ينتقل الحق سبحانه إلى قضية عامة، هي قضية هؤلاء القوم الذين يعبدون غير الله ويجادلهم، ليُظهِر لهم فساد مسلكهم وبطلان عبادتهم دون الله، وقد ردَّ هؤلاء فقالوا: { { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ .. } [الزمر: 3].
ونقول أولاً: ما هي العبادة؟ العبادة أن يطيع العابدُ أمرَ معبوده ونهيه، فإذا كان الكفار يعبدون الشمس أو القمر أو الأصنام ... إلخ بماذا أمرتهم هذه الآلهة؟ وعن أي شيء نهَتْهم؟ ماذا أعدَّتْ هذه الآلهة لمن عبدها من الثواب؟ وماذا أعدتْ لمن كفر بها من عقاب؟
إذن: أنتم كاذبون في كلمة نعبدهم، وإذا كنتم تعبدونهم ليقربوكم إلى الله زُلْفى، فلماذا لا تتوجهون بالعبادة إلى الله مباشرة؟ فكيف تعبدون آلهة بلا منهج ولا عمل لها فيمن عبدها، ولا عمل لها فيمن كفر بعبادتها؟
وهذه المخلوقات التي يعبدونها من دون الله مخلوقة لله مُسخَّرة له سبحانه مُسبِّحة، وهي بريئة من هذا الشرك ولا ترضاه، بل هي أعبد لله منهم؛ لذلك نطقتْ الأحجار على لسان هذا الشاعر. وقالت:
فالحق سبحانه يناقشهم في هذه المسألة: { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ .. } [سبأ: 22] ادعوا هذه الآلهة المدَّعَاة، لكنهم لم يَدْعُوا، لعلمهم أن آلهتَهم المزعومة لن تجيب؛ لذلك أكمل الله لهم وأظهر لهم النتيجة: لو دعوتُم هذه الآلهة، فإنهم { لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ .. } [سبأ: 22].
فعلام إذن تعبدونهم، وهم لا يملكون شيئاً، ولم يصنعوا لكم معروفاً، ولا قدَّموا لكم خدمة { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا .. } [سبأ: 22] أي: في السماوات والأرض { مِن شِرْكٍ .. } [سبأ: 22] يعني: مع الله، أي ليس لهم مع الله شركة في مسألة الخَلْق { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } [سبأ: 22] يعني: لم يعاونوا الله حين خلق السماوات والأرض، والظهير هو المعين القوي، ومنه قول الحق سبحانه وتعالى: { { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [التحريم: 4].
والظهير من الظهر، وهو أقوى الأعضاء في الحمل، وفي الدفع، فالظهير: الذي يعاونك ويساندك بكل قوته.
والذين يدعون من دون الله آلهة يُحاجُّون بأشياء متعددة أولاً: الحق سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وجعله خليفة له في الأرض، وخلق له مُقوِّمات حياته قبل أنْ يخلقه، وتركه يرتع في نعمه ولم يُكلِّفه بشيء حتى سِنِّ البلوغ والنضج ويبلغ الإنسان سِنَّ النضج حين يصبح قادراً على إنجاب مثله.
وسبق أنْ مثَّلْنا ذلك بالثمرة، فهي لا تنضج، ولا يحلو طعمها في مذاق الإنسان، إلا إذا استوتْ بذرتها، بحيث إذا زُرِعَتْ أنبتت مثلها، وهذا من لُطْف الله بنا، وإلا لو حَلَتْ الثمرة قبل نضج بذرتها لأكلنا الثمار مرة واحدة، وانقطع نوعها بعد ذلك.
ويشاء الخالق سبحانه أن يجعل للتكاثر النسلي في الإنسان تكاثراً نسلياً أعظم منه في الخيرات بما يمثل احتياطاً واسعاً يُؤمِّن حاجة الإنسان، فحبة البطيخ الواحدة تنتج شجرة بها عدة ثمار، بها مئات البذور؛ لأننا نزرع بعضها ونتسلى (بقزقزة) الكثير منها.
والحق سبحانه أخذ علينا ميثاق الذرِّ، والبشر جميعاً في ظهر آدم عليه السلام، وأشهدهم على أنفسهم قبل أنْ تتأتى لهم شهوات النفس المعارضة لمنهج الله { { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ .. } [الأعراف: 172-173].
وهذا العهد فِطريٌّ في النفس الإنسانية، وما جاءت الأديان إلا لتنفضَ عن هذه الفطرة غبار الغفلة وغبار الشهوات؛ لذلك لم يأت الرسل لتأسيس دين، إنما للتذكير بهذا العهد القديم: { { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } [الغاشية: 21].
لذلك، فالإنسان منا حين تتناوبه الأحداث، وتعزّ عليه الأسباب، ولا يرى مُنقذاً، ترده هذه الفطرة إلى القوة الخفية التي ستنقذه، فتجده يقول مستنجداً ومستغيثاً: يا هوه يعني يا هو، وهو ضمير غيبة، إنما أشد إعلاماً من الاسم الظاهر، لماذا؟ لأنك حين تقولها لا تنصرف إلا لغائب عن عينك واحد هو الله.
لذلك قال سبحانه: { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] ولم يقُلْ: قُلْ الله أحد؛ لأنه لا يخطر ببالك حين تقولها إلا الله خصوصاً في الشدة، وحين تعزّ عليك الأسباب، فلا يسعفك إلا ربك، كما قال سبحانه: { { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ .. } [الإسراء: 67].
وفي الشدة والضيق لا يكذب الإنسان على نفسه ولا يخدعها، فترى حتى الكفار عند الشدة يقولون: يا رب، وتردُّهم الفطرة إلى الله الحق.
لكن ما دام الإيمان الفطري بهذه القوة، ما الذي يطمسه في النفس الإنسانية؟ قالوا: تطمسه الشهوات حين تتحرك في اتجاه مخالف لمنهج الله، فالمنهج يهدف إلى تهذيب الشهوات والغرائز والحدّ من عنفوانها، ولا يُعَدُّ هذا تعدياً عليها، وإلا فلماذا خلقها؟
لا بُدَّ أن لها مهمة، فالغريزة الجنسية مثلاً جُعِلتْ لبقاء النوع، ولم تُجعَل للشراسة والعربدة في أعراض الآخرين، كذلك جعل الله الغضب غريزة ولها مهمة. فالحق أباح لك أنْ تغضب حين تُستغضب.
لذلك قالوا: مَنِ اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار، ومع ذلك يأمرنا ربنا بالحلم، ويقول سبحانه: { { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ .. } [المائدة: 8] يعني: لا يُخرجك الغضب عن حَدِّ الاعتدال، ولا يدعوك إلى الظلم، فالحق سبحانه لا يكبت فيك هذا الشعور، لكن يقيده حتى لا نطغى بسببه.
وقصة سيدنا عمر في هذا الموضوع وضعت لنا المبدأ، فيُروى أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - رأى قاتل أخيه زيد بن الخطاب في المعركة، فانصرف عنه، فذَكّروه: هذا قاتل أخيك، فقال: وماذا أفعل به، وقد هداه الله للإسلام، فكأن الإسلام برَّد نار الثأر في نفسه، والإسلام كما علمنا يجُبُّ ما قبله.
كذلك الإسلام يجبُّ الغضب - فلما واجه عمر قاتل أخيه قال له: يا هذا أدِرْ وجهك عني، فإني لا أحبك - قالها عمر بما عنده من غريزة الغضب - فقال الرجل: أو عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ قال: لا. قال: إنما يبكي على الحب النساء، يعني: لا يهمني تحب أم تكره، المهم أن حقي محفوظ.
كذلك حب الاستطلاع غريزة، جعلها الله في الإنسان ليكشف بها أسراره في الكون، فلا تجعلها تلصُّصاً على أعراض الناس وأسرارهم.
إذن: ما جاء الدين ليكبت الغريزة أو ليقضي عليها، إنما جاء ليعلو بها ويُهذِّبها، ويقف بها عند حدِّ الاعتدال والمهمة التي خلقت من أجلها؛ لذلك قلنا: إن الإسلام يجمع للمؤمن في بعض المواقف بين الشيء ومقابله كما في قوله سبحانه: { { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ .. } [الفتح: 29].
ورحم الله الإمام علياً - رضي الله عنه - حين قال:
فالشدة مطلوبة ولها موضعها، والذلة مطلوبة ولها موضعها، إذن: الموقف الإيماني هو الذي يصنعك، والمنهج إنما جعله الله لتستقيم به أمور الحياة، فإذا كلَّفك الله بشيء يصادم شهوة في نفسك، فلا تقُلْ إن الشرع صادم شهوتي، بل خُذْها من باب الكرم الواسع، وقُل وصادم شهوات الآخرين من أجلي، فالشرع حين قال لك: لا تسرق وأنت واحد قال للملايين: ألاَّ يسرقوا منك.
وحين تصطدم الفطرة السَّوية والتديُّن الطبيعي بشهوات النفس يبحث الإنسان عن تديُّن يُرضي شهواته ويُشبع غرائزه، فهو يريد أنْ يكون متديناً، وفي الوقت ذاته يريد ألاَّ تُقيَّد شهواته، فماذا يفعل؟ يلجأ إلى عبادة آلهة بلا منهج وبلا تكاليف، ومن هنا عبد الناسُ غير الله، ودَعْك ممن عبدوا الأَشجار والأحجار، وتأمل الذين عبدوا الملائكة مثلاً، هل أمرتهم بشيء أو نهتهم عن شيء؟
لذلك الحق سبحانه يقول: { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ .. } [سبأ: 22] ولو بحثنا مسألة الشركاء بالعقل لظهر بطلانها وكذبها، فإذا كان لله تعالى شركاء، ومعه سبحانه آلهة أخرى، فأين هم؟ أدرَوْا بأن الله تعالى استبدَّ بالألوهية، وشهد بها لنفسه، وأعلنها صراحة من دونهم؟ إنْ كانوا على دراية بذلك، فلما تركوه سبحانه يستبد بالألوهية؟ وإنْ كانوا لم يدروا بذلك فهم آلهة نيام؟ وفي كلتا الحالتين لا يستحقون هذه الألوهية.
لذلك الحق سبحانه يمسُّ هذه القضية مسَّاً جميلاً، فيقول: { { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [الإسراء: 42] يعني: لو كان صحيحاً وجود آلهة مع الله لَذَهبوا إليه ليناقشوه، لماذا استبدَّ بالألوهية من دونهم، أو لذَهبوا إليه ليتقوه، وليتقربوا إليه.
وأرقى ما يعبد المشركون يعبدون الملائكة، وكأن عبادتهم أصبحتْ قريبة من عبادة الله، والله يقول عن الملائكة: { { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 26-27].
ويردُّ القرآن عليهم: { { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ .. } [الإسراء: 57].
فهؤلاء الملائكة الذين تعبدونهم من دون الله هم أنفسهم يتقربون إلى الله ويتوسَّلون إليه، الأقرب منهم يتوسَّل إلى الله، ويحب أن يكون أكثر قُرْباً، فإذا كان الأقرب هو الذي يبتغي الوسيلة والقرب، فما بالك بالقريب؟ وما بالك بالبعيد والأبعد؟ إذن: أنتم أغبياء بعبادتكم الملائكة، وهل تظنون أن خَلْقاً من خَلْق الله كالملائكة يرضى أنْ تعبدوه من دون الله، أو يقبل أنْ يشفع لك عند الله، هذا سَفَه في التفكير.
فالحق سبحانه وضع شروطاً للشفاعة، فقال: { { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [طه: 109].