حياة شيخ الأزهر محمد الخضر حسين توفي 13
في رجب 1377 هـ (1958م) .
الشيخ الخضر حسين علم من أعلام الدعوة والإصلاح، متعدد المواهب فهو داعية وفقيه ولغوي وأديب وشاعر
وكاتب ناقد ومفكر واع. اشتغل بالتعليم فدرّس في الزيتونة والأزهر وأصدر المجلات العلمية والدعوية وكتب فيها وتولى
رئاسة تحريرها وشارك في تكوين الجمعيات المدنيّة، وألقى المحاضرات والخطب في المؤتمرات و الندوات.
كان له عناية فائقة باللغة العربية وعلومها مما أهله لعضوية المجامع العلمية واللغوية في القاهرة ودمشق،
وهو صاحب أسفار ورحلات من تونس إلى الجزائر ودمشق واستنبول وألمانيا ومصر.
والشيخ تونسي من أصل جزائري جاء إلى مصر فحصل على الجنسية المصرية ونال درجة العالمية بالأزهر
ودرّس بكلية أصول الدين ونال عضوية هيئة كبار العلماء وتولى مشيخة الأزهر.
ناضل بقلمه في الحركة الفكرية المعاصرة فكتب في كل ما أثير في عصره وواجه كل صنوف الغزو الثقافي، والبغي السياسـي، والانحـلال الخلقي.
أجمع معاصروه وتلامذته ودارسوه من بعده على غزارة علمه ومعارفه، ومكارم أخلاقه، وطهارة سريرته، وأنه أوقف حياته بليلها ونهارها لخدمة الإسلام، ويدلنا على هذا الأمر إنتاجه الغزير، وعطاؤه الوفير، وسيرته العطرة.
نشأته:
اسمه: محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر الشريف التونسي
ولد الشيخ محمد الخضر حسين في بلاد نفطة في تونس في 26 من رجب سنة 1293هـ، الموافق16 أغسطس 1876م وهو من أسرة كريمة أصلها من الجزائر.
وهذه الأسرة عريقة في العلم والشرف، وقد رحل والده من الجزائر إلى (نفطة) بتونس بصحبة صهره (مصطفى بن عزوز) حـيــنـمـا دخل الاستعمار الفرنسي الجزائر، ومما يدل على عراقة أسرته في العلم أن منها جده (مصطفى بن عزوز) وأبو جده لأمه (محمد بن عزوز)، من أفاضل علماء تونس، وخاله (محمد المكي) من كـبـار الـعـلـماء وكان موضع الإجلال في الخلافة العثمانية.
حفظ القرآن الكريم صغيراً، وانتقل مع عائلته عام 1305 هـ وهو في الثانية عشرة من عمره إلى تونس العاصمة، وتلقى العلم على علماء الزيتونة، ومن أبرزهم: سالم بو حاجب، عمر بن عزوز، محمد النجار، مصطفى رضوان، إسماعيل الصفا، وحصل على شهادة التطويع عام 1321 هـ.
رحل سنة 1903 م إلى الجزائر، ثم عاد إلى تونس فأنشأ سنة 1904م أول مجلة عربية ظهرت فيها هي مجلة «السعادة العظمى»، فحرر أغلب مقالاتها، وأصدر منها (21) عدداً، ثم توقفت سنة 1905 م لأسباب مالية، وتولى القضاء في «بنزرت» أشهراً، ثم عاد للتدريس في الزيتونة سنة 1906م، وعُيِّن سنة 1908م مدرساً في المدرسة الصادقية وخطيباً في جامع الخلدونية.
رحل سنة 1912م إلى حي الميدان في دمشق حيث استقر إخوته: (زين العابدين، ومحمد الجنيدي، ومحمد العروسي، ومحمد المكي)، وزار في أثناء رحلته مالطة، والإسكندرية، والقاهرة، وبورسعيد، ويافا، وحيفا.
وانتقل من دمشق إلى بيروت، ثم استنبول لزيارة خاله محمد المكي بن عزوز، ثم عاد إلى تونس وقد فُصِل من التدريس في المدرسة الصادقية، فارتحل إلى الشام ماراً بمصر، فصار مدرساً بالمدرسة السلطانية وبالجامع الأموي، وبدأ كتابة المقالات.
ولما تولى جمال باشا حكم سورية أدخله السجن سنة 1916م إلى سنة 1917م، وعاد بعد خروجه منه للتدريس، ثم استدعي إلى مركز الخلافة للعمل منشئاً ( كاتبا للغة العربية) بوزارة الحربية، وأوفد سنة 1918م إلى برلين مرتين بصحبة عدد من العلماء، الأولى تسعة أشهر تعلم في أثنائها الألمانية، واتصل مع النازحين السوريين من ظلم الفرنسيين، وأخرى أقام فيها سبعة أشهر، ثم عاد إلى دمشق مدرساً بالسلطانية
والأموي وجامع المصلى.
وعيّن سنة 1919م عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق مع محمد بن أبي شنب وحسن حسني عبد الوهاب وماسينيون وبروكلمان.
الاستقرار في مصر
ولما وقع الاحتلال الفرنسي لسورية سنة 1920م (1339 هـ) رحل إلى مصر نهائياً، جاء إلى القاهرة حين كانت مستقر العلماء، وقادة التحرير، وزعماء الإصلاح في العالم العربي والإسلامي، حيث فتحت لهم ذراعيها، وأحسنت استقبالهم، وأكرمت وفادتهم، فقدم من الدولة العثمانية شيخ الإسلام "مصطفي صبري" ووكيله "محمد زاهد الكوثري"، ومن الشام "طاهر الجزائري" و"محمد كرد علي" و"شكيب أرسلان"، ومن بلاد المغرب العربي "علال الفاسي" و"محمد الخضر حسين" و"البشير الإبراهيمي" وغيرهم.
واستقر بعضهم في القاهرة واتخذها وطنًا له، وعمل في مؤسساتها، وتبوأ المناصب العليا في الدولة، مثل الشيخ "محمد الخضر الحسين"، الذي قدِم من تونس إلى القاهرة، ونال الجنسية المصرية عام 1932م وأقام بها وعمل في هيئاتها ومؤسساتها العلمية حتى اختير شيخًا للجامع الأزهر.
وصل الشيخ الخضر حسين إلى القاهرة عام 1339 م في زيارته الأخيرة لها، فوجد بها صفوة من أصدقائه الذين تعرف عليهم بدمشق ومنهم: (محب الدين الخطيب) ونظراً لمكانته العلمية والأدبية اشتغل بالكتابة والتحرير، وكان العلامة (أحمد تيمور) من أول من قدر الشيخ في علمه وأدبه، فساعده وتوطدت العلاقة بينهما، ثم كسبته دار الكتب المصرية فعمل بالقسم الأدبي بها، مع نشاطه في الدروس والمحاضرات.
وقدم للأزهر ممتحناً أمام لجنة من العلماء اكتشفت آفاق علمه، فأعجبت به أيما إعجاب فنال على أثر ذلك (العالمية) فأصبح من كبار الأساتذة في كلية (أصول الدين والتخصص) لاثنتي عشرة سنة.
وفي عام 1344 هـ أصدر كتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) رد فيه على الشيخ (علي عبد الرزاق) فيما افتراه على الإسلام من دعوته المشبوهة للفصل بين الدين والدولة.
وفي عام 1345 هـ أصدر كتابه (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) رداً على طه حسين فيما زعمه في قضية انتحال الشعر الجاهلي وما ضمنه من افتراءات ضد القرآن الكريم.
وفي عام 1346 هـ شارك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وفي السنة نفـسـهـا أسـس جمعية (الهداية الإسلامية) والتي كانت تهدف للقيام بما يرشد إليه الدين الحنيف من علم نافع وأدب رفيع مع السعي للتعارف بين المسلمين ونشر حقائق الإسـلام ومـقـاومـة مـفـتـريات خصومه، وصدر عنها مجلة باسمها هي لسان حالها.
وفي عـام 1349 هـ صـدرت مـجـلة (نور الإسلام - الأزهر حالياً) وتولى رئاسة تحريرها ثلاثة أعوام.
وفي عام 1351هـ، 1932م منح الجنـسـية المصرية ثـم صـار عـضـواً بالمجمع اللغوي بالقاهرة، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة (لواء الإسلام) مدة.
وفي عام 1370هـ تـقـدم بطـلـب عضوية جمعية كبار العلماء فنالها ببحثه (القياس في اللغة).
في مشيخة الأزهر
بعد قيام ثورة يوليو 1952 م كان منصب شيخ الأزهر شاغرًا، وفي يوم 21 من ذي الحجة عام 1371 هـ وقع الاختيار على الشيخ "الخضر" شيخا للأزهر، تولى الشيخ المنصب الكبير، وفي ذهنه برنامج إصلاحي كبير للنهضة الإسلامية التي يتطلع إليها العالم الإسلامي، لكنَّ رجال الحكم لم يتركوا الشيخ يعمل في هدوء، ووضعوا العراقيل في طريقه، وشعر الشيخ بضغوط تحُول بينه وبين ما يريد أو تَطلب منه تنفيذ ما لا يرضيه، فتقدم باستقالته في (2من جمادى الأولى سنة 1373هـ، 7من يناير1954م) قائلاً كلمته الشهيرة "يكفيني كوب لبن وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء". وذكر البعض أنه استقال احتجاجاً علي إلغاء القضاء الشرعي ودمجه في القضاء المدني.
ويذكر له أنه حينما تولَّى مشيخة الأزهر لم يغير شيئًا من عاداته، ولم يكن له في شهوات المنصب من حظ، وكان دائمًا يحتفظ باستقالته في جيبه، ويقول: "إن الأزهر أمانة في عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأتَ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص".
من روائع كلامه
- إن الدين الاسلامي يقوّمُ العقيدة ويصلحها، ومتى استقامت العقيدة وصلحتْ، أقامت على المرء رقيباً منه عليه في حركاته وسكناته، وفي سرَّه وعلانيته، وجعلت قلبه عرشاً لحكومة ساهرة، حاكمها قدير عادل، عينه لا تنام، وملكه لا يرام.
- كان العرب قبل البعثة المحمّدية في ظلمات من العقائد الزائغة، والمزاعم الساقطة، والعادات المستهجنة، والأعمال المنكرة، ولكن كان لهم مع هذا الجهل والضلال مزايا ومفاخر لا يستهان بها كالكرم، والشجاعة، وإباء الضيم، والوفاء بالعهد، والطّموح إلى الْعِزَّة، وإذا أضفتَ إلى هذا بلاغة القول، وحسن البيان، بدا لك جانب من حكمة اختيار الله تعالى لأن يكون العرب أول من ينهض لنصرة هذا الدين العام، وإبلاغه إلى غيرهم من الأمم.
- إن التشريع الاسلامي يوافق حال كل عصر، ولو نظر إليه غير المسلمين بالعين التي ينظرون بها إلى القوانين الوضعية، وقارنوا بينه وبين تلك القوانين مقارنة رائدها البحث عن الحقيقة، لرأوه رأي العين كيف يأخذ بالعدل من أطرافه، ويعطي كل ذي حقٌّ حقّه.
- قرر الاسلام في معاملة الأمم التي يضمها تحت حمايته حقوقاً تضمن لهم الحرية في ديانتهم، والفسحة في إجراء أحكامها بينهم، وإقامة شعائرها بإرادة مستقلة، فلا سبيل لأولي الأمر على تعطيل شعيرة من شعائرهم.
- شأن علماء الشريعة أن يكونوا حفّاظاً على خزائن الدين، لا يبالون بما يلاقون في حفظها من الأذى كالسجن، وضرب السياط، والقتل، والإخراج من البلد الذي استقر أمرهم فيه، والعزل من الوظيفة.
- وإذا حدثنا التاريخ عن أمة ذلّتْ بعد عِزَّة، أو دولة سقطت بعد قوة، فتبعة ذلك الذلّ أو السقوط ملقاة على رقاب أولئك العلماء الذين لا ينصحون، أو الرؤساء الذين لا يحبون الناصحين.
- ومن الذي لا يعلم أن معاهدَ تقام في اوطاننا باسم العلم، أو العطف على الإنسانية، والغاية منها صدْ النفوس عن صراط الله السويّ، دلّ على هذا كتب يدرّسونها في هذه المعاهد، وهي كما قرأنا نبذاً منها محشوة بالطعن في الاسلام، وَالحطّ من شأن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
- إن من الأسباب التي جعلت كثيراً من شبابنا يسرفون في إكبارِ رجال أوروبا، ولا يرفعون رأسهم فخراً بعظماءُ الشرقِ، أنهم لم يدرسوا تاريخ عظمائنا بعناية وروية وإنصاف.
- ودلت التجارب أن زائغ العقيدة متى ملك سلطة، فتن الأمة في دينها وانتهك حرمات شريعتها ولم يخلص النظر في إصلاح أمرها ولاقى منه المؤمنون اضطهادا، والجاحدون أصحاب الأهواء مناصرة، فيكون داعيا عمليا إلى الخروج على الدين، فتموت الفضيلة والغيرة على الحقوق العامة ويتقطع حبل اتحاد الأمة إربا.
- وليس في حماية الفتاة من الاختلاط بغير محارمها، تضييقٌ لدائرة الحياة في وجهها، وإنما هو احتفاظ بكرامتها، وتوفير لهنائها؛ إذ بصيـانتها عن الاختلاط تعيش بقلب طاهر، ونفس مطمئنة، وبهذه الصيانة تزيد الصلة بينها وبين زوجها، وأولي الفضل من أقاربها متانةً وصفاءً.
- ولا إغراق في الشهوات أكثر من تخلية السبيل للنساء يخالطن الرجال، ويبدين لهن ما بطن من زينتهن، دون أن تلتهب في نفس أبيها أو أخيها أو زوجها غيرةٌ حامية.!
- إنّ الرجل والمرأة كالبيت من الشِّعرِ، ولا يَحسُنُ في البيت من الشعر أن يكونَ شَطرُه مُحْكَمًا والشطر الآخر مُتخاذِلًا!
- الشقاق يبعد ما بين النفوس، ويذهب بروح التناصر، فيفعل بالجند ما لا يفعله بهم عدو شاكي السلاح
- الحقوق في دولة الحرية تؤخذ بصفة الاستحقاق، وفي دولة الاستبداد لا تطالب إلا بصفة الاستعطاف
- وأي شيء أعظم أثراً في سعادة الانسان من أن يكون على ذكر من نِعَم الله عليه؟ إِذْ ذِكْرُ نِعَم الله يملأ القلب بإجلاله، ويدعو إلى شكرها بحسن الطاعة، وشكرها يستدعي المزيد منها، ويكسب صاحبه الظفر برضا من بيده مقاليدها، ومن ظفر برضا وليِّ النِعم، فقد جمع الخير من أطرافه.
- وطالما حاد أكثر الناس بالخطب عن سيرتها في عهد النبوة، فبعد أن كان الخطيب يصور المعاني بفكره، ويكسوها ألفاظاً من عنده، ثم يلقيها مقبلاً على الناس ببصره، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، صار الخطيب يبحث عن خطبة صدرت عن قريحة غير قريحته، وكتبت بقلم غير قلمه، فيقف ممسكاً لها بيده، مقلباً فيها وجهه، ولا مرية أن الخطبة التي تصدر من قلب الخطيب، مصوغة في عبارات من صنعه، هي أجدى نفعاً، واعظم أثراً، من خطبة يستعيرها من غيره.
مؤلفاته:
ترك الشيخ الخضر حسين مؤلفات كثيرة، عظيمة في أثرها و نفعها، نذكر بعضا من أسمائها:
1- «رسائل الإصلاح» في ثلاثة أجزاء.
2- «بلاغة القرآن».
3- «تونس وجامع الزيتونة».
4- «نقض كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين».
5- «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق».
6- تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي
ونشر بحوثاً ومحاضرات في كتب منها:
1 - «الدعوة إلى الإصلاح».
2 - «الخيال في الشعر العربي».
3 - «القياس في اللغة العربية».
4 - «محمد رسول الله خاتم النبيين».
5- «الحرية في الإسلام».
6 - «حياة اللغة العربية».
7 -- «العظمة».
8 - «الخطابة عند العرب».
9 - «علماء الإسلام في الأندلس».
10– ديوان شعر بعنوان «خواطر الحياة».
11- أديان العرب قبل الإسلام.
12- تونس" 67 عاما تحت الاحتلال الفرنساوي (1881- 1948).
13- حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية.
14 - دراسات في العربية وتاريخها.
15 - الرحلات.
16- آداب الحرب في الإسلام.
17 - مناهج الشرف.
وقد صدر عن دار النوادر (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر وعالم بلاد المغرب) بإشراف وتحقيق ابن أخيه المحامي علي الرضا الحسيني في 15 مجلداً عام 2011 م، وعدد صفحاتها (7698) صفحة.
وفاته:
بقي الشيخ إلى آخر حياته يشارك في جلسات مجمع اللغة العربية، ويحرر في مجلة «لواء الإسلام» زاويته «أسرار التنزيل» إلى أن وافاه الأجل في مساء الأحد 13 رجب 1377 هـ الموافق 22 فبراير 1958م، في القاهرة عن أربعة وثمانين عاماً، ودفن حسب وصيته بمقبرة آل تيمور بجوار صديقه أحمد تيمور باشا، ولم يعقب ولداً، رحمه الله وأجزل له العطاء في دار الكرامة والهناء.