أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي تفسير الشعراوي(ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ...)

{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(5)}الاحزاب

معنى {ادعوهم لآبَآئِهِمْ..} [الأحزاب: 5] يعني: قولوا: زيد بن حارثة، لكن كيف يُنزع من زيد هذا التاج وهذا الشرف الذي منحه له سيدنا رسول الله؟ نعم، هذا صعب على زيد- رضي الله عنه- لكنه {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله..} [الأحزاب: 5] لا عندكم أنتم.
و{أَقْسَطُ..} [الأحزاب: 5] أفعل تفضيل، نقول هذا قِسْط وهذا أقسط، مثل عدل وأعدل، ومعنى ذلك أن الذي اختاره رسول الله من نسبة زيد إليه يُعَدُّ قِسْطاً وعدلاً بشرياً، في أنه صلى الله عليه وسلم أحسَّ بالبنوة وصار أباً لمن اختاره وفضَّله على أبيه.
لكن الحق سبحانه يريد لنا الأقسط، والاقسط أنْ ندعو الأبناء لآبائهم {فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ..} [الأحزاب: 5] أي: نُعرِّفهم بأنهم إخواننا في الدين.

ومعنى الموالي: الخدم والنصراء الذين كانوا يقولون لهم (العبيد)، فالولد الذي لا نعرف له أباً هو أخ لك في الله تختار له اسماً عاماً، فنقول مثلاً في زيد: زيد بن عبد الله، وكلنا عبيد الله تعالى.

والبنوة تثبت بأمرين: بالعقل وبالشرع، فالرجل الذي يتزوج زواجاً شرعياً، وينجب ولداً، فهو ابنه كوناً وشرعاً، فإذا زَنَت المرأة- والعياذ بالله- على فراش زوجها، فالولد ابن الزوج شَرْعَاً لا كوناً؛ لأن القاعدة الفقهية تقول: الولد للفراش، وللعاهر الحَجَر.

فإن جاء الولد من الزنا- والعياذ بالله- في غير فراش الزوجية فهو ابنه كوناً لا شرعاً؛ لذلك نقول عنه (ابن غير شرعي).
كما أن في قوله تعالى: {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله..} [الأحزاب: 5] تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلو قال تعالى: هو قسْط لكان عمل النبي إذن جَوْراً وظلماً، لكن أقسط تعني: أن عمل النبي قِسْط وعَدْل.
وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ..} [الأحزاب: 5] يُخْرجنا من حرج كبير في هذه المسألة، فكثيراً ما نسمع وما نقول لغير أبنائنا: يا بني على سبيل العطف والتودد، ونقول لكبار السن: يا أبي فلان احتراماً لهم.
فالحق سبحانه يحتاط لنا ويُعفينا من الحرج والإثم، لأننا نقول هذه الكلمات لا نقصد الأُبوّة ولا البنوة الحقيقية، إنما نقصد تعظيمَ الكبار وتوقيرهم، والعطف والتحنُّن للصغار، فليس عليكم إثْمٌ ولا ذَنْبٌ في هذه المسألة، إنْ أخطأتم فيها، والخطأ هو ألاَّ تذهب إلى الصواب، لكن عن غير عَمْد.
وإذا كان ربنا تبارك وتعالى قد رفع عنا الحرج، وسمح لنا باللغو حتى في الحلف بذاته سبحانه، فقال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان...} [المائدة: 89] فكيف لا يُعفينا من الخرج في هذه المسألة؟

ثم يقول سبحانه: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 5] سبق أنْ قُلْنا: أن الفعل إذا أُسْنِد إلى الحق سبحانه انحلَّ عنه الزمن، فليس مع الله تعالى زمن ماض، وحاضر ومستقبل، وهو سبحانه خالق الزمن.
لذلك نقول: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 5] يعني: كان ولا يزال غفوراً رحيماً؛ لأن الاختلاف في زمن الحدث إنما ينشأ من صاحب الأغيار، والحق سبحانه لا يطرأ عليه تغيير.
لذلك نخاف نحن من صاحب الأغيار لأنه مُتقلِّب، ويقول أهل المعرفة: تغَّيروا من أجل ربكم- يعني: من الانحراف إلى الاستقامة- لأن الله لا يتغير من أجلكم، أنت تتغير من أجل الله، لكن الله لا يتغير من أجل أحد، وما دام الحق سبحانه كان غفوراً رحيماً، وهو سبحانه لا يتغير، فبالتالي سيبقى سبحانه غفوراً رحيماً.
وتلحظ في أسلوب القرآن أنه يقرن دائماً بين هذين الوصفين غفور ورحيم؛ لأن الغفر سَلْب عقوبة الذنب، والرحمة مجيء إحسان جديد بعد الذنب الذي غُفِر، كأن تُمسِك في بيتك لصاً يسرق، فلك أنْ تذهب به للشرطة، ولك أن تعفو عنه وتتركه ينصرف إلى حال سبيله، وتستر عليه، وبيدك أنْ تساعده بما تقدر عليه ليستعين به على الحياة، وهذه رحمة به وإحسان إليه بعد المغفرة.
وقد عُولجَتْ هذه المسألة في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ...} [النحل: 126] وهذا التوجيه يضع لنا أول أساس من أسس المغفرة؛ لأنك لا تستطيع أبداً تقرير هذه المثلية، ولا تضمن أبداً إذا عاقبتَ أنْ تعاقب بالمثل، ولا تعتدي؛ لذلك تلجأ إلى جانب المغفرة، لكي لا تُدخِل نفسك في متاهة اعتداء جديد، يُوجب القصاص منك.

وسبق أنْ حكْينا قصة المرابي الذي اشترط على مدينه إذا لم يسدِّد ما عليه في الوقت المحدد أن يأخذ رطلاً من لحمه، فلما تأخر اشتكاه المرابي عند القاضي، وذكر ما كان بينهما من شروط، فأقرَّه القاضي على شرطه، لكن ألهمه الله أنْ يقول للمرابي: نعم خُذْ رطلاً من لحمه، لكن بضربة واحدة، فإنْ زِدْتَ عنها أو نقصْتَ وفَّيناها من لحمك أنت، عندها تراجع المرابي، وتنازل عن شَرْطه.
إذن: أجاز لك الشرع القصاصَ بالمثل ليجعل هذه المرحلة صعبة التنفيذ، ثم يفتح لك الحق سبحانه باب العفو والصفح في المرحلة الثانية: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التغابن: 14].
ثم يُفسرها بحيثية أخرى، فيقول سبحانه: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
ومعنى كظم الغيظ أنني لم أنفعل انفعالاً غضبياً ينتج عنه ردّ فعل انتقامي، وجعلتُ غضبي في قلبي، وكظمتُه في نفسي، وهذه المرحلة الأولى، أما الثانية فتُخرِج ما في نفسك من غَيْظ وغضب وتتسامح وتعفو.
ثم المرحلة الثالثة أنْ ترتقي إلى مرتبة الإحسان، فتُحسِن إلى مَنْ أساء إليك، وهذه رحمة، والرحمة؛ أنْ يميل الإنسان بالإحسان لعاجز عنه، فإنْ كان الأمر بعكس ذلك فلا تُسمَّى رحمة، كأن يميلَ العبدُ بإحسان إلى سيده.

هذه صور أتتْ فيها الرحمة بعد المغفرة، وهذا هو الأصل في المسألة، وقد تأتي الرحمة قبل المغفرة، كأنْ تُمسك باللص الذي يسرق فتشعر أنه مُكْره على ذلك، وليس عليه أمارات الإجرام، فيرقّ له قلبك، وتمتد يدك إليه بالمساعدة، ثم تطلق سراحه، وتعفو عنه، فالرحمة هنا أولاً وتبعتها المغفرة.

بعد ذلك لقائل أنْ يقول: ما موقف زيد بعد أنْ أبطل الله تعالى التبني، فصار زيدَ بن حارثة بعد أنْ كان زيد بن محمد؟ وكيف به بعد أنْ سُلِب هذه النعمة وحُرِم هذا الشرف؟ أضِفْ إلى ذلك ما يلاقيه من عنتَ المرجفين، وألسنة الذين يُوغرون صدره، ويُوقِعون بينه وبين رسول الله، وهو الذي اختاره على أبيه.
لا شكَّ أن الجرعة الإيمانية التي تسلَّح بها زيد جعلتْه فوق هذا كله، فقد تشرَّب قلبه حبّ رسول الله، ووقر في نفسه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ...} [الأحزاب: 36].
ثم تأتي الآيات لتوضح للناس: لستم أحنَّ على زيد من محمد، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أوْلى بالمؤمنين جميعاً من أنفسهم، لا بزيد وحده.
ثم يقول الحق سبحانه: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ...}.

❤❤❤
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا(6)}
فالمعنى: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بالمؤمنين جميعاً من أنفسهم فما بالكم بزيد؟ إذن: لستُم أحنَّ على زيد من الله، ولا من رسول الله، وإذا كنتم تنظرون إلى الوسام الذي نُزِع من زيد حين صار زبد ابن حارثة بعد أنْ كان زيدَ بن محمد.

فلماذا تُغمضون أعينكم عن فضل أعظم، ناله زيد من الله تعالى حين ذُكِر اسمه صراحة في قرآنه وكتابه العزيز الذي يُتْلَى ويُتعبَّد بتلاوته إلى يوم القيامة، فأيُّ وسام أعظم من هذا؟ فقوله تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا...} [الأحزاب: 37] قَوْل خالد يَخلُد معه ذِكْر زيد، وهكذا عوَّض الله زيداً عما فاته من تغيير اسمه.
وقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ..} [الأحزاب: 6] ما المراد بهذه الأولوية من النبي صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: هي ارتقاءات في مجال الإحسان إلى النفس، ثم إلى الغير، فالإنسان أولاً يُحسن إلى نفسه، ثم إلى القرابة القريبة، ثم القرابة البعيدة، ثم على الأباعد؛ لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك، ثم بمَنْ تعول».
ويقولون: أوطان الناس تختلف باختلاف هِمَمها، فرجل وطنه نفسه، فيرى كل شيء لنفسه، ولا يرى نفسه لأحد، ورجل وطنه أبناؤه وأهله، ورجل يتعدَّى الأصول إلى الفروع، ورجل وطنه بلده أو قريته، ورجل وطنه العالم كله والإنسانية كلها.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم تعدَّى خيره إلى الإنسانية كلها على وجه العموم، والمؤمنين على وجه الخصوص؛ لذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل من أمته وعليه دَيْن، وليس عنده وفاء لا يُصلِّي عليه ويقول: (صَلُّوا على أخيكم).
والنظرة السطحية هنا تقول: وما ذنبه إنْ مات وعليه دَيْن؟ ولماذا لم يُصَلِّ عليه الرسول؟
قالوا: لم يمنع الرسولُ الصلاة عليه وقال: صَلُّوا على أخيكم؛ لأنه قال في حديث آخر: (مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها- لم يَقُل أدّاها- أدى الله عنه).
أما وقد مات دون أنْ يؤدي ما عليه، فغالب الظن أنه لم يكُنْ ينوي الأداء؛ لذلك لا أصلي عليه، فلما نزل قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ..} [الأحزاب: 6] صار رسول الله يتحمل الدَّيْن عمَّنْ يموت من المسلمين وهو مدين، ويؤدي عنه رسول الله، وهذا معنى {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ..} [الأحزاب: 6] فالنبي أَوْلى بالمسلم من نفسه.

ثم ألم يَقُلْ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام عمر: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من: نفسه، وماله، والناس أجمعين) ولصدْق عمر- رضي الله عنه- مع نفسه قال: نعم يا رسول الله، أنت احبُّ إليَّ من أهلي ومالي، لكن نفسي.
فقال النبي صلى الله عليه السلام: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه) فلما رأى عمر أن المسألة عزيمة فَطِن إلى الجواب الصحيح، فلابد أن الله أنطق رسوله بحُبٍّ غير الحبَ الذي أعرفه، إنه الحب العقلي، فمحمد صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليه من نفسه، والإنسان حين يحب الدواء المرَّ إنما يحبه بعقله لا بعاطفته، وكما تحب الولد الذكي حتى ولو كان ابناً لعدوك، أما ابنك فتحبه بعواطفك، وتحب مَنْ يثني عليه حتى ولو كان غيباً مُتخلِّفاً.

ومشهورة عند العرب قصة الرجل الغني الذي روقه الله بولد متخلف، وكَبر الولد على هذه الحالة حتى صار رجلاً، فكان الطالبون للعطاء يأتونه، فيُثْنون عَلى هذا الولد، ويمدحونه إرضاء لأبيه، وطمعاً في عطائه، مع أنهم يعلمون بلاهته وتخلُّفه، إلى أن احتاج واحد منهم، فنصحوه بالذهاب إلى هذا الغنى، وأخبروه بنقطة ضَعْفه في ولده.
وفعلاً ذهب الرجل ليطلب المساعدة، وجلس مع هذا الغني في البهو، وفجأة نزل هذا الولد على السُّلم كأنه طفل يلعب لا تخفى عليه علامات البَلَه والتخلف، فنظر الرجل إلى صاحب البيت، وقال: أهذا ولدك الذي يدعو الناس له؟ قال: نعم، قال: أراحك الله منه، والأرزاق على الله.

وقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ..} [الأحزاب: 6] أي: أن أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين، وعليه فخديجة رضي الله عنها أم لرسول الله بهذا المعنى؛ لأنه أول المؤمنين؛ لذلك كانت لا تعامله معاملة الزوجة، إنما معاملة الأم الحانية.
ألاَ تراها كيف كانت تحنُو عليه وتحتضنه أول ما تعرَّض لشدة الوحي ونزول الملَك عليه؟ وكيف كانت تُطمئنه؟ ولو كانت بنتاً صغيرة لاختلفَ الأمر، ولاتهمتْه في عقله. إذن: رسول الله في هذه المرحلة كان في حاجة إلى أم رحيمة، لا إلى زوجة شابة قليلة الخبرة.

وزوجاته صلى الله عليه وسلم يُعْتبرن أمهات للمؤمنين به؛ لأن الله تعالى قال مخاطباً المؤمنين: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً...} [الأحزاب: 53] لماذا؟ لأن الرجال الذين يختلفون على امرأة توجد بينهم دائماً ضغائن وأحقاد.
فالرجل يُطلِّق زوجته ويكون كارهاً لها، لكن حين يتزوجها آخر تحلو في عينه مرة أخرى، فيكره مَنْ يتزوجها، وهذه كلها أمور لا تنبغي مع شخص رسول الله، ولا يصح لمن كانت زوجة لرسول الله أن تكون فراشاً لغيره أبداً؛ لذلك جعلهن الله أمهات للمؤمنين جميعاً، وهذه الحرمة لا تتعدى أمهات المؤمنين إلى بناتهن، فمَنْ كانت لها بنت فلتتزوج بمَنْ تشاء.

إذن: لا يجوز لإنسان مؤمن برسول الله ويُقدِّره قدره أنْ يخلفه على امرأته.
لذلك كان تعدد الزوجات في الجاهلية ليس له حَدٌّ معين، فكان للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء، فلما جاء الإسلام أراد أنْ يحدد العدد في هذه المسألة، فأمر أنْ يُمسك الرجل أربعاً منهن، ثم يفارق الباقين، بمعنى أنه لا يجمع من الزوجات أكثر من أربع.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمسك تسعاً من الزوجات، وهذه المسألة أخذها المستشرقون مَأخذاً على رسول الله وعلى شرع الله، كذلك مَنْ لَفّ لَفَّهم من المسلمين.
ونقول لهؤلاء: أنتم أغبياء، ومَنْ لفَّ لفكم غبي مثلكم؛ لأن هذا الاستثناء لرسول الله جاء من قول الله تعالى له: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ...} [الأحزاب: 52].
يعني: إنْ ماتت إحداهن لا تتزوج غيرها، حتى لو مُتْنَ جميعاً لا يحل لك الزواج بغيرهن، في حين أن غيره من أمته له أنْ يتزوج بدل إحدى زوجاته، إنْ ماتت، أو إنْ طلقها، وله أنْ يُطلِّق منهن مَنْ يشاء ويتزوج مَنْ يشاء، شريطة ألاَّ يجمع منهن أكثر من أربع، فعلى مَنْ ضيَّق هذا الحكم؟ على رسول الله؟ أم على أمته؟ إذن: لا تظلموا رسول الله.





ثم ينبغي على هؤلاء أنْ يُفرِّقوا بين الاستثناء في العدد والاستثناء في المعدود، فكَوْن رسول الله يكتفي بهؤلاء التسع لا يتعدَّّاهن إلى غيرهن، فالاستثناء هنا في المعدود، فلو انتهى هذا المعدود لا يحلّ له غيره، ولو كان الاستثناء في العدد لجاز لكم ما تقولون.
ومن ناحية أخرى: حين يمسك الرجل أربعاً، ويفارق الباقين من زوجاته لهن أنْ يتزوجن بغيره، لكن كيف بزوجاته صلى الله عليه وسلم إنْ طلق خمساً منهن، وهُنَّ أمهات المؤمنين، ولا يحل لأحد من أمته الزواج منهن؟ إذن: الخير والصلاح في أنْ تبقى زوجات الرسول في عصمته.

وما دام {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ..} [الأحزاب: 6] كذلك يجب أن يكون المؤمنون أوْلى برسول الله من نفسه، ليردُّوا له هذه التحية، بحيث إذا أمرهم أطاعوه.
ثم يقول تعالى: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين} [الأحزاب: 6].
كلمة {وَأُوْلُو الأرحام} مأخوذة من الرحم، وهو مكان الجنين في بطن أمه، والمراد الأقارب، وجعلهم الله أوْلى ببعض؛ لأن المسلمين الأوائل حينما هاجروا إلى المدينة تركوا في مكة أهلهم وأموالهم وديارهم، ولم يشأ أنصار رسول الله أن يتركوهم بقلوب متجهة إلى الأزواج.
فكانوا من شدة إيثارهم لإخوانهم المهاجرين يعرض الواحد منهم على أخيه المهاجر أنْ يُطلِّق له إحدى زوجاته ليتزوجها، وهذا لوْن من الإيثار لم يشهده تاريخ البشرية كلها؛ لأن الإنسان يجود على صديقه بأغلى ما في حوزته وملكه، إلا مسألة المرأة، فما فعله هؤلاء الصحابة لون فريد من الإيثار.

وحين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار هذه المؤاخاة اقتضت أنْ يرث المهاجر أخاه الأنصارى، فلما أعزَّ الله الإسلام، ووجد المهاجرون سبيلاً للعيش أراد الحق سبحانه أنْ تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي، فلم تَعُدْ هناك ضرورة لأنْ يرث المهاجر أخاه الأنصاري.
فقررت الآيات أن أُولى الأرحام بعضهم أولى ببعض في مسألة الميراث، فقال سبحانه: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين..} [الأحزاب: 6] فقد استقرت أمور المهاجرين، وعرف كل منهم طريقه ورتبَّ أموره، والأرحام في هذه الحالة أوْلَى بهذا الميراث.
وقوله تعالى: {وَأُوْلُو الأرحام..} [الأحزاب: 6] تنبيه إلى أن الإنسان يجب عليه أنْ يحفظ بُضْعة اللقاء حتى من آدم عليه السلام؛ لأنك حين تتأمل مسألة خَلْق الإنسان تجد أننا جميعاً من آدم، لا من آدم وحواء.
يُرْوى أن الحاجب دخل على معاوية، فقال له: رجل بالباب يقول: إنه أخوك، فقال معاوية: كيف لا تعرف إخوتي، وأنت حاجبي؟ قال: هكذا قال، قال: أدخله، فلما دخل الرجل سأله معاوية: أي إخوتي أنت؟ قال: أخوك من آدم، فقال معاوية: نعم، رحم مقطوعة، والله لأَكونَنَّ أول مَنْ يصلها.
وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً..} [الأحزاب: 6] الحق سبحانه يترك باب الإحسان إلى المهاجرين مفتوحاً، فمَنْ حضر منهم قسمة فَليكُنْ له منها نصيب على سبيل التطوع، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء: 8].
وقوله سبحانه: {كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً} [الأحزاب: 6] أي: في أم الكتاب اللوح المحفوظ، أو الكتاب أي: القرآن.
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية عامة لموكب الرسل جميعاً: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُم

نداء الايمان





قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
مختارات من تفسير الآيات 3 امانى يسرى القرآن الكريم
مختارات من تفسير الآيات 1 امانى يسرى القرآن الكريم
تفسير سورةالقصص للسعدى من الآية52:88 أم أمة الله القرآن الكريم
الرقية الشرعية كاملة من القرآن والسنة لؤلؤة الحَياة الرقية الشرعية والسحر
الطب النبوي و طريقة علاجه لمختلف الأمراض A7sas الطب البديل


الساعة الآن 04:32 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل