عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن قرَأ الآيتينِ مِن آخِرِ سورةِ البقرةِ في ليلةٍ كفَتَاه))؛ رواه ابن حبان.
ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى سبعة أقوال في معنى (كَفَتاه) في فتح الباري عند شرحه لكتاب فضائل القرآن:
القول الأول: بمعنى أجزأتاه عن قيام الليل، فلو أنه قرأهما قبل نومه ولم يستطع تلك الليلة أن يقوم الليل فقد كَفَتاه عن ذلك.
القول الثاني: أنهما كفتاه من قراءة القرآن مطلقًا، سواء كان يقرؤه في الصلاة أو في غير الصلاة.
القول الثالث: أنهما كَفَتاه فيما يتعلق بالاعتقاد، فكل العقيدة موجودة ومتضمنة في هاتين الآيتين؛ لأنهما اشتملتا على أمور الإيمان وأعماله وأصوله جميعًا، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورُسُله واليوم الآخر.
القول الرابع: أنهما كَفَتاه من كل شرٍّ، فلو قرأ في ليلته هاتين الآيتين لكَفَتاه من كل شرٍّ، وينام ليلته تلك آمنًا مطمئنًّا بإذن الله.
القول الخامس: وهو أخصُّ مما قبله، أنه بمعنى كفتاه شر الشيطان، فمن قرأهما فقد كفي شر الشيطان اللعين.
القول السادس: أنهما كَفَتاه شر الجن والإنس.
القول السابع: بمعنى أنهما تغنيانه عن طلب الأجر فيما سواهما، فينال بقراءة هاتين الآيتين من الثواب والأجر ما يغنيه عن طلب الأجر والثواب فيما سواهما.
وقال رحمه الله: "يجوز أن يراد ذلك كله، ففضل الله واسع".
ومن المعاني العظيمة التي حوتها هذه الآيات أنَّ من رحمة الله ولطفه بعباده سبحانه أنه لم يُكلِّفهم ما لا يدخل تحت طاقتهم، أو يشق عليهم مشقة كبيرة، كما جعل على الأمم السابقة من قبلنا مثل بني إسرائيل، حيث حرم عليهم أشياء، وأمرهم بأشياء، فكان التطهُّر من النجاسات مثلًا عند اليهود بقطع الثوب بدلًا من غسله، وهكذا حينما تابوا من عبادة العجل كان من توبتهم أن يقتلوا أنفسهم: ﴿ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 54]، يعني: أن يقتل بعضهم بعضًا، حتى قيل: إنه قُتِل منهم في يوم واحد سبعون ألفًا، هذه التوبة، في حين أن التوبة في هذه الأمة أن يندم، ويعزم ألَّا يعود، ويُفارق المنكر، فإن كان من قبيل المظالم ردَّها على أهلها، والحمد لله، فخفَّف علينا في هذه الشريعة السمحة، فمن فعل خيرًا جازاه به ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286] وهكذا جناياته تكون عليه يتحملها، ويتحمل تبعات جرائرها ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يرد تسمية العبادة كما يُسمِّي كثير من الفقهاء وأهل الكلام -يعني من الأصوليين ونحوهم- يسمونها تكاليف، يقول: هذا لم يرد عن الشارع تسمية الشرائع والعبادات التكاليف أبدًا، وإنما جاء في سياق النفي "لا يُكَلِّفُ فقط"، ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286].
فالعبد ضعيفٌ عاجزٌ مقصرٌ، فهو بحاجةٍ إلى عفو ربه، ومغفرته، ورحمته ومدده وعونه مهما فعل وامتثل، فالتقصير وارد، والخطأ حاصل، والنسيان ملازم.
نسأل الله أن يفتح علينا من بركات السماء وخيرات الأرض، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد