أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي (سورة الأنفال) 20-23 تفسير الشيخ الشعراوى

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)}


هذا نداء واضح من الله عز وجل للمؤمنين، وأمر محدد منه بطاعة الله والرسول؛ لأن الإيمان هو الاعتقاد الجازم القلبي بالله وبملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وعلى المؤمنين أن يؤدوا مطلوب الإيمان. ومطلوب الإيمان- أيها المؤمنون- أن تنفذوا التكاليف التي يأتي بها المنهج من الله عز وجل، ومن المبلغ عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الأوامر وفي النواهي.


وقد فصلنا من قبل مسألة الطاعة، الطاعة لله تكون في الأمر الإجمالي، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون في اتباع الحكم التفصيلي التطبيقي الذي يأتي به رسول الله للأمر الإجمالي. وكذلك تكون طاعة الرسول واجبة في أي أمر أو حكم؛ لأن الله قد فوض رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80].


ويتمثل التفويض من الحق سبحانه وتعالى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الملحظ الجميل في الأداء القرآني: {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20].



والتولي- كما نعلم- هو الإعراض، والأمر هنا بعدم الإعراض، وما دمتم قد آمنتم فلا إعراض عما تؤمنون به. والملحظ الجميل أنه سبحانه لم يقل: ولا تولوا عنهما. قياساً بالأسلوب البشري. لكنه قال: {وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي أنه سبحانه وتعالى قد وحد الكلام في أمرين اثنين؛ طاعة الله وطاعة الرسول، ولأن الرسول مبلغ عن الله فلا تقسيم بين الطاعتين؛ لأن طاعة الرسول هي طاعة لله تعالى.
أو نقول: إن التولي لا يكون أبداً بالنسبة إلى الله، فلا أحد بقادر على أن يتولى عن الله؛ لأن الله لاحقه ومدركه في أي وقت.
لذلك نجد الحق تبارك وتعالى يقول في آية ثانية: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62].
وهو سبحانه وتعالى في هذا القول يوحد بين رضاء الله والرسول فيجعله رضاءً واحداً، فالواحد من هؤلاء يقسم أنه لم يفعل الفعل المخالف للإيمان إرضاءً للمؤمنين، وليبرئ نفسه عند البشر، لكن هناك رضاء أعلى هو رضاء مراعاة تطبيق المنهج الذي أنزله الله عز وجل وجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهناك قيوم أعلى يرقب كل سلوك، ويعلم ما ظهر وما بطن. فلو كنا متروكين لبعضنا البعض لكان لأي إنسان أن يواجه الآخر، كل بقوته، لكن نحن في الإيمان نعلم أننا تحت رقابة المقتدر القيوم، فمن ظلم أخاه؛ وغفر المظلوم لظالمه، فالله سبحانه وتعالى رب الظالم ورب المظلوم- لا يغفر للظالم بل يؤاخذه.



وسبحانه وحد أيضاً في هذه الآية بين رضاء الله ورضاء الرسول ولم يقل: والله ورسوله أحق أن يرضوهما بظاهر الأسلوب في لغة البشر، لكنه شاء أن يوحد الرضاء؛ لأنه يدور حول أمر واحد بطاعة واحدة، وحول نهي واحد بانتهاء واحد.
{ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20].
وهذا الأمر بطاعة الله تعالى والرسول بلاغ من الله، والبلاغ أول وسيلة له الأُذن، لأن الأُذن أول وسيلة للإدراكات، ولذلك فإنّ الرسول يبلغ الأوامر بالقول للناس، ولم يبلغهم بالكتابة؛ لأن كل الناس لا تقرأ، فأبلغ صلى الله عليه وسلم الناس قولاً كما أمر أن يكتب القرآن ليظل محفوظا.
ونعلم أن السماع هو الأصل في القراءة. وأنت لا تقرأ مكتوباً، ولا تكتب مسموعاً إلا إذا عرفت القواعد، وعرفت كيفية نطق الحروف.
والمعلم يعلم طالب المعرفة القراءة والكتابة عن طريق السماع أولاً، إذن فالسماع مقدم في كل شيء، ولن يستطيع واحد أن يقول في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تبلغني الدعوة؛ لأن الدعوة أبلغت للناس بالسماع، وقوله: {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} تعطينا أن الإنسان إن لم تبلغه الدعوة، فليس مناطاً للتكليف، لأن ربنا سبحانه وتعالى هو القائل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].



والمجتمعات التي تعيش في غفلة وليس عندهم رسول ولم يبلغهم المنهج، لن يعذبهم الله، وهذا أمر وارد الآن في البلاد النائية البعيدة عن الالتقاء بالإسلام وبمنهج الإسلام، وبالسماع عن الإسلام؛ لأنهم ما سمعوا شيئاً عن الدين ولم يعرفوا منهجه. وهؤلاء ناجون من العذاب طبقاً لقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].


فثمرة بعث الرسول أن يبلغ الناس، ولذلك أخذنا حكما هاماً من الأحكام من قوله الحق تبارك وتعالى: {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20].
أخذنا من هذا القول أن من لم يبلغهم المنهج لا يحاسبون. ولكن أيكفي السماع في أن نعلم المنهج. لا، لا يكفي في السماع أن نعلم أن هناك رسولاً جاء ليعقب على رسول سبق، ولكن عليك أن تبحث أنت. فإن كان في الأرض من لم يبلغه هذا فهو ناجٍ، وإن كان قد بلغه خبر رسول ولم يبلغه المنهج الكامل فعليه أن يبحث بنفسه، بدليل أن الإنسان يبحث عن أهون الأشياء بمجرد أن يسمع عنها، ويشغل نفسه بالبحث.
ولنفرض أن إنساناً قال في قرية: إن الدولة ستغير بطاقة التموين، ألا يتجه كل فرد في القرية ليسأل عن هذا الأمر ويهتم به كل الاهتمام؟. إذن كان يكفي في وصول البلاغ أن يسمع الإنسان رسولاً في العرب قد جاء للناس كافة برسالة عامة، وأن هذه الرسالة تعقب الرسالات السابقة، ومن سمع هذا السماع كان عليه أن يعامل هذا الخبر معاملة المصالح الدنيوية الأساسية لأنه اذا كان أمر الدنيا هاماً فما بالنا بأمر صلاح الدنيا والآخرة؟.
وجزء من التبعة في ذلك يقع على المسلمين الذين لم يجدُّوا ويبلغوا منهج الله ودين الله إلى غيرهم.


{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)}
ففي هذه الآية الكريمة ينهانا الحق جل وعلا أن نكون مثل من قالوا: (سمعنا) وحكم الله بأنهم لا يسمعون، وهؤلاء هم من أخذوا السمع بقانون الأحداث الجارية على ظواهر الحركة فسمعوا ولم يلتفتوا؛ لأن المراد بالسماع ليس أن تسمع فقط، بل أن تؤدي مطلوب ما سمعت، فإن لم تؤد مطلوب ما سمعت، فكأنك لم تسمع. بل تكون شرّاً ممن لم يسمع؛ لأن الذي لم يسمع لم تبلغه دعوة، أماَّ أنت فسمعت فبلغتك الدعوة ولكنك لك تستجب ولم تنفذ مطلوبها.
إذن قول الله تعالى: {سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21].
يفسر لنا أن هذا السماع منهم كان مجرد انتقال الصوت من المتكلم إلى أذن السامع بالذبذبة التي تحدث، ولم يأخذوا ما سمعوه مأخذاً جاداً ليكون له الأثر العميق في حياتهم. فإذا لم يتأثروا بالمنهج، فكأنهم لم يسمعوا، وياليتهم لم يسمعوا؛ لأنهم صاروا شرّا ممن لم يسمع.
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21].
أو أن السمع يراد ويقصد به القبول، مثلما نقول: اللهم اسمع دعاء فلان، وأنت تعلم أن الله سميع الدعاء وإن لم تقل أنت ذلك، لكنك تقول: اللهم اسمع دعاء فلان بمعنى (اللهم اقبله)، فيكون المراد بالسمع القبول.


{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)}
وكلمة (دابَّة) تعني كل ما يدب على الأرض، ولكنها خُصَّتَّ عرفاً بذوات الأربع. وجمع دابة دوابّ.
و(الدواب) كما نعلم هي القسم الثالث من الوجود، لأن الوجود مرتقي إلى حلقات؛

أولها الجماد، وثانيها النبات، وثالثها الحيوان، ورابعها الإنسان،
ويجمع هذه الأشياء الأربعة رباط واحد، فنجد أن أعلى مرتبة في الأدنى، هي أول مرتبة في الأعلى، فالأدنى هو الجماد، وفوقه النبات، وأعلى شيء في الجماد، يُمثل أول شيء في النبات، مثل المرجانيات، كأن الجماد نفسه له ارتقاءات في ذاته تتوقف عند مرحلة معينة لا يتعداها، فلا ترتقي إلى أن تصير نباتاً، أو أن يصبح النبات حيواناً، لا، إن كل قسم يظل مستقلا بذاته وفيه ارتقاءات تقف عند حد معين. وإذا كان أعلى شيء في الجماد يكاد أن يماثل أول شيء في النبات، فهو لا يتحول نباتاً مثل ظاهرة نمو الشعاب المرجانية التي أخذت ظاهرة النبات، لكنها لا تنتقل إلى نبات، بل تظل أعلى قمة في الجماد. وكذلك النبات، نجده يرتقي إلى أن ينتهي إلى أعلى مرحلة فيه. فالنبات مراحل، وآخر مرحلة فيه أن يوجد نبات يُحسّ، لأن الإحساس فرع الحياة، وهذا ما نراه في نباتات الظل التي نشاهدها وهي تتجه بطبيعة تكوينها إلى نور النهار. وكأن فيها نوْعاً من الإحساس. وإن تغير مكان الضوء، فإنها تُغيِّر اتجاهها إلى المكان الجديد.


وهناك نوع من النبات يذبل فور أن تلمسه. ونسمع عن نبات يسمى في الريف (الست المستحية) وهي تغلق أوراقها على ثمرها فور اللمس، وأخذت أعلى مرتبة في النبات، وهي أول مرتبة في الحيوان، لكنها لا ترتقي إلى حيوان. بل تظل في حلقتها كنبات.
ونأتي إلى الحيوانات لنجدها ترتقي، فهناك حيوانات تستأنس، وحيوانات لا تستأنس، بل تظل متوحشة، وقد خلقها ربنا لحكمة ما. فالإنسان يستأنس الجمل ولا يستطيع أن يستأنس الثعبان، ولا البرغوث، كأن الله يريد بذلك أن يعلمنا أننا لم نستأنس الحيوانات التي نستأنسها بقدرتنا وبذكائنا؛ بل هو الذي جعلك تأنس بها، فأنت أنست بالجمل، وقد ترى البنت الصغيرة وهي تقوده، وتأمره بالقيام والقعود، بينما البرغوث الصغير قد يجعل الإنسان ساهراً طوال الليل لا يعرف كيف يصطاده. إذن هذه الأمور تعطينا حكمة أوجزها الحق تبارك وتعالى في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71- 72].
ولو لم يذلل الحق تبارك وتعالى هذه المخلوقات، لما استطاع الإنسان تذليلها، ونرى المخلوق الصغير وقد عجز الإنسان أمام تذليله، ليعرف أن المذلل ليس الإنسان، بل المذلل هو الله سبحانه وتعالى.



وفي المستأنس من الحيوانات تجد نوعاً تُعوده على بعض الأشياء فيعتادها ويقوم بها مثل القرد الذي يقول له مدربه اعجن عجين الصبية، أو العجوزة، فيقلد القرد الصبية أو (العجوزة)؛ لأن فيه قابلية التقليد، فهو يملك درجة من الفهم وهو أعلى مرتبة في الحيوان، ويقف عندها ولا يتطور إلى خارجها، بدليل أنك إن علمت قرداً كل شيء، فهو يصنع ما تعلمه له من الحركات ويضحك الناس منه، لكن القرد لا يستطيع أن يعلمها لبني جنسه. وكذلك نجد من يدرب الأسد والنمر ليؤدي فقرات ترفيهية في السيرك، لكن الأسد لا يعلم أولاده من الأشبال ما تعلمه من مدرب السيرك.


إذن فالوجود بحلقاته الأربع؛ جماداً ونباتاً وحيواناً وإنساناً لا ترتقي فيه حلقة إلى الأعلى منها؛ بل تقف عند حد معين، وتلك هي الشبهة التي أصابت بعض المفكرين في أن يظنوا أن أصل الإنسان قرد؛ لأن المخلوقات حلقات يسلم بعضها لبعض، وأدنى مرتبة في الأعلى لكل حلقة هي أعلى مرتبة في الأدنى وتقف في حدودها. والذي يهدم نظرية داروين من أولها هو هذا الفهم لطبيعة التطور: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49].
أي أن كل الكائنات مخلوقة ابتداءً من الله، ولا يوجد جنس قد نشأ من جنس آخر.
ونقدم هذا الدليل العقلي لغير المتدينين، فنقول: لماذا لم تؤثر الظروف التي أثرت في القرد الأول ليصير إنساناً، في بقية القرود لتكون أناساً؟

وهكذا تنهدم النظرية- نظرية داروين- من أولها لآخرها، وعلماء الأجناس يهدمونها الآن. والحق تبارك وتعالى أخبرنا أن هذه المخلوقات التي تقع في المرتبة تحت الإنسان، لا تستطيع أن ترتب المقدمات، وتأخذ منها النتائج. ولا تعرف البديلات في الاختيار، والحيوان وهو أرقى الأجناس ليس عنده بديلات؛ إنه يتعلم مهمة واحدة وتنتهي المسألة؛ لأنها دواب لا تعقل، لكن الإنسان يملك القدرة على الاختيار بين البديلات.
وجرب أن تعاكس قطة فإنك تجدها تهاجمك وتجرحك بمخالبها إلا إن كنت أنت مستأنسها وتعرف أنك تداعبها. أمَّا المؤمن العاقل المكلف فهو يتصرف في المواقف بشكل مختلف. فإن قام إنسان بإيذائه فقد يعاقبه بمثل ما عوقب، وقد يعفو عنه، وقد يكظم غيظه. {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس} [آل عمران: 134].
إذن فأنت أيها المؤمن عندك بديلات كثيرة، لكن الحيوان لا يملك مثل هذه البديلات.


ولذلك ضربنا من قبل المثل: لو أنك علفت حيواناً إلى أن أكل وشبع ثم جئت إليه بعد شبعه بشيء زائد من أشهى طعام عنده؛ تجده لا يأكله. بينما الإنسان إن شبع فقد لا يمانع أن يأكل فوق الشبع من صنف يحبه.
ومثال آخر: نرى في الريف أن الحمار حين يرى جدولاً من المياه ويكون اتساع الجدول فوق قدرته على أن يقفز عليه ليعبره، نجد الحمار قد توقف رافضاً القفز أو المرور فوق هذا الجدول.
فهل قاس الحمار المسافة بنظره ووازنها بقدرته؟! إنه يقفز فوق الجداول التي في متناول قدرته، لكنه يرفض ما فوق هذه القدرة، رغم أننا نصف الحمار بالبلادة.
وهذا يبين لنا أن كل جنس يسير في ناموس تكوينه ليؤدي مهمته التي أرادها له الله. ولقائل أن يقول: كيف يقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} بينما الحيوانات كلها مسخرة؟ ونقول: إذا كنت أيها الإنسان تأخذ وظيفة الأدنى فأنت تختار أن تكون شرًا من الدابة؛ لأن الأدنى مسخر بقانونه ويفعل الأشياء بغرائزه لا بفكره، فكأن فكر الاختيار بين البديلات غير موجود فيه، لكنك أيها الإنسان ميزك الله بالعقل الذي يختار بين البديلات، فإن أوقفت عقلك عن العمل، وسلبت قدرتك على القبول لما تسمع من وحي ألا تكون شر الدواب؟







وحين نتأمل كلمة (شر وخير) نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7- 8].
فالخير يقابله الشر، وحين يقابل الخير الشر، فالإنسان يميز الخير، لأنه نافع وحسن، ويميز الشر؛ لأنه ضار وقبيح.
ولكن كلمة (خير) تستعمل أحياناً استعمالاً آخر لا يقابله الشر، بل يقال: إن هذا الأمر خير من الثاني، رغم أن الثاني أيضاً خير، مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير).
إنّ كلاً منهما- أي المؤمن القوي والمؤمن الضعيف- فيه خير، لكن في الخير ارتقاءات، هناك خير يزيد عن خير، ويخبر المولى في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدوآب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ}.
أي أن الكفار شر ما دبَّ على الأرض لأنهم قد افتقدوا وسيلة الهداية وهي السماع، وبذلك صاروا بكماً أي لا ينطقون كلمة الهدى.



{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
فهو سبحانه وتعالى قد علم أنه ليس فيهم خير، فلم يسمعهم سماع الاستجابة.
والمولى سبحانه وتعالى منزه من أن يبتدئهم بعدم إسماعهم؛ لأنهم لم يوجد فيهم خير، والخير هنا مقصود به الإيمان الأول بالرسول، وهم لم يؤمنوا. فلم يستمعوا لنداء الهداية منه صلى الله عليه وسلم كمبلغ عن الله تعالى. إذن فعدم وجود الخير بدأ من ناحيتهم، وسبحانه وتعالى القائل: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264].
وهم- إذن- سبقوا بالكفر فلم يهدهم الله. {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258].
وهم سبقوا بالظلم فلم يهدهم الله.



وسبحانه وتعالى القائل: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108].
وهم سبقوا بالفسق فلم يهدهم الله.
والله منزه عن الافتئات على بعض عباده، فلم يسمعهم سماع الاستجابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ}
وعلم الله تعالى أزلي، لكنه لا يحاكم عباده بما علم عنهم أزلاً. بل ينزل لهم حق الاختيار في التجربة الحياتية العملية.



وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- تجد أباً يعاني من مأساة فشل ابنه في الدراسة أو في الاعتماد على نفسه في الحياة، ويحيا الولد لاهياً غير مقدر لتبعات الحياة، فيقول أصدقاء الوالد له: لماذا لا تقيم لابنك مشروعاً يشغله بدلاً من اللهو، فيرد الأب: إنني أعرف هذا الولد، سيأخذ المشروع ليبيعه ويصرف ثمنه على اللهو. والأب يقول ذلك بتجربته مع الابن. لكنْ ألا يُحتمل أن يكون هذا الابن قد ملَّ الانحراف واللهو وأراد أن يتوب، أو على الأقل ليثبت للناس أن رأى والده فيه غير صحيح؟ لذلك نجد الأب يفتح لابنه مشروعاً، لكن الولد يغلبه طبعه السيئ فيبيع المشروع ليصرف نقوده في الفساد.
هل حدث ذلك من نقص في تجربة الوالد؟ لا، بل عرف الأب عدم الجد عن ابنه، وسهولة انقياده لهواه. فما بالنا بالحق الأعلى العليم أزلاً بكل ما خفي وما ظهر من عباده؟.
ولكنّه سبحانه وتعالى شاء ألا يحاسب عباده بما علمه أزلاً، بل يحاسبهم سبحانه وتعالى بما يحدث منهم واقعاً، فهو القائل: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} [العنكبوت: 11].
فسبحانه وتعالى العالم أزلاً، لكنه شاء أن يعلم أيضاً علم الإقرار من العبد نفسه؛ لأن الله لو حكم على العباد بما علم أزلاً، لقال العبد: كنت سأفعل ما يطلبه المنهج يا رب. لذلك يترك الحق الاختيار للبشر ليعلموا على ضوء اختياراتهم ويكون العمل إقراراً بما حدث منهم.



{وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
وحتى لو أسمعهم الله عز وجل لتولوا هم عن السماع وأعرضوا عنه؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم أنهم اختاروا أن يكونوا شرّاً من الدواب عنده، وهو الصم الذين لا يسمعون دعوة هداية، وبُكْم لا ينطقون كلمة توحيد، ولا يعقلون فائدة المنهج الذي وضعه الله تعالى لصلاح دنياهم وأخراهم.




نداء الايمان





#2

افتراضي رد: (سورة الأنفال) 20-23 تفسير الشيخ الشعراوى

بارك الله فيكي
إظهار التوقيع
توقيع : ام سيف 22


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
مصحف الشيخ ماهر المعيقلي كاملاً بجودة عالية mp3 عاشقة الفردوس القرآن الكريم
جميع مرئيات الشيخ الإمام علي جابر النادرة من تراويح وتهجد شهر رمضان من رووية ورهوف صوتيات ومرئيات اسلامية
اسماء سور القران ومعانيها الرزان القرآن الكريم
مسابفة اليوم الأحد من المسابقة المتجددة أم أمة الله مسابقات الاقسام


الساعة الآن 12:31 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل