[من المهم فهم أول السورة وآخرها]
قال الله في أولها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:١ - ٢].وقال في خاتمتها: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:٧٨]،
وتستفيد بالتدريس أنك من المهم جداً أن تفسر فاتحة السورة وخاتمتها، فإذا أردت أن تتأمل سورة من القرآن من المهم جداً أن تفقه أولها وتفقه آخرها، ثم تعرج على بعض الآيات فيها.
[تفسير مفردات قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم)]
نبدأ بالمقدمة:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:١ - ٢].الزلزلة في اللغة: التحريك، والحمل بكسر الحاء ما يكون على الظهر، والحمل بفتح الحاء ما تحمله المرأة في بطنها.والعرب تقول: امرأة مرضِع ولا حاجة لأن تقول: مرضعة، ويقولون: امرأة حامل؛ لأن الرجل أصلاً لا يرضع ولا يحمل، فلا حاجة لأن يضعوا التاء، لكن الله قال هنا: (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) فأضاف التاء، ولا يمكن أن يكون إضافة التاء هنا لغير مقصد، بل لا بد من مقصد، لكن أنا أولاً أحرر الألفاظ قبل أن أجمع شتاتها، ولم يقل الله جل وعلا: وتضع كل حامل، قال: (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا).فالمرضعة بالتاء هي من تلقم وليدها أو رضيعها الثدي، يعني: تباشر عملية الرضاعة، وأما المرضع فيطلق على كل امرأة قابلة لأن ترضع، فكل امرأة متزوجة قابلة لأن ترضع؛ لأن اللبن من الرجال من الأب من الزوج أب المولود، لكن الله قال هنا: مرضعة بالتاء، والمعنى حال كونها ترضع وتباشر الرضاعة.وقال جل ذكره: (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ) أي: وقت أنها حامل ومباشرة للحمل، يعني: أن الجنين ما زال في بطنها، فهذا معنى قول الله جل ذكره: (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا).(وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) السكارى: هم من يتخبطون وهم مذهولون لا يدرون، وقول الله جل وعلا: (وما هم بسكارى) نفي لحقيقة السكر، أي: أنه ليس سكراً ناتجاً عن خمر.ثم قال الله جل وعلا: (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) هذا مجمل ألفاظ الآية.
[التفسير المعنوي لقوله تعالى:
(يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم)]
وأما جمع شتاتها فعلى النحو التالي:
قال الله: (يا أيها الناس) وهذا نداء عام، ولا يسمى نداء كرامة، إنما نداء الكرامة في القرآن (يا أيها الذين آمنوا)، أما (يا أيها الناس) فهذا نداء لكل الخلق، فيدخل فيه كل أحد مؤمناً كان أو كافراً.(يا أيها الناس اتقوا ربكم) تقوى الله هي الدين كله، ووقف صلى الله عليه وسلم على ناقته القصواء يوم حجة الوداع يقول: (يا أيها الناس اتقوا ربكم، وصلوا فرضكم) وذكر أموراً، لكن بدأها صلى الله عليه وسلم بتقوى الله، وجملة ما يمكن أن يقال في معنى تقوى الله: ألا يفقدنك الله حيث أمرك، ولا يرينك الله حيث نهاك، فمن وفق أنه لا يفقد في مكان أمره الله فيه، ولم يوجد في مكان نهاه الله عنه فقد أخذ بالتقوى من حيث العموم، وفسرت التقوى بأن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله.
[اختلاف العلماء في وقت هذه الزلزلة]
والمقصود أن الله دعا عباده أجمعين إلى تقواه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:١]، وهنا خلاف واقع بين العلماء: متى تكون زلزلة الساعة؟ وللعلماء رحمهم الله في هذه المسألة قولان: فقال فريق منهم: إن زلزلة الساعة المقصود بها آخر أيام الدنيا قبل بعث القبور.وحجة من قال بهذا القول: أنه بعد البعث والنشور لا حمل ولا رضاع، وأن الزلزلة بمعنى التحريك إنما تكون قبل فناء الناس، وإنما يكون هذا في آخر أيام الدنيا، وهذا القول قال به طائفة من السلف، واختاره بعض المفسرين، وله حظ كبير من النظر، إلا أن هذا التفسير يعارض نصاً صريحاً، وما دام يعارض نصاً صريحاً فإنه يعتذر لمن قال به من العلماء، ويؤخذ بالنص الصريح.والنص الصريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (إن الله جل وعلا يقول لآدم يوم القيامة: يا آدم! فيقول آدم: يا رب! لبيك وسعديك، فيقول الله له: يا آدم! أخرج بعث الناس، قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فقال صلى الله عليه وسلم: فعندها يشيب الصغير، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، فشق ذلك على الصحابة فبكوا رضي الله عنهم وأرضاهم، فرق لهم صلى الله عليه وسلم وقال: أبشروا منكم واحد ومن يأجوج ومأجوج كذا وكذا، ثم قال: إني لأرجو الله أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا، ثم قال: أرجو الله أن تكون ثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: إني لأرجو الله أن تكونوا شطر أهل الجنة فكبروا)، جعلنا الله وإياكم ممن يدخل في هذا الدعاء النبوي.قال الله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:١] هذه الزلزلة اتفقنا على أن المختار من أقوال العلماء أنها بعد البعث، فيأتي هنا إشكال وهو: كيف يكون هذا الزلزال والناس على أرض بيضاء نقية؟ وهنا يجب أن يقال: ليس المقصود بالزلزلة هنا تحريك الأرض، وإنما المقصود تحريك القلوب بما يقع فيها من فزع ورعب وخوف، هذا المقصود بزلزلة الساعة.فإن قال قائل: أين الدليل من القرآن على أن الزلزلة تأتي بالخوف؟ قلنا له: قال الله جل وعلا في سورة الأحزاب: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:١١]، ومعلوم أن معنى آية الأحزاب بالاتفاق زلزلوا زلزالاً شديداً بما كان هناك من خوف ورعب وفزع في القلوب جراء إحاطة الأحزاب بالمدينة، فهذا يدل على أن الزلزلة في القرآن تطلق على ما يقع في القلب من رعب وخوف وفزع، فينتهي بذلك الإشكال.
[إذا توفيت المرأة وهي حامل فإنها تبعث وهي حامل]
{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:٢]
الراجح عند العلماء أن المرأة إذا توفيت وهي حامل فإنها تحشر وهي حامل، وإذا توفيت وهي ترضع أو حالة وهي مرضعة فإنها تحشر وهي ترضع، فإذا رأت العرض يوم القيامة ذهلت كل مرضعة عما أرضعت، ووضعت كل ذات حمل حملها كما أخبر الله، هذا فك ما في الآية.
[المشقة تجلب التيسير]
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨]،
هذه قاعدة أن المشقة تجلب التيسير، والفقه الإسلامي مبني على خمس قواعد وهي: المشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، والأمور تبع للمقاصد، والعرف محكم، واليقين لا يزول بالشك.قد أسس الفقه على نفي الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر ونفي رفع القطع بالشك وأن يحكم العرف وزاد من فطن كون الأمور تبع المقاصد مع التكلف ببعض وارد فهذه الخمس عليهن قام الفقه الإسلامي، وهذه أولها، قال الله جل وعلا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨].{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:٧٨] عليه السلام، وهو أبو الأنبياء، فالأمة تنسب إليه لكونه أباً لنبينا صلى الله عليه وسلم، وتنسب إليه الملة لأن الله جل وعلا حصر النبوة بعده فيه.{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ} [الحج:٧٨] الضمير ليس عائد إلى إبراهيم، كما في مثل: إذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، فهو عائد على رب العزة، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح قال: (وأنا آمركم -يقول للصحابة- بخمس: بالسمع، والطاعة، والهجرة، والجماعة، والجهاد، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر مات ميتة جاهلية، ثم قال: وإياكم ودعوى الجاهلية، فإن من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم، قالوا: يا رسول الله! وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام، تسموا بما سماكم الله به -هذا موضع الشاهد-: المسلمين المؤمنين عباد الله)، هذه الثلاثة قالها النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً عن القرآن، وعلى هذا لا يوجد عاقل يملك عقلاً كاملاً يخرج من سعة الكتاب والسنة إلى ضيق أي جماعة أو حزب أو أي شيء يحصر الناس في شيء واحد، (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، ولا يوجد اسم أشرف من أن نتسمى بالمسلمين المؤمنين عباد الله، وهذه وصية نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي في القلب وعلى الرأس والعين.{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} [الحج:٧٨] متى؟ {مِنْ قَبْلُ} [الحج:٧٨] أي: في الكتب المتقدمة، كما في التوراة والإنجيل، {وَفِي هَذَا} [الحج:٧٨] أي: القرآن، فيصبح معنى الآية: الله سمانا المسلمين في الكتب المتقدمة، وهذا معنى: (من قبل)، وسمانا المسلمين (في هذا) أي: في القرآن، لأي شيء؟ {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} [الحج:٧٨]، فالرسول عليه الصلاة والسلام شهيد على أمته، وأمته عدل يوم القيامة يقبل الناس أن تكون شهيدة على غيرها من الأمم، كما قال الله: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:٧٨].{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:٧٨]، وقرن بين عبادتين عظيمتين قلما تفترق إلا لحكمة في كلام الله، وهما: الصلاة والزكاة.ثم قال: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:٧٨] أي: على قدر اعتصامك بالله تكون نصرة الله جل وعلا لك، فينصر العبد ويحفظ ويكلأ ويسدد بمقدار قربه من الله، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب جل جلاله، {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:٧٨].
[الجهاد في سبيل الله أعظم النوافل على الإطلاق]
قال الله في الآية الأخيرة: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:٧٨]، (جاهدوا في الله) الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وهو أعظم النوافل على خلاف بين العلماء، لكن نحن نعتقد والعلم عند الله أن الجهاد أفضل النوافل على الإطلاق، والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الأيام العشر من ذي الحجة: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر، قال الصحابة: ولا الجهاد في سبيل الله؟) والمعنى: أنه استقر في أذهانهم أنه لا شيء يعدل الجهاد، ولهذا حتى الجواب النبوي قال عليه الصلاة والسلام: (ولا الجهاد في سبيل الله، - ثم استدرك فقال -: إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء).وقد ورد الحق مرتين في القرآن: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:٧٨]، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:١٠٢]، وهذا باعتبار كل عبد لوحده، فإذا استفرغ الإنسان جهده وبذل كل ما في وسعه في تقوى الله فقد اتقى الله جل وعلا حق تقاته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ويقع على زيد ما لا يقع على عمرو، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن المكلفين يختلفون ما بين القدرة والعجز، وما بين العلم والجهل.فالناس متفاوتون، فكل من بذل وسعه في شيء فقد أداه حق ما أمره الله جل وعلا به.والجهاد أحد الأمور التي أسندها الله جل وعلا إلى ولي أمر المسلمين، فهو أبصر في إعلانه من عدمه، فأوكله الله جل وعلا إلى ولاة الأمر على مر الدهور وكر العصور.{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:٧٨] أي: هذه الأمة، فربكم اجتباكم واصطفاكم ليجعلكم آخر الأمم.
[سبب تقديم الصابئين على النصارى هنا بخلاف ما في سورة البقرة]
والآية قبل الأخيرة قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:١٧]، ذكر الله هنا الأمم المعاصرة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالذين آمنوا هم أمة الإجابة، وهم الذين أجابوا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (والذين) فكرر الاسم الموصول، (هَادُوا) بمعنى رجعوا وتابوا كما في قوله: {هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:١٥٦]، وهي لقب على اليهود، وكان لهم فضله ومعناه، فلما لم يؤمنوا بنبينا صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الفضل وبقي المسمى، فهم يسمون اليهود.قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ} [الحج:١٧] ولم يقل: والنصارى، وقال في البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٦٢]، ففي آية الحج قدم الصابئة على النصارى، وفي آية البقرة قدم النصارى على الصابئة، فقدم النصارى على الصابئة في البقرة؛ لأنه جل وعلا ذكرهم باعتبار أن النصارى أهل كتاب، والصابئة لا كتاب لهم، فأهل الكتاب مقدمون على غيرهم من غير أهل الكتاب.وأما في سورة الحج فقدم الصابئين؛ لأن الله أراد التسلسل الزمني التاريخي، فاليهود كانوا على عهد موسى، ثم ظهرت الصابئة في العراق، ثم بعث عيسى عليه السلام فاتبعه النصارى، فمن حيث الظهور الزمني التاريخي الصابئة قبل النصارى، ولهذا قدمهم الله هنا.(والمجوس) هم عبدة النار، وهم يقولون: إن الليل أصل في كل شر، والنهار أصل في كل خير، قال المتنبي: وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تكذب أي: أنهم كاذبون فيما يقولون، فهؤلاء هم المجوس عبدة النار ومنهم أبو لؤلؤة المجوسي الذي قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.(والذين أشركوا) يدخل فيهم كفار مكة ومن كان من مشركي العرب، وهذه الجملة: (إن الذين آمنوا إلى والذين أشركوا) جملة ابتدائية خبرها: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:١٧] وانتهت الجملة، ثم جاءت جملة استئنافية: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:١٧]، فهذه جملة استئنافية جديدة لكنها مسوقة مساق التعريف، بمعنى: أن الله بما أنه جل وعلا هو الشهيد المطلع على أعمالهم جميعاً فهو وحده جل وعلا القادر على أن يحكم بينهم جميعاً يوم القيامة.
استواء الحج ماشياً وراكباً في الفضل
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:٢٧]
رجالاً جمع راجل، وراجل هنا بمعنى من يمشي على قدميه، (وعلى كل ضامر) الضامر: من التصق جانبا بطنه به، والمقصود أن الإبل والدواب لا تصل إلى البيت إلا وقد ضمرت من طول المسافات، ومكة منطقة جبلية.{يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:٢٧] والنون في يأتين ليست ممدودة، وإنما هي نون لوحدها نون النسوة، وسبب وجودها قوله جل وعلا: (كُلِّ ضَامِرٍ)، فهذه الظوامر جمع تكسير، والعرب تلحق تاء التأنيث ونون النسوة بجمع التكسير.وقوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:٢٧] فهم منها بعض العلماء - كما هو ظاهر مذهب مالك - أن الحج ماشياً أفضل؛ لأن الله قدم الماشين على الركبان، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أنزلت عليه هذه الآية وهو أفقه الناس بالدين، وقد حج صلى الله عليه وسلم راكباً، فدلت الآية على جواز الأمرين، لكنها لا تدل على فضل المشاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج راكباً.
[بناء الكعبة كان قبل إبراهيم عليه السلام]
والآية التي بعدها نختار قول الله جل وعلا: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:٢٦ - ٢٧]
نتكلم عنها إجمالاً.يتكلم الله عن أب الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويقول جل ذكره: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:٢٦] بوأنا لإبراهيم: مكان البيت، وهذا فيه دلالة ظاهرة لمن قال: إن البيت بني قبل إبراهيم، وإنما أذهب معالمه الطوفان، فحدده الله لإبراهيم، فكيف حدده؟ نقل عن مسلمة بعض أهل الكتاب: أن ريحاً جاءت فكنست ما حوله فأضحت بقة البيت واضحة، فبنى إبراهيم عليها، قال الله في البقرة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:١٢٧].{أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:٢٦] هذا تقريع لكفار قريش الذين جعلوا من البيت الذي وضع ليوحد الله عنده جعلوه رمزاً للشرك، فعلقوا عليه الأصنام.
[الأصل أن صحن البيت يكون للطائفين قبل غيرهم]
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:٢٦] طهارة مادية ومعنوية، {لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:٢٦]، وتقديم الله للطائفين يدل على أن الأصل أن صحن البيت للطائفين، فالذين يأتون قبل الأذان في صلاة الفجر أو في غيرها ثم يجلسون يقولون: نريد الصف الأول، ويعضد بعضهم بعضاً حتى يأتي الأئمة، فهؤلاء قد يؤجروا على حسن نيتهم لكنهم ما فقهوا مراد الله ولا مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فما قدم الله الطائفين هنا ولا في قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:١٢٥] إلا لبيان أن الأصل أن الصحن للطائفين، وإنما يطوف هؤلاء الطائفون حتى تقام الصلاة، فإذا أقيمت الصلاة اصطفوا مع الناس كل بحسب قربه أو بعده عن الكعبة، لكن لا يجوز للناس أن يأتوا إلى هؤلاء الذين قدموا من أصقاع الدنيا ليؤدي العمرة، فيجلسون حتى يملئوا الصحن، فيتعذر على الطائفين أن يطوفوا، وبعضهم معه نساء أو رجال كبار في السن فيريد أن ينهي طوافه قبل الإقامة أو قبل الأذان، أو قبل زحمة الناس، ووراءه ما وراءه، ويجد أقواماً يعتقدون أنهم في هذا العمل تحديداً على السنة، وهم بعيدون عنها، فيفرق بين المسجد الحرام وغيره من المساجد، قال الله في آيتين: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) فالأصل أن صحن الكعبة للطائفين، فحقهم مقدم على حق غيرهم، {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:٢٦].ثم قال الله: {وَأَذِّنْ} [الحج:٢٧] هذا خطاب لإبراهيم، {فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:٢٧]، فقال: يا رب! كيف أبلغ الناس وصوتي لا يُسمعهم ولا يبلغهم؟ فقال الله له: بل أذن وعلينا البلاغ، فقيل: إنه وقف على جبل أبي قبيس فقال: أيها الناس! إن الله قد اتخذ بيتاً فحجوا، فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن كتب الله لهم الحج: لبيك اللهم لبيك.
[طوائف الناس في الدنيا في مقابل هدى الله]
ثم ذكر الله بعد ذلك بآيات ثلاث طوائف، وفهم القرآن مهم جداً لمن أراد أن يفسر، قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:٨ - ١٠]، فهذه طائفة.وقال بعدها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:١٠ - ١٣]، وهذه طائفة.ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:١٤]، وهذه الطائفة الثالثة.
نبدأ بالأولى: الطائفة الأولى أهل شرك ظاهر وكفر بواح، وهؤلاء والعياذ بالله ليسوا أهل كتاب، بل لا يعترفون بالله أصلاً، فإنهم يجادلون في الله - كما قال الله - بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فهؤلاء العلم والهدى والكتاب دوائر، فدائرة العلم أوسع من دائرة الهدى، ودائرة الهدى أوسع من دائرة الكتاب، أو بتعبير أخص: العلم أعم، ثم الهدى، ثم الكتاب، فالعلم قد يعطاه أي أحد، والهدى يعطاه المؤمنون، والكتاب لا يعطاه إلا الأنبياء.فهؤلاء يجادون في الله وفي وجود الله وهم لا علم معهم ولا هدى ولا كتاب، ويدخل في هذا المقام بصورة أولية كفار قريش كـ الأخنس بن شريق، والنضر بن الحارث وغيرهم ممن كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم.ثم يدخل فيه كل أحد سلك مسلكهم إلى يوم الدين، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.يقول الله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:٩] فالإنسان له عطفان، والثني هواء حالة الشيء، وهذا كناية عن الكبر والإعراض عن دين الله.{ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:٩] اللام تحتمل معنيين: تحتمل أن تكون لام التعليل، فيصبح المعنى أنه يتكبر ليضل، وتحتمل أن تكون لام العاقبة، وهو أقوى، ويصير لمعنى أنه بإعراضه أعقبه ذلك ضلالاً عن دينه.{لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:٩] بما يناله من المكارة والمصائب، {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:٩ - ١٠]، والباء في (بما) سببية، أي: بسبب ما قدمت يداك.{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:١٠] ظلام على وزن فعال، وتأتي في اللغة على معنيين: تأتي على صيغة المبالغة، وتأتي على أنها مصدر صناعي، وهي هنا مصدر صناعي، والمعنى: ليس من صناعة الله الظلم، ولا يمكن حملها على أنها صيغة مبالغة؛ لأن نفي الكثرة لا يعني نفي القلة، فمن قال: إن ظلام صيغة مبالغة نسب إلى الله الظلم من حيث لا يشعر.وبتقريب جيد حتى تبين لك الصورة نقول: مثل أن يكون هناك إنسان يحتاج أنه يطبخ لنفسه طعاماً، وهناك إنسان صناعته الطبخ، وهناك إنسان كثير الطبخ لكنه ليس صناعة له، فالأول يطبخ مرة أو مرتين في العام، فهو طابخ، وأما الثاني فهو كلما ذهب مع زملائه إلى مكان فهو يطبخ، فهو ليس صناعته الطبخ، بل له عمل آخر، لكن يقال له: طباخ على وزن فعال، بمعنى أنه كثير الطبخ، فعندما تنفي عن الأول تقول: فلان ليس بطباخ وإنما الآخر هو الطباخ، فلا يعني أن الأول لا يطبخ بتاتاً، فهو يقع منه الطبخ لكن لا يقع منه بكثرة، فإذا قلت: إن ظلام صيغة مبالغة فمعناه من حيث لا تشعر أن الله لا يقع منه كثرة الظلم، لكن الظلم يقع منه أحياناً، وهذا محال في حق الله.وأما الثالث الذي عنده مطبخ فهذه صناعته، فهذا سواء طبخ أو لم يطبخ فإنه يقال له: طباخ، فظلام مصدر صناعي، والمعنى: أنه ليس من شأن الله أبداً أنه يظلم، فتحرير المعاني نحوياً يساعد على فهمها، فالقرآن نزل بلغة العرب.فهذه هي الفئة الأولى.
والفئة الثانية قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:١١]، و (من) هنا بعضية مثل الأولى، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:١١] قيل: على ريب، وقيل: على شك، والأظهر أن يقال: أنه على غير يقين.{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:١١]، وليس معنى (انقلب على وجهه) أنه أتى على وجهه ثم انقلب، لكن هو قادم أصلاً من الضلالة، فلما افتتن وارتد انقلب على وجهه، أي: عاد إلى الوجه الذي جاء منه، ورجع إلى نفس المكان الذي قدم منه، وهذه أصلها نزلت في بعض الأعراب الذين كانوا حول المدينة، فلم يكن عندهم كثير إيمان، فيقدم أحدهم المدينة فيقول إذا رزق ولداً ذكراً أو نتجت خيله قال: هذا الدين دين جيد، وإذا أسلم ولم يولد له مولود ذكر ولم تنجب خيله رجع عن هذا الدين وتركه، وقال: هذا دين سيئ، قال الله: {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:١١].{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:١١] خسر الدنيا لأن ما يطلبه من الدنيا لم يتحقق، فلم يولد له مولود، ولم تنتج خيله، وخسر الآخرة لأنه ارتد عن الدين، قال الله: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:١١].فهذه هي الفئة الثانية.
والفئة الثالثة: قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الحج:١٤] وهم أهل الإيمان والعمل الصالح، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:١٤] أي: أن هؤلاء اهتدوا بهداية الله وأولئك ضلوا؛ لأن الله جل وعلا كتب الضلالة عليهم فساءت طينتهم، وشقيت سريرتهم، والله يقول: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦]، ولا يهلك على الله عز وجل إلا هالك.فهذه هي الأقسام الثلاثة.
[فرار الناس من بعضهم يوم القيامة وعلة ذلك]
وأما ما دلت عليه الآية فإن الله بهذه الآية يخوف عباده، ويبين لخلقه أنه لا نجاة إلا بتقواه، وأن الإنسان لن يأمن في ذلك اليوم إلا إذا كان خائفاً قبله، والله جل وعلا لا يجمع لأحد أمنين ولا يجمع على أحد خوفين، فمن خاف الله جل وعلا وعظمه وأجله في الدنيا أمن يوم القيامة، ومن كان آمناً مستقراً معرضاً عن الله غير مبالٍ لا يأمن مكر الله في الدنيا فلا يمكن أن يكون آمناً يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل.قال الله جل وعلا: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:٢] أي: الذي جعل هؤلاء القوم كأنهم سكارى وما هم بسكارى هو ما يرونه من عذاب الله وشدة وفزع وأهوال ذلك اليوم، فتدنو فيه الشمس، ويلجم فيه الناس العرق، ويرى الناس فيه ما يرون مما لا يعلمه إلا الله.وقد جرت العادة أن الإنسان إذا دخل محفلاً في أي مكان، فإنما يذهب إلى الذين يعرفهم، ويبتعد عمن لا يعرفه، وهذا جبلّة في الخلق، من دخل مسجداً أو دخل بلدة وهو غريب عنها أو مطعماً أو دخل حفل زواج يبحث عمن يعرفه، حتى يجلس معهم، ففي يوم القيامة ينعكس هذا الأمر؛ لأن الناس في عرصات يوم القيامة يقول الله عنهم: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٧].فلماذا يفر الإنسان ممن يعرفهم، ولم يذكر الله أنه يفر ممن لا يعرفهم؟ لأن الإنسان في هذه الدنيا يتعامل مع من يعرفهم، فيخشى يوم القيامة إذا رآهم أنه يكون قد ظلمهم، فيفر منهم خوفاً من أن يطالبوه بحسنات، وهو يومئذٍ حريص كل الحرص على حسناته، فالزوجة تطالبه، والأب يطالبه، والأم تطالبه، والأخ والجار وكل من يعرفهم، فالذين جرت بيننا وبينهم معاملات نحن عرضة لأن نظلمهم، وهم عرضة لأن يظلمونا، فيوم القيامة: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٥] {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:١٢].وأما الذي جرت العادة أنك لم تره في حياتك، ولم تجر بينك وبينه معاملة فيوم القيامة لا يحدث فرار منه؛ لأنك في الغالب في مأمن منه وهو في مأمن منك، والإنسان -وهذا نقوله مراراً في دروسنا ومحاضرتنا- أعظم ما يلقى به الله ممن يؤمن به الخوف أن يفر من مظالم الناس.روى الإمام البخاري في تاريخه من حديث محمد بن سيرين قال: كنت عند الكعبة فسمعت رجلاً يدعو ويقول: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي، قال: فقلت له: ما رأيت أحداً يدعو بمثل هذا الدعاء، قال: إنك لا تدري! إنني كنت قد أعطيت الله عهداً أنني إذا لقيت عثمان بن عفان أن ألطم وجهه ولحيته، فمات عثمان قبل أن ألطمه، فلما قتل ووضع على سريره في بيته ليصلي الناس عليه دخلت عليه في جملة من أراد أن يصلي عليه، حتى وجدت خلوة فكشفت عن وجهه ولحيته فلطمته، فما رفعت يدي إلا وهي يابسة كالخشبة، قال ابن سيرين رحمه الله: وأنا والله نظرت إلى يده وهي يابسة كالعود.فمن تحرر من مظالم العباد، ومنّ الله عليه بالفوز الأعظم وهو التحرر من الشرك بالله، وأعطى اليقين بالله مع توحيد الله جل وعلا وإفراده تبارك وتعالى بالعبادة فهذا آمن جملة يوم القيامة فهذا ما يمكن أن يقال أيها الأخ المبارك عن الآية الأولى.
كتاب دروس للشيخ صالح المغامسي
شبكة الالوكة