أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي تفسير الربع الثالث و الرابع من سورة النساء بأسلوب بسيط

تفسير الربع الثالث و الرابع  من سورة النساء بأسلوب بسيط



الربع الثالث من سورة النساء

الآية 23: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾: يعني حَرَّم الله عليكم نكاحَ أمّهاتكم (ويدخل في ذلك الجدَّات مِن جهة الأب والأم)، ﴿ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ (ويدخل في ذلك الحفيدات مِن جهة الابن والابنة)، ﴿ وَأَخَوَاتُكُمْ ﴾ (سواء الشقيقات أو اللاتي من جهة الأب أو اللاتي من جهة الأم)، ﴿ وَعَمَّاتُكُمْ ﴾ وهُم: أخوات آبائكم وأخوات أجدادكم أيضاً، ﴿ وَخَالَاتُكُمْ ﴾ وهُم: أخوات أمهاتكم وأخوات جدّاتكم أيضاً، ﴿ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ ﴾ (ويدخل في ذلك حَفِيدات الإخوة والأخوات)، ﴿ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ﴾ ﴿ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾، واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه (يَحرُمُ من الرِّضاع ما يَحرُمُ منالنَسب)، فكُل امرأة حُرِّمَتْ مِنالأقارب: حُرِّمَ مثلها مِن الرضاعة، بمعنى أنه كما حُرِّمَتْ عليه أمه التي ولدته، فإنّ أمه التي أرضعته حرامٌ عليه.

وكذلك أيّ بنت رَضَعتْ من زوجته فهي حرامٌ عليه (لأنها أصبحت ابنته من الرضاعة)، واعلم أن ابنته من الرضاعة هذه تَحْرُمُ أيضاً على أخيه (لأنه أصبح عَمَّها من الرضاعة)، وكذلك يَحرُم على هذه البنت أخو أمها من الرضاعة (لأنه أصبح خالها من الرضاعة).

وكذلك يَحْرُم على الرجل أخواته من الرضاعة (وهُم: بنات هذه المرأة التي رضع منها)، لكنهنّ لا يَحرُمْنَ على إخوته من النسب، وكذلك يَحرُم عليه خالاته من الرضاعة (وهُم: أخوات أمه التي أرضعته)، وكذلك يَحرُم عليه عمّاته من الرضاعة (وهُم: أخوات زوج المُرضِعة)، وكذلك يَحرُم عليه بنات إخوته من الرضاعة، وكذلك يَحرُم عليه بنات أخواته من الرضاعة، وبالنسبة لزوج المُرضِعة: فإنّ أخوات الطفل (الذي رضع من زوجته) لا يَحْرُمْنَ عليه.

ولكن اعلم أنه يُشترَط لهذا التحريم السابق أن يكون الطفل قد رضع منها خمس رضعات فأكثر (كما ثبت ذلك في السُنَّة)، وكذلك أن يكون عُمره لا يزيد عن سنتين (وهما الحَوْلان الكاملان)، أما إذا كانَ عدد الرضعات أقل من خمس، أو كانَ الطفل حينها أكبر من سنتين: فلا يَحرُم عليه أحد بسبب هذه الرضاعة، ويُلاحَظ أنّ الأخ من الرضاعة لا يَرث.

وحُرَّمَ عليكم كذلك: ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ﴾ سواء دخلتم بنسائكم، أم لم تدخلوا بهنّ ﴿ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾: يعني ويَحرُم عليكم بنات نسائكم(من غيركم) اللاتي يتربَّيْنَ غالبًا في بيوتكم وتحت رعايتكم، ولكنْ بشرط الدخول بأمهاتهنّ، ﴿ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾: يعني فإن لم تكونوا دخلتم بأمهاتهنّ وطلقتموهنّ أو مُتْنَ قبل الدخول: فلا جناح عليكم أن تنكحوهنّ، ﴿ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ﴾: يعني ويَحرُم عليكم زوجات أبنائكم الذين من أصلابكم (إذا فارقوهم أو ماتوا عنهم، سواء دخل الابن بها أو لميدخل)، وكذلك يَحرُم على زوج المرضعة أن يتزوج امرأة ابنه من الرضاعة.

وحُرَّمَ عليكم كذلك: ﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ﴾ بنسبٍ أو رِضاع ﴿ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ ومضى منكم في الجاهلية فإنه مَعفو عنه، بشرط عدم الإقامة عليه (وحينئذٍ يختار الزوج منهما مَن كانت تطيعه وتصاحبه بالمعروف، ويُفارق الأخرى بعد أن يُعطيَها حقها)، واعلم أنه لا يجوز كذلك الجَمع بين المرأة وعمتها أوالمرأة وخالتها (كما ثَبَتَ ذلك في السُنَّة)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾: يعني: وقد كتبَ اللهُ على نفسهِ أنه غفورٌ رحيم.

الآية 24: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ﴾: يعني ويَحرُمُ عليكم كذلك نكاح المتزوجات من النساء ﴿ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾: يعني إلا مَنْ أسَرتُم منهنّ في الجهاد،فإنه يَحِلّ لكم نكاحهنّ، ﴿ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾: يعني كتب الله عليكم تحريم نكاح هؤلاء ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾: يعني وأجاز لكم نكاح أيّ امرأة (غير هذه المُحَرَّمات) ممَّا أحَلَّهُ الله لكم، بشرط ﴿ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾: يعني أن تطلبوا بأموالكم العفة عن اقتراف الحرام، ﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ﴾: أي فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ مِن نسائكم بالنكاح الصحيح (لأنّ هذه الآية - والتي قبلها - كانت تتحدث عن النكاح، وعن ذِكر مَن يَحرُم نكاحُها ومَن تَحِلّ)، وذلك بدءاً من قوله تعالى: ( ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾)، إلى قوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾، وفي هذا رَدٌّ واضح على مَن يتجرأون على دين رب العالمين، ويَستحِلُّون ما يُسَمُّونه بـ (نِكاح المُتعة)، وهو في أصلِهِ زنا، وإنما أوقعَهم في هذا الإثم العظيم: سُوءُ فَهمِهم، واتباعُ أهوائهم.

﴿ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾: يعني فأعطوا نسائكم مهورهنّ، التي فرض اللهُ لهنّ عليكم، كما قال تعالى: ﴿ وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾، ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ﴾: يعني ولا إثم عليكم فيما تمَّ التراضي به بينكم - أيها الأزواج- من الزيادة أو النقصان في المهر، بشرط الاتفاق على مهرٍ محدد في البداية، وذلك ضماناً لحق الزوجة، بحيثُ يَرجع الأمر إليها، فترى: هل هذا الزوج يتقي اللهَ فيها ويعاملها معاملةً طيبةً يَستحق بسببها أن تتنازل له عن المهر (كله أو بعضه)، أو لا يستحق ذلك، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾.

الآية 25: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾: يعني ومَن لا قدرة له على مهور الحرائر المؤمنات: ﴿ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾: يعني فله أن يَنكح غيرهنّ، من فتياتكم المؤمنات المملوكات ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ﴾: يعني بحقيقة إيمانكم ﴿ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ ﴿ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ﴾: يعني فتزوجوهنّ بموافقة أهلهنّ، ﴿ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾: يعني وأعطوهنّ مُهورهنّ على ما تراضيتم به عن طِيب نفسٍ منكم، بشرط أن يَكُنَّ ﴿ مُحْصَنَاتٍ ﴾: يعني أن يَكُنّ بزواجهنّ هذا طالباتٍ للعِفة عن الحرام، ﴿ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ﴾: يعني وعليكم أن تجتنبوا اختيار الإماء المُجاهرات بالزنى، ﴿ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ﴾: يعني واجتنِبوا أيضاً اختيار مَن يتخذون أصدقاء (للزنى) سِرَّاً ﴿ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ﴾: يعني فإذاتزوجْنَ وأتيْنَ بفاحشة الزنى ﴿ فَعَلَيْهِنَّ ﴾ مِن الحدِّ ﴿ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ﴾: يعني نصف ما على الحرائر ﴿ مِنَ الْعَذَابِ وذلك في الشيء الذي يمكن تنصيفه، وهو جلد خمسين جلدة للأمَة البِكر (لأنّ البِكر الحُرّة تُجلَد مائة) وتغريبها (يعني إخراجها من قريتها) لمدة ستة أشهر فقط (بدلاً من سَنَة للبِكر الحُرّة)، أما الرَّجْم (الذي هو الموت) فإنه لا يمكن تنصيفه، فلذلك ليس على الإماء المتزوجات رَجْم، إنما عليهنّ تعزير (يعني تأديب وعقاب يَرْدَعُهُنّ عن فعل الفاحشة، وذلك بحسب ما يراه ولي الأمر مناسباً لذلك).

﴿ ذَلِكَ الذي أبيحَ لكم مِن نكاح الإماء إنما أبيحَ (﴿ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ﴾: يعني لمَن خاف على نفسه الوقوع فيالزنى، وشَقَّ عليه الصبر عن الجماع، ﴿ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾: يعني: والصبر عن نكاح الإماء مع العِفة أوْلَى وأفضل ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لكم ﴿ رَحِيمٌ ﴾ بكم إذ أذِنَ لكم في نكاحهنّ عند العجز عن نكاح الحرائر.

الآية 27: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ ويتجاوز عن خطاياكم، ﴿ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ ﴾: يعني وأما الذين يَنقادون لشهواتهم ومَلذاتهم فيريدون لكم ﴿ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾: يعني أن تنحرفوا عن الدين انحرافًا كبيرًا.

الآية 28: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾: يعني يريد الله تعالى - بما شرعه لكم مِن أحكام - أن يُيَسِّر عليكم،فقد ثبتَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذا خُيِّرَ بين أمرَين: يَختارُ أيْسَرَهما (ما لم يكن إثماً)، فليس معنى أنّ الدينَ يُسر، أنْ يفعل الإنسان ما حرمه الله، وإنما الدين يُسر في أحكامه وتكاليفه، فعلى سبيل المثال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري - : (ليكونَنَّ من أمّتي أقوامٌ يَستحِلّون الحِرَ - (والمقصود به الزنى) - والحرير - (أي يَستحِلون لِبْسَهُ للرجال) - ، والخمر، والمَعازف - (وهي الآلات الموسيقية))، فالذي أخبر بأن (الموسيقى) حرام، هو نفسه - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: (إن الدين يُسر).

﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾: يعني وذلك التيسير في الأحكام - وخصوصاً في أمر النكاح - لأنكم قد خُلِقتمضعفاء.

الآية 31: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ (وهو الجنة)، وبهذا قد ضمن الله تعالى لمن اجتنب الكبائر أن يُكفر عنه الصغائر من السيئات، وأن يُدخله الجنة، فلذلك وَجَبَ علينا البحث عن هذه الكبائر لكي يجتنبها المسلمون، وقد قال بعض العلماء أنّ عددها سَبع، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (هي إلى السبعين أقرب منها إلى السَبع).

هذا، وقد عرَّفها العلماء بأنها: كل ما وَرَدَ فيه حَدّ في الدنيا (كالقتل والزنا والسرقة)، أو جاء فيه وعيد في الآخرة (مِن عذابٍ أو غضبٍ أو تهديد أو لعْن فاعله)، مع التسليم بأنّ بعض الكبائر أكبر من بعض، علماً بأن صاحب الكبيرة لا يُكَفَّر.

هذا، وقد جمعها الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه: (الكبائر)، وقد رأيتُ - إتماماً للفائدة - أن أسوقها إليك مُختصَرة ومُبسَّطة:
(الشرك بالله (ومنه الذبح لغيرهِ تعالى) - قتل النفس - السحر - ترْك الصلاة - مَنْع الزكاة - إفطار يوم من رمضان بلا عذر - ترْك الحج مع القدرة عليه - عقوق الوالدين - هَجْر الأقارب - الزنا - اللُّواط (وهو فِعل قوم لوط) - أكْل الربا - أكْل مال اليتيم وظلمه - الكذب على الله عز وجل وعلى رسوله - الفرار من القتال - غش الإمام للرَعِيَّة وظلمه لهم - الكِبر والفخر والعُجْب والغرور - شهادة الزُّور (يعني يشهد على شيءٍ غير صحيح وهو يعلم أنه كاذبٌ، وكذلك مَن يحتفل بأعياد غير المسلمين، أو يَحضر مجالس الباطل (كالغيبة والنميمة والكذب) وهو موافقٌ لهم) - شُرب الخمر - القِمار - قذف المحصنات (يعني اتّهام نساء المسلمين بالزنا أو مقدماته، ومنه قول القائل: (يا ابن الزانية) أو ما شابَهَ ذلك) - الغُلول (وهو سرقة شيء مِن الغنِيمة قبلَ توزيعِها) - السرقة - قطع الطريق).

وكذلك من الكبائر: (اليمين الغَموس (وهو الحلف الكاذب الذي يغمس صاحبه في النار) - الظلم - المَكَّاس (وهو الذي يجمع الضرائب قهراً وظلماً، ولا يدخل في ذلك ما يراهُ ولي الأمر في مصلحة الدولة، أو في مصلحة المسلمين) - أكْل الحرام بأيّ وجهٍ كان - أن يَقتل الإنسانُ نفسه - الكذب في غالب أقواله - القاضي السوء - أخذ الرِّشوة على الحُكم - تَشَبُّه النساء بالرجال وتَشَبُّه الرجال بالنساء - الدَّيُّوث (وهوالمُستحسِن على أهلِهِ التَبَرُّج والفاحشة) - القوَّاد (وهو الساعي بين الاثنين بالفاحشة) - المُحَلِّل (وهو مَن يتزوج امرأة مُطلقة (ثلاث طلقات) بِنِيَّةِ تحليلها لزوجها الأول)، والمُحَلَّل له (وهو الزوج المُطلِق، الذي يعطي للمُحلِل أجراً ليفعل ذلك)).

وكذلك من الكبائر: (عدم الاستنجاء من البول (وعدم الاحتراز مِن رَذاذه أثناء التبول) - الرياء - تعَلُّم العِلم الشرعي طلباً للدنيا (إلا مَن كان ليس له مصدر رزق إلا ذلك، كإمام المسجد والخطيب والمُحَفِّظ، مع مراعاة أن ينوي بذلك العلم: الدعوة مع طلب الرزق) - كِتمان العلم - الخيانة - المَنَّان (الذي لا يُعطِي شيئاً إلا وتَفَضَّلَ به على مَن أعطَاه، سواء كانَ هذا التفضُّل باللسان أو بالقلب) - التكذيب بالقدَر - التجَسُّس على الناس - النَمَّام (وهو الذي ينقل الكلام بين الناس بغرض التوقيع بينهم) - اللَّعَّان (وهو الذي يُكثِر من لعْن الناس ولعْن الأشياء) - الغدْر وعدم الوفاء بالعهد - تصديق الكاهن والمُنَجِّم - نشوز المرأة على زوجها (يعني تمَرُّدها عليه، ومُعانَدَتِه وإسخاطه وعدم طاعته) - تصوير التماثيل).

وكذلك من الكبائر: (اللَّطْم والنِياحة - الاستطالة على الضعيف - أذى الجار - أذى المسلمين وَشَتْمهم - أذيَّة عباد الله والتطاول عليهم - تطويل الثوب للرجال (فخرا وكِبراً) - لبْس الحرير والذهب للرجال - هروب العبْد من سيده - فيمَن يُدْعَى (نَسَباً) إلى غير أبيه وهو يعلم أنه ليس أبيه (وكان راضياً بذلك) - الجدال بالباطل (يعني يجادل وهو يعلم أنه على باطل، ولكنه يفعل ذلك اتّبَاعاً لهواه) - مَنْع الماء (الزائد عن حاجته) عن الآخرين - الغش ونقص الميزان - الأمْن من مَكْر الله - الإصرار على ترك صلاة الجمعة والجماعة من غير عذر - الإضرار في الوصية (وقد تقدم ذلك في آيات المواريث) - المكر والخديعة - مَن دَلَّ الأعداء على المسلمين - سَبّ أحد الصحابة رضوان الله عليهم).

الآية 32: ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ في المواهب والأرزاق وغير ذلك، وإنما انظروا إلى مَن هو أقلّ منكم في النِعَم، وذلك حتى لا تحتقروا نعمة الله عليكم،واحرصوا على فِعل ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقد جُعِلَ ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ﴾: يعني نصيبٌ من الرزق (وذلك بحسب ما اكتسبوه من السَعي والأخذ بالأسباب)، ونصيبٌ من الثواب (بحسب ما اكتسبوه من الطاعة)، ونصيبٌ من العقاب (بحسب ما اكتسبوه من المعصية)، ﴿ وَلِلنِّسَاءِ ﴾ كذلك ﴿ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ﴾ من الأعمال، فبذلك رَدَّ سبحانه القضية إلى سُنَّتِهِ فيها وهي: (كَسْب الإنسان)، ونهَى عن التمني والحسد وترْك العمل.

ثم بَيَّنَ تعالى سُنَّةً أخرى في الحصول على المرغوب، ألاَ وهي الدعاء، فقال: ﴿ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ﴾: يعني وادعوا اللهَ أن يُعطيكم من فضله مثلما أعطى غيركم (إن كانَ ذلك خيراً لكم)، (وذلك مع الدعاء لهم بالبركة)، فمَن سألَ ربه وألَحَّ عليه مُوقناً بإجابته سبحانه (لِمَا فيه الخير له): فإن الله يوفقه للإتيان بالأسباب الصالحة، ويَصرف عنه الموانع والابتلاء، ويُعطيه بغير سببٍ إن شاء، فهو على كل شيءٍ قدير، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ إذ هو سبحانه أعلم بما يُصلِحُ حالَ عبادِهِ فيما قسَمَه لهم، وأنه وَزَّعَ المواهب والقُدرات في خَلقه (بين الرجل والمرأة)، وذلك حتى يتكامل المجتمع، ويتضح ذلك في أننا نجد الرجلعندما تَمْرَض امرأته أو تغضب - ويكون عنده طفلٌ رضيع - فهل يستطيع هو أن يُرضِعالطفل؟ طبعًا لا؛ لأنَّ لِكُلّ واحدٍ منهما مهمة معينة، فالعاقل هو مَن يَحترم مواهبَ اللهِ فيخَلقه.

واعلم أن سبب نزول هذه الآية: ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍأنَّ النساء قُلْنَ: (إننا لم يُكتَبْ علينا الجهاد، وأعطانا ربُّنا نصف الرجل منالميراث)، وقد أوضحَ اللهُ تعالى للمرأة أنها أخذتْ نصف الرجل لأنها محسوبةعليه، فهي لن تنفِق على نفسها، بل سيُنفق عليها الرجل،والمسألة بذلك تكون عادلة.

الآية 33: ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴾ هذه الآية منسوخة بآيات المواريث.

الآية 34: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ﴾ توجيه ﴿ النِّسَاءِ ﴾ ورعايتهنّ، وذلك ﴿ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾: يعني بسبب ما خَصَّهم الله به من خصائص القوامة والتكليف، ﴿ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾: يعني وبسبب ما أعطوهنّ من المهور، وكذلك بالإنفاق عليهنّ، ﴿ فَالصَّالِحَاتُ ﴾ المستقيماتعلى شرع الله لابد أن يَكُنّ: ﴿ قَانِتَاتٌ ﴾: يعني مطيعات لله تعالى ولأزواجهنّ (في غير معصية الله)، و﴿ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ ﴾: يعني حافظاتٌ لكل ما يُؤتمَنَّ عليه (وذلك في غياب أزواجهنّ)، ﴿ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾: يعني وذلك بحفظ الله تعالى لهنّ وإعانتهنّ على ذلك، لا مِن أنفسهنّ، فإنّ النفس أمارة بالسوء، ولو وُكِلَت المرأة إلى نفسها لا تستطيع حِفظ شيء وإنْ قَلّ، وإنما مَن ينوي فِعل الخير يُعطَهُ، وَمَن توَكَّلْ على الله كفاهُ ما أهَمَّهُ مِن أمْر دينه ودنياه، واعلم أنه يُفهَم من ثناء الله تعالى على هؤلاء الصالحات أنه يَجب على الرجل إكرام المرأة الصالحة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها.

﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ﴾: يعني واللاتي تخشون تكَبُّرهنّ عنطاعتكم: ﴿ فَعِظُوهُنَّ ﴾ بالكلمة الطيبة والمَوعِظة الحَسَنة، وبإعلامِهنّ الأشياءَ التي تُغضِبكم منهنّ، وبتخويفهنّ من العِصيان حتى لا يَقَعنَ في غضب الله ولعنتِه وعدم قبول أعمالهنّ، وحتى لا تضطروا إلى فِعل الأشياء التي تغضبهنّ، ﴿ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ﴾: يعني فإن لم تنفع معهنّ النصيحة الطيبة، وأصرَرنَ على مَعصيتكم ومعاندتكم: فاهجروهنّفي الفِراش، ولا تُكلِموهنّ (إلاَّ لِضرورة)، وذلك حتى يَنتهيْنَ عن ذلك، ويَندمنَ على مُخالفتكم، فإن لم يُؤثر الهَجْر فيهنّ: ﴿ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾ ضربًا لاضرر فيه، فلا تضربوهنّ على الوجه، ولا ضرباً يؤثر في عظمٍ أو جِلد، ﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ ﴾، وتُبْنَ عن عِصيانكم: ﴿ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ﴾: يعني فاحذروا ظلمهنّ فـ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾: أي فإنّ الله العليَّ الكبير هو وليُّهن، وسوف ينتقمُ مِمَّن ظلمهنَّ.

الآية 35: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ يا أولياء الزوجين ﴿ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ﴾: يعني إِنْ خِفْتُمْ حدوث خِلاف بين الزوجين يؤدي إلى فراقهما (بعد اتباع جميع الوسائل السابقة): ﴿ فَابْعَثُوا ﴾ إليهما ﴿ حَكَمًا ﴾ عدلا ﴿ مِنْ أَهْلِهِ ﴾: يعني من أهل الزوج، ﴿ وَحَكَمًا ﴾ عدلاً ﴿ مِنْ أَهْلِهَا ﴾: يعني من أهل الزوجة; لينظرا ويَحكمابما فيه المصلحة لهما، فـ﴿ إِنْ يُرِيدَا ﴾ أي هذان الحَكمان ﴿ إِصْلَاحًا ﴾ بين الزوجين، ويستعملا الأسلوبالطيب في الصُلح، ويُخَوِّفوهم من هَدم البيت وتشريد الأولاد: ﴿ يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾: يعني بين الزوجين ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا ﴾ لا يَخفى عليه شيءٌ من أمرعباده ﴿ خَبِيرًا ﴾ بما تنطوي عليه نفوسهم.


الربع الرابع من سورة النساء




الآية 36: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده، وانقادوا له في جميع أوامره، واعلم أنّ العبادة قد عرَّفها ابن تَيْمِيَة رحمه الله بأنها: (هي اسمٌ جامع لكل ما يُحبه اللهُ ويَرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)، وعَرَّفها ابن القَيِّم رحمه الله بأنها: (هي كمال الحب مع كمال الذل)، وحتى تحقق ذلك بإذن الله تعالى: لا بد أن تتذكر نعم الله عليك حتى تحب اللهَ تعالى، ثم تتذكر أنك تقابل هذه النعم بالمعاصي، فتكره نفسك الأمَّارة بالسوء، فحينها تذِلّ لله تعالى وتنكسر بين يديه قائلاً: (أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، هذه هي بداية الطريق إلى الله، لأنّ رؤية النعم ورؤية الذنوب تستوجبُ الذلَّ والانكسار والفقر التام بين يدي الله تعالى، والتوبة إليه سبحانه في كل وقت، فلا ترى نفسك إلا مٌفلساً، وأنه لو تخلى عنك سبحانه طرفة عين: لهَلَكْتَ وخَسِرتَ خسارةً لا تُجبَرُ إلا أن يَتداركك الله برحمته.

هذا، وقد جَمَعَ النبي صلى الله عليه وسلم بين رؤية النعم ورؤية الذنوب حينما كان يقول: (سبحان الله وبِحَمدِه أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه)، عِلماً بأن (سبحان الله وبحمده) تعادل في المعنى (سبحان الله والحمد لله)، وقد كان أحد السلف دائماً يقول: (الحمد لله أستغفر الله)، فقال له أحد جُلَسائِه: (ألاَ تُحسِنُ غيرَ هذا؟)، فقال له: (بل أُحسِنُ الكثير، ولكنني رأيتُني أتقلبُ بين نعمةٍ وذنب)، فهو بذلك يُعِدُّ حمداً كثيراً ليساعده في سؤال النعم، كما يُعِدُّ استغفاراً كثيراً ليساعده في سؤال الذنوب.





﴿ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا لا شِركاً أصغر (كالرياء والحلف بغير الله)، ولا شركاً أكبر (كَشِرك العبادة)، فلا يُشركون معه مَلَكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً (والنشور هو البعث بعد الموت)، واعلم أن الله لا يَغفر أن يُشرَكَ به (إلا إذا تاب العبد من الشرك قبلَ موتِه).

﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾: يعني: وعليكم بتأدية حقوق الوالدين (وذلك بالقول الكريم اللَيِّن، وبطاعة أمْرهما - في غير معصية الله - وبالإنفاق عليهما، وإكرام صديقهما ومَن له تعلق بهما، وصلة رَحِمِهما، والدعاء لهما، وطلب رِضاهما)، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 3507)، فاعلم أنه لن يَرضى عنك الله سبحانه وتعالى حتى يَرضى عنك والداك (ولو كنتَ أعبَد أهل الأرض)، ﴿ وَبِذِي الْقُرْبَى ﴾ إِحْسَانًا ﴿ وَالْيَتَامَى ﴾ ﴿ وَالْمَسَاكِينِوهم مَن لا مالَ لهم ولا كَسْب، وكذلك مَن لهم مالٌ وَكَسْب (ولكنهم لا يَسُدُّون كفايتهم وكفاية مَن يَعُولُونهُم)، ﴿ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وهو الجار القريب منكم، واعلم أن الجار إذا كان من الأقارب، فإن له حق الجُوار، وحق القرابة، ﴿ وَالْجَارِ الْجُنُبِ ﴾ وهو الجار البعيد عنكم، وكذلك الجار الذي ليس له قرابة، واعلم أنه كلما كان الجار أقربُ بابًا، كلما كان أأكد حقًّاً، فينبغي للمسلم أن يتعاهد جاره بالهدية والدعوة، واللطف في الأقوال والأفعال، وعدم أذيَّتِه بقولٍ أو فِعل، ﴿ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ﴾ وهو الصاحب المُلازم الذي لا يُفارَق؛ كالزوجة، والمرافق في السفر والحَضَر والعمل وطلب العلم، ﴿ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ وهو المسافر المحتاج، ﴿ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ وهم المماليك من فِتيانكم وفَتياتكم.

فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لأمر ربه، المتواضع لعباد الله، الذي يحبه الله، ومَن لم يقم بذلك فإنه عبدٌ مُعرضٌ عن ربه، غيرُ متواضعٍ للخَلق، ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا ﴾: أي مُعجَباً بنفسه متكبرًا على الخلق ﴿ فَخُورًا ﴾: أي يمدح نفسه على سبيل الفخر، فهذا الكِبر والفخر يمنع هؤلاء من القيام بحقوق الله وحقوق الآخرين، ولهذا قال تعالى بعدها: ﴿ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾: أي من المال والعِلم وغير ذلك.


الآية 41، والآية 42: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ يكون حال الناس يوم القيامة ﴿ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾ وهو رسولها ليشهد عليها بما عملتْ، ﴿ وَجِئْنَا بِكَ ﴾ أيها الرسول لتكونَ ﴿ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ أنك قد أبلغتَهم رسالة ربِّك، فـ ﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ﴾: يعني يتمنون لو أنّ اللهَ يجعلهم والأرض سواء، فيَصيرون ترابًا، حتى لا يُبعَثوا ﴿ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ﴾: يعني وهم لا يستطيعون أن يُخفوا عن الله شيئًا مما في أنفسهم، إذ ختم اللهُ على أفواههم، وشَهِدَتْ عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون.

واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بكى عندما قرأ عليه عبد الله بن مسعود هذه الآية، ولِذا يَحضرني هنا قول أحد الدُعاة: (فإذا كان الشاهدُ قد بَكى، فما بالُ المشهودِ عليهِ لا يَبكي؟).

الآية 44: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ﴾ وهم اليهود الذين أُعطاهم الله علماً من التوراة ﴿ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ ﴾: يعني يستبدلون الضلالة بالهدى، ويتركون ما لديهم من الحجج والبراهين الدالة على صِدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ﴾: يعني ويتمنون لكم - أيها المؤمنون المهتدون - أن تنحرفوا عن الطريق المستقيم; لتكونوا ضالين مثلهم.

الآية 46: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا ﴾: يعني: من اليهود فريقٌ ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾: يعني اعتادوا على تبديل كلام الله وتغييره عمَّا هو عليه (افتراءً على الله)، ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ سَمِعْنَا ﴾ قولك ﴿ وَعَصَيْنَا ﴾ أمرك ﴿ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ﴾: يعني واسمع منَّا لا استطعتَ السماع، ﴿ وَرَاعِنَا ﴾ سَمْعَك، أي: افهم عنا وأفهِمنا، ولكنهم يقولونها ﴿ لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّين ﴾:ِ يعني يَلوون ألسنتهم بذلك، وهم يريدون الدعاء عليه بالرُعُونة (وهي الحُمق والطَيش)، ويريدون بذلك الطعن في دين الإسلام مِن خلال شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم.

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا بدلاً من "سمعنا عصينا"، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿ وَاسْمَعْ ﴾ دونَ "غير مُسمَع"، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿ وَانْظُرْنَا ﴾ بدلاً من "راعنا" ﴿ لَكَانَ ﴾ ذلك ﴿ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ ﴾: يعني وأعدل قولاً ﴿ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾: أي ولكنَّ اللهَ طردهم من رحمته، بسبب جحودهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا ﴾ إيماناً ﴿ قَلِيلًا ﴾ لا ينفعهم (كإيمانهم بموسى وهارون، والتوراة (التي أنزِلَت على موسى)، والزَبور (الذي أنزِل على داوود))، ولكنَّ كفرَهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أضاع هذا الإيمان، لأنّ مَن كفر برسولٍ من الرسل فقد كفر بسائر الرُسُل، كما قال تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾، ولم يقل: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ رسولهم ﴾.

الآية 47: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وهذه صِفةُ مَن كان عالما بجميع التوراة ﴿ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا من القرآن ﴿ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ﴾ من الكتب، لأنه يجب عليكم أن تكونوا مُبادرين إليه قبلَ غيركم، بسبب ما أنعم الله به عليكم من العلم والكتاب، ولهذا تَوَعَّدَهم اللهُ على عدم الإيمان فقال: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ﴾: يعني من قبل أن نمحو وجوهكم، ثم نجعل الوجه مكان القَفا، والقَفا مكان الوجه، ﴿ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ﴾: يعني أو نلعنهم - بِمَسخِهِم قِردَةً وخنازير - كما لعنَّا اليهود مِن أصحاب السبت، الذين نُهُوا عن الصيد فيه فلم ينتهوا، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾: يعني نافذًا في كل حال، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.

واعلم أنَّ قولَه تعالى: ﴿ من قبل أن نطمسَ وجوهاً ﴾ فيه إشارة إلى أنه متى وقع منهم إيمانٌ قبل الطَمْس: أخَّرَهُ عنهم، وقد آمَنَ بعضهم كَعَبدِ الله بن سَلَام وأصحابه، فرُفِعَتْ عنهم هذه العقوبة بسبب إيمانِ بعض علمائهم.

الآية 49: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ وهم اليهود يُثنون على أنفسهم وأعمالهم،ويَصفونها بالطُهر والبعد عن السُوء؟ ﴿ بَلِ اللَّهُ ﴾ تعالى هو الذي ﴿ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ﴾ مِن عباده، لِعِلمِهِ بحقيقة أعمالهم، ﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾: يعني ولا يُنقَصون من أعمالهم شيئًا، ولو كان مقدار الخيط الذي يكون في شق نَواة التمرة.

الآية 51: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ﴾ وهم اليهود، فإنهم ﴿ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ﴾: يعني يُصدقون ويُقِرُّون بصِحة عبادة كل ما يُعبَدُ من دون الله - من الأصنام والكَهَنة والسَّحَرة وشياطين الإنس والجن - تصديقاً يَحمِلهم على تحكيم غير شرع الله، ﴿ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾: يعني وهؤلاء اليهود يقولون لِمُشرِكي العرب (الذين لم ينزل عليهم أيّ كتاب): ﴿ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ﴾: يعني دينكم - يا مُشرِكي العرب - خيرٌ من دين محمد، وأنتم أفضلُ طريقاً وأكثر هِداية - في سلوككم وحياتكم والاجتماعية - من أولئك الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

مع أنَّ في كتابهم إبطالَ الشِرك وَهَدْمه، ولكنْ ما حَمَلهم على ذلك القول إلا الكفر والحسد وبُغض النبي محمد، فما أشدّ عنادهم وأقلّ عقولهم! فهل يُفَضَّلُ دينٌ قام على (عبادة الأصنام، وتحريم الطيِّبات، وإباحة الخبائث، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية الخالق بالمخلوقين)، على دينٍ قام على (عبادة الرحمن وحده لا شريك له، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق، حتى البهائم، وإقامة العدل بين الناس، وتحريم الظلم والخبائث، والصدق في جميع الأقوال والأعمال)؟

ويُلاحَظ هنا أن الله تعالى قال: ﴿ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ﴾، رَغمَ أنه كانَ مِن المُتوَقَّع أن يقول: ﴿ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أنتم أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ﴾، أي بصيغة الخطاب، اتفاقاً مع سِياق الآية، ولكنه سبحانه أراد أن يُوضح أن اليهود يقولون ذلك القول أمام مشركي العرب وفي غيبتهم، وهو ما يُسَمَّى: (حكايةً لِمعنى القوْل)، فكأنه تعالى حكى أن اليهود - حين تناجَوا فيما بينهم - قال بعضهم لبعض في شأن أهل مكة: (هؤلاء العابدون للأصنام أهدَى مِنمحمدٍ وأصحابه).

الآية 52: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ﴾: يعني طردهم من رحمته ﴿ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ﴾ ينصره، ويدفع عنه سوء العذاب.

واعلم أنه لا يجوز أن يقول الرجل لأخيه: (يا ملعون)، أو: (اللهم العن فلاناً) - طالما أنه مسلم ناطقٌ بالشهادتين -، لأن اللعن هو الطرد من رحمة الله، وأنت - بِقوْلك هذا - قد حَكمتَ عليه بالطرْد من الرحمة، فاحذر أن تقول ذلك حتى لا تُرَدّ الكلمة عليك فتُطرَد أنت من الرحمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خرجتْ اللعنة مِن فِي - (يعني مِن فم) - صاحبها: نظرتْ، فإن وَجَدَتْ مَسلكاً في الذي وُجِّهَتْ إليه، وإلاَّ عادت إلى الذي خرجتْ منه) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 502)، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة: ألاَّ نلعنَ شخصاً بعينه، وألاَّ نَحكم عليه بالرحمة أو الشهادة أو الجنة أو النار، إلا مَن شهد له الله ورسوله بذلك.

الآية 53: ﴿ أَمْ لَهُمْ ﴾: يعني أم لهؤلاء اليهود ﴿ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ﴾؟ فيفضِّلون مَن شاءوا على مَن شاءوا بمجرد أهوائهم؟ وهذا استفهام استنكاري (يعني ليس لهم ذلك) ﴿ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ﴾: يعني ولو أنه قُدِّرَ أنَّ لهم نصيباً من المُلك لَمَا أعطوا أحدًا منه شيئًا، ولو كان مقدارالنُّقرةالتي تكون في ظهر نَواة التمرة، (وهي عبارة عن ثقب صغير يُضرَب به المثل في صِغَرِه)، وذلك لِشدة بُخلهم.

الآية 54، والآية 55: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾: يعني أم يحسدون محمدًا صلى الله عليه وسلم على ما أعطاه الله من نعمة النُبُوَّة والرسالة، ويحسدون أصحابه على نعمة التوفيق إلى الإيمان،واتِّباع الرسول، والتمكين في الأرض، ويتمنون زوال هذا الفضل عنهم؟، بلِ اللهُ يَختص برحمته من يشاء، وذلك ليس بغريبٍ على فضل الله تعالى ﴿ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾: يعني فقد أعطينا إبراهيم وذريته الكتاب (كَصُحُف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل)، وأعطيناهم الحكمة (وهي السُنَّة التي كانت لأولئك الأنبياء يَتلقونها وَحياً من الله تعالى، وكلها عِلمٌ نافع وحُكمٌ صائبٌ سديد)، وكذلك أعطينا المُلك الواسع لبعضهم (كَداوودَ وسليمانَ عليهما السلام)، فإنعامُهُ تعالى لم يَزَلْ مستمرًا على عباده المؤمنين، كل هذا يَعرفه اليهود، فكيف يُنكِرون إنعامَهُ تعالى بالنُبُوَّة والنصر والمُلك لمحمد صلى الله عليه وسلم (أفضل الخلق، وأعظمهم مَعرفةً بالله وأخشاهم له)، ويحسدونه على ذلك؟، ﴿ فَمِنْهُمْ ﴾: أي فمِن هؤلاء اليهود ﴿ مَنْ آَمَنَ بِهِ ﴾: أي آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعمل بشرعه، كعبد الله بن سلام وأصحابه، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ﴾: يعني ومنهم مَن أعرض عنه ولم يستجب لدعوته، ومَنَعَ الناس مِن اتِّباعِه، ﴿ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ﴾: يعني وحسبكم - أيها المكذبون - نار جهنم تُسَعَّر بكم (يعني تُوقَدُ عليكم وتفورُ بكم) يوم القيامة.


من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف أ.د. التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف) واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

رامى حنفى محمود

شبكة الألوكه الشرعية


تفسير الربع الثالث و الرابع  من سورة النساء بأسلوب بسيط




#2

افتراضي رد: تفسير الربع الثالث و الرابع من سورة النساء بأسلوب بسيط

جزاكِ الله خير

إظهار التوقيع
توقيع : العدولة هدير


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
تفسير الربع السابع والثامن من سورة آل عمران بأسلوب بسيط امانى يسرى القرآن الكريم
تفسير الربع الرابع عشر والخامس عشر من سورة البقرة بأسلوب بسيط امانى يسرى القرآن الكريم
القران الكريم كاملاً بصوت السديس .mp3 - استماع وتحميل Admin القرآن الكريم
ترتيب السور حسب النزول فتاة بالحياء تجملت القرآن الكريم
مسابقة عدلات الدينية السؤال الثالث شقاوة آنثى المنتدي الاسلامي العام


الساعة الآن 10:36 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل