤَولُونَ – يعني: يُبدلون معنى - صفاتِ اللهِ تعالى الثابتة في كِتابه، فيقولون - مَثلاً - بأنَّ معنى اليَد هو: النعمة، ونحنُ نعلمُ أنهم يفعلون ذلك مِن أجل تَنزيهِ اللهِ تعالى (خَوْفًا مِن تشبيههِ بخَلقِه، وحتى يَمنعوا العقلَ مِن التخيُّل)، ونحن نُحسِنُ الظنَّ بهم في ذلك، ولكننا نقولُ - وبمُنتهَى البَسَاطة -: (إذا سألكَ اللهُ تعالى يوم القيامة: (لماذا قلتَ أنَّ لي يَدًا؟)، فإذا قلتَ: (يا ربِّ، أنتَ الذي قلتَ - وقوْلُكَ الحق -: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]، فتنجو بذلك الجواب، وأما إذا سألك: (لماذا قلتَ بأنَّ اليَد هي النعمة؟)، فبماذا سَتَرُدُّ؟! فلا داعي - أخي الكريم - لإرهاق ذهنِكَ فيما لم تَرَهُ، وفيما لا يَنفعك، فالأمرُ بسيط جدًّا: أثبِت الصفة للهِ تعالى - كما أثبَتَها لِنفسِه - ثمَّ لا تتخيلْ ولا تُشَبِّهْ، ولا تَقلْ - مَثلاً -: كيفَ يتكلم؟ أو كيفَ يَسمع؟ ولكنْ قل: (اللهُ تعالى له يَد، ولكنْ ليست كَيَدِ المخلوق).

ونضربُ على ذلك مثالاً - ولِلهِ تعالى المَثَلُ الأعلى -: لو أننا تصورنا أن هناك سَيَّارَة لها عقل، فإذا حاوَلَتْ هذه السيارة أن تتخيل شكل مَن صَنَعَهَا، فإنها ستقول: (إنَّ الذي صَنَعَنِي - بالتأكيد - سيارة ضخمة جدًّا، ولها (عَجَلات) كبيرة جدًّا)، فهي تظن أنه مِثل شكلها تمامًا ولكنْ بحَجْم أكبر، فهل الذي صنعها كذلك؟ أم أنه مُختلف تمامًا عما تَخَيَّلتْهُ؟ وهكذا تَخَيُّل الإنسان لخالقه سبحانه وتعالى (الذي ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾)، فلا يُشْبِهُ تعالى أحدًا مِن خَلقِهِ، وَكُلُّ ما سَيَدُورُ ببالِكَ فاللهُ سبحانه بخِلافِ ذلك.

وَمِنْ لَطِيفِ ما يُذكَرُ هنا أنه قد دخل رجلان على أحد علماء المسلمين، فقالا له: (أنتَ الذي قلتَ: إنَّ اللهَ يَغضب؟) فقال لهما: (أنا لم أقل ذلك، ولكنَّ اللهَ تعالى هو الذي قال ذلك)، فقالا له: (هل تعلم أنَّ الغضب هو غَلَيَانُ الدم في القلب؟) فقال لهما: (هل لِلهِ إرادة؟) قالا: (نعم)، قال: (فإنَّ الإرادة هي مَيْل القلب إلى فِعل الشَيْء)، فأرادَ بذلك أن يُوَضحَ لهما أنَّ غضبَ اللهِ تعالى ليس كَغَضَبِ المخلوق، وأنَّ إرادَتَهُ لَيْسَتْ كَإرادةِ المخلوق، - المُهِمُّ أن تُثبِتَ الصفة كما جاءت، ولا تقل: كيف؟ - فما كانَ مِن الرجُلَيْن إلا أن انصرفا.

﴿ وَلا يَئُودُهُ ﴾: أي: ولا يُثقِلُهُ تعالى ﴿ حِفْظُهُمَا ﴾: أي: حِفظ السموات والأرض مِن الزوَال، فهو وَحْدَهُ الذي يَحفظهما في تَوَازُن عَجِيب ومُذهِل، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾ [فاطر: 41]، وقال تعالى: ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [الحج: 65]، فهما قائمتان بقدرتِهِ جَلَّ وَعَلاَ، وكذلك لا يُثقِلُهُ تعالى حِفظُ ما فيهما من الكائنات، ولا يَشُقُّ عليه ذلك، بل إنَّ ذلك أهْوَنُ عليه سبحانه مِن حِفظ السموات والأرض، ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ ﴾ بذاتِهِ وصفاتِهِعلى جميع مخلوقاتِهِ، وهو ﴿ الْعَظِيمُ ﴾ الذي يتضاءل عندَ عَظَمَتِهِ جَبَرُوت المُلوك والجَبَابِرَة، واعلم أنَّ هذه الآية هي أعظمُ آيةٍفي القرآن، وتُسَمَّى: (آية الكُرْسِيِّ)، ومَن قرأها عندَ النوم لم يَقربْهُ شيطان، ولا يَزالُ عليهِ مِن اللهِ حافظٌ حتى يُصبِح، كما ثبتَ ذلك فيصحيح البُخاري، مِن حديثأبي هُرَيْرَةرضي الله عنه.

الآية 256: ﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾: أي: لا يَحتاجُ الدين إلى أن يُكْرَهَ المرءُ على الدخول فيه، وإنما يَعتنقهُ بإرادتِهِ واختياره، وذلك لِكَمَال هذا الدين واتضَاح آياتِه، (وفي هذا رَدٌّ واضح على مَن قالَ بأنَّ الإسلامَ قد انتشرَ بِحَدِّ السيْف)، ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ﴾: أي: فالدلائلُ واضحة يَتضِح بها الحق مِن الباطل، والهُدَى مِن الضلال، ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بالطَّاغُوتِوهو كل ما يُعبَدُ مِن دون الله ﴿ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى: أي: فقد ثَبتَ واستقامَ على الطريقةِالمُثلى، واستمسك بأقوى سبب من الدين، ﴿ لا انفِصَامَ لَهَا ﴾: أي: لا انقطاعَ لهذه الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.

الآية 257: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوافهو سبحانه يتولاهُم بنصره وتوفيقِهِ وحِفظِه، و﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور ﴾: أي: مِن ظلمات الكُفر إلى نورالإيمانِ، ومِن ظلمات الجهل إلى نورالعِلم، ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُمِن شياطين الجن والإنس، فلما تَوَلَى الكفار هؤلاء الشياطين: سَلطَهم اللهُ عليهم عقوبة لهم، فزَيَّنُوا لهم عبادة الأوثان، وحَسَّنُوا لهم الباطلَ والشرُور، وزَيَّنُوا لهم الكُفرَ والفسُوقَ والعِصْيَان، فكانوا بذلكَ ﴿ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ: أي: مِن نور الإيمان إلى ظلمات الكُفر، ومِن نورالعِلم إلى ظلمات الجهل، ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

واعلم أنه لا يَجُوزُ للمُسلِم أن يُكَفّرَ أخاه المُسلم، طالما أنه ناطِقٌ بالشهادتين - حتى وإن فعلَ فِعلاً كُفريًّا يُخرجُهُ مِن المِلَّة - فقد يكون هذا الرجل مَعذورًا بجهلِه، ويحتاجُ إلى عالمٍ - يثقُ هُوَ في عِلمِه - لِيُعَلمَهُ، ويُزيلَ عنه الشبُهَات، ويُقِيمَ عليه الحُجَّة، واعلم أنَّ الأدِلَّة - على أنَّ العُذر بالجهل قاعدة شرعية أصُولِيَّة، وأنه مِن صُلب هذا الدِين - كثيرة جدًّا، ولا يَتسِعُ هذا المُختَصَر لِذِكْرها، ولكننا نَذكرُ فقط قولَ الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ﴾ [النساء: 115]، فقولُه تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ﴾ دليلٌ على أنَّ اللهَ تعالى قد جعلَ مَعرفة العبدِ بالهُدى، وإيضاحِهِ له، وإقامة الحُجَّة عليه: شرطًا قبل أن يَذكرَ العقوبة، واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال - كما في صحيح مُسلِم -: ((أيما امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ - أي: رجع - بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ))، فالأمرُ خطير جدًّا، فإنَّ الكُفرَ يُسَببُ الخلودَ الأبديَّ في النار، فإذا كانَ هذا الرجلُ مَعذورًا بجهلِه: فإنَّ الكلمة سَتُرَد على قائلِها فيَضِيع؛ ولأنَّ هذا سوف يُؤدي بعدَ ذلك إلى استباحتِهِ لِدَمِهِ ومالِهِ، وغير ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مُسلم - : ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)).

الآية 258: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّه ﴾: أي: جادَلَهُ في توحيد اللهِ تعالى، وما حَمَلهُ على ذلك إلا ﴿ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، فتجبَّر وسأل إبراهيمَ: مَن ربُّك؟ ﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾: أي: ربي الذي يُحيي الخلائق فتَحيَا، ويَسلبُ منها الحياةفتموت، فهو سبحانه المُتفرد بالإحياء والإماتة، ﴿ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾: أي: أقتل مَنأردتُ قَتْلَه، وأستَبْقِي مَن أردتُ استبقاءَه، ﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ: أي: فتحيَّرَ وانقطعتْ حُجَّته، وأيَّد اللهُ وَلِيَّهُ إبراهيمَ فانتصرَ على عَدُوِّهِ بالحُجَّة القاطعة، فهذا مثالٌ لِمَا ذكره اللهُ تعالى في الآيةِ السابقة مِن إخراجِهِ لأوليائِهِ من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ﴿ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ إلى الحق والصواب).

الآية 259: ﴿ أَوْ كَالَّذِي ﴾: أو هل عَلِمتَ مَثَلَ الذي ﴿ مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ ﴾: أي: فارغة مِن سُكانها، وقد تَهدَّمَتْ مَبانِيها وسقطتْ حِيطانُها وجُدرانها ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾: أي: على سُقوفِ بيوتِها، فـ ﴿ قَالَ أَنَّى: يعني: كيفَ ﴿ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَميتًا؟ ﴿ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ، ولكي تقتنع بما أخبرتُكَ به ﴿ فانظر إلى طعامك وشرابك لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾: أي: لم يتغيَّر طَعْمُهُ رغمَ مرور هذه السنين الطويلة، وذلك بحِفظِ الله له، ﴿ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ﴾ كيفَ أحياهُ اللهُ بعدَ أن كانَ عظامًا متفرقة، وقال له الربُّ تبارك وتعالى بعدَ أن أراهُ مَظاهرَ قدرتِه: فعلنا بك هذا لِنُريَكَ قدرتنا على إحياء القريةِ مَتَى أردنا إحياءَهَا، ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ في قصتِكَ هذه ﴿ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾: أي: دَلالة ظاهرة على قدرة الله على البَعث بعدَ الموت، ﴿ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ ﴾: أي: إلى عِظام حِمارك ﴿ كَيْفَ نُنشِزُهَا ﴾: أي: نرفعُ بعضها على بعض، ونَصِلُ بعضَها ببعض، ﴿ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ﴾، ثم نُعِيدُ فيها الحياة، (وهنا قد يَقولُ قائل: إنَّ اللهَ تعالى لما قال له: ﴿ بَل لَبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ ﴾: كانَ مِن المُتَوَقَّعِ أن يَذكرَ بعدهُ مُباشرة ما يَدُلُّ على ذلك الزمن الطويل الذي مَكَثَه، فيَبدأ - مَثلاً - بأنْ يُريَهُ العِظام التي تَحَلَّلتْ، وأما أن يُريَهُ - أولاً - الطعامَ (الذي لم يَفسد): فإنه قد يُتَوَهَّم أنَّ هذا يَدُلُّ على ما قاله العبد مِن أنه لبثَ يومًا أو بعضَ يوم، والجواب:أنه كلما كانت الشبْهة أقوى، كانَ سَمَاعُ الدليل المُزِيل لتلك الشبهة آكَد وأكْمَل، ووقوعُهُ في القلب بعد ذلك أرْسَخ، فكأنَّ اللهَ سبحانهُ لمَّا أراهُ الطعامَ والشرابَ لم يتغير ظنَّ العبدُ أنَّ هذا مِمَّا يُؤكدُ أنه لبث يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فحينئذٍ عَظُمَ اشتياقهُ إلى الدليل الذي سيكشف عن هذه الشبهة، ثم لمَّا أراهُ اللهُ سبحانه أنَّ الحمارَ قد صارَ عِظامًا بالية عَظُمَ تَعَجُّبهُ مِن قدرة اللهِ تعالى؛ لأنه قد رأى الطعامَ الذي لا يستطيعُ البقاء: باقيًا، وكذلك رأى العظامَ التي تستطيعُ البقاء زمانًاطويلاً قبل أن تتحلل: غير باقية، فحينئذٍ تَمَكَّنَ وقوع هذه الحُجَّة في عقلِهِ وفيقلبه)، ﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ: أي: فلما اتضح له ذلك، ورآه بعينه، وظهرت له أنوارُ ولايةِ اللهِ في قلبه: ﴿ قَالَ أَعْلَمُ: أي: أعترفُ ﴿ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فهذا مثالٌ آخَر لِمَا ذكرَهُ اللهُ تعالى مِن إخراجه لأوليائه مِن ظلمات الكُفر إلى نور الإيمان.





الآية 260:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى: أي: واذكر حين سألَ إبراهيمُ رَبَّهُ أن يُريَهُ طريقة الإحياءِ كيف تتم، فـ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى له: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾ بعد؟﴿ قَالَ بَلَى أنا مؤمن، ﴿ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾: أي: لأزدادَ يقينًا على يقيني، ولِكَي يَسْكُنَ قلبي ويهدأ من التطلع والتشوق إلى معرفة الكَيْفِيَّة، ﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ: أي: فاضْمُمْهُنَّ إليك واذبحْهُنَّ وقطعْهُنَّ، ﴿ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا: أي: ثم نَادِ عليهِنَّ يأتينَكَ مُسرعَات، ﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ رغمَ أنه كان مِن المُتَوَقع - بعدَ أنْ أراهُ اللهُ تعالى هذه القدرة - أن يقول له: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ على كل شيءٍ قدير)، ولكنَّ اللهَ تعالى أرادَ أن يُوَضحَ لإبراهيم عليه السلام أنه - سبحانه - لا يَهدي إلا مَن طلبَ منه الهداية بقلبٍ صادق، كما قال تعالى عن فِتيَة الكهف: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13]، فاللهُ تعالىأخبرَ أنهم لَمَّا آمنوا زادَهُم هُدًى على هُدَاهُم، وأنَّ إيمَانَهُ مكانَ سببَ هِدايتِهِم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ [يونس: 9]؛ ولذلك سألَ اللهُ تعالى إبراهيمَ - ابتداءً -: (أوَلم تؤمن)، فلما قال له إبراهيم: (بلى) مؤمن: أجابَهُ اللهُ لِمَا طلب؛ لأنه كان يَعلمُ أنَّ إبراهيمَ كانَ مُتَيَقنًا بإخبار اللهِ تعالى له، ولكنه أحَبَّ أن يُشَاهِدَ ذلك عيَانًا لِيَحْصُلَ له مَرْتَبَة: (عَيْن اليَقين)، وأما المُرتاب؛ فإنه لا يَهدِيهِ اللهُ أبدًا، بل يُضِلهُ، ويَزيدُهُضلالاً على ضلالِه، قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34]؛ فلذلك يَنبغي للعبد أنْ يُصَححَ نِيَّتَهُ فيَقول: (أنا أريدُ أن أفهم، أنا قد التَبَسَعَليَّ الأمر)، فإذا صَدَقَ في ذلك، فوَاللهِ - الذي لا إلهَ غيرُه - لَيُفَهِمَنَّهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيُعَلمَنَّه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ))؛(والحديثُ في صحيح الجامع برقم: 1415)، وقال اللهُ عزَّ وجلَّ في الحديث القدسِي: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ إِنْ خَيْرًا فخَيْر، وَإِنْ شَرًّا فَشَر)؛ (والحديثُ في صحيح الجامع برقم: 1905).



..........



من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف أ.د. التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف) واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.



رامى حنفى محمود

شبكة الألوكه الشرعية



تفسير الربع السادس عشر والسابع عشر من سورة البقرة بأسلوب بسيط



#2

افتراضي رد: تفسير الربع السادس عشر والسابع عشر من سورة البقرة بأسلوب بسيط

جزاكي الله خيرا حبيبتي

إظهار التوقيع
توقيع : حياه الروح 5
#3

افتراضي رد: تفسير الربع السادس عشر والسابع عشر من سورة البقرة بأسلوب بسيط

بارك الله فيك



قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
تفسير الربع الرابع والخامس من سورة البقرة بأسلوب بسيط امانى يسرى القرآن الكريم
القران الكريم كاملاً بصوت السديس .mp3 - استماع وتحميل Admin القرآن الكريم
القران الكريم كاملاً بصوت الحصري 2025 .mp3 - استماع وتحميل Admin القرآن الكريم
معجزات وفواءد سورة البقره قوت القلوب 2 المنتدي الاسلامي العام
مصحف الشيخ ماهر المعيقلي كاملاً بجودة عالية mp3 عاشقة الفردوس القرآن الكريم


الساعة الآن 06:46 PM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل