أيها الموفق:
إياك أن تغتر بما وفقك الله إليه، فيدخل إلى قلبك العُجب بنفسك وعلمك وعملك ومالك وحجك وصلاتك ودعوتك وإنفاقك وبصالح قولك وعملك، فتصغر في عينيك ذنوبك أو تحتقر غيرك.
" فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى " [النجم: 32].
الحذر أشد الحذر من هذا الداء الخفي الذي لا ينتبه له إلا أُولو الألباب، خاصة ونحن في زمن تفتحت فيه كاميرات الأضواء وعدسات الأهواء !
أخي السائر على درب التوفيق:
ما بك من نعمة أو توفيق فمن الله وحده، فأسال المنعم والموفق على ما أعطاك وحباك واجتباك فهو القائل:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ " [فاطر: 3].
يقول الفقيه السمرقندي (رحمه الله): من أراد أن يكسر العجب، فعليه بأربعة أشياء:
1- أن يرى التوفيق من الله تعالى، فإذا رأى التوفيق من الله، فإنه يشتغل بالشكر، ولا يعجب بنفسه.
2- أن ينظر الموفق إلى النعماء التي أنعم الله بها عليه، فإذا نظر في نعمائه اشتغل بالشكر عليها، واستقل عمله، ولا يعجب به.
3- أن يخاف أن لا يُتقبل منه، فإذا اشتغل بخوف القبول لا يعجب بنفسه.
4- أن ينظر في ذنوبه التي أذنب قبل ذلك، فإذا خاف أن ترجح سيئاته على حسناته فقد كسر عجبه. ا.هـ.
أن تقرأ أيها الموفق في كتاب ربك الكريم: " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ " [المؤمنون: 61].
عن عائشة (رضي الله عنها) أنها قالت: يا رسول الله " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ " [المؤمنون: 60] هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: «لا يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل» [رواه الترمذي].
إن قلب المؤمن يستشعر يد الله عليه، ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة، ومن ثم يشعر بالهيبة، ويشعر بالوجل، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه، لم يوفه حقه عبادة وطاعة، ولم يقارب آياديه عليه معرفة وشكراً، كما قال صاحب كتاب في ظلال القرآن (رحمه الله) تعالى.
كما إنني احذر نفسي وأحبتي من إغلاق باب التوفيق والرشاد عنا من حيث لا نشعر، وما يفقه ذاك إلا من أراد الله به توفيقاً، هذا ما أشار إليه شقيق بن إبراهيم (رحمه الله) بقوله:
أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء:
· اشتغالهم بالنعمة عن شكرها.
· رغبتهم في العلم، وتركهم العمل.
· المسارعة إلى الذنب، وتأخير التوبة.
· الاغترار بصحبة الصالحين، وترك الاقتداء بفعالهم.
· إدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها.
· إقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها. ا.هـ.
أيها الموفق:
أعد قراءة هذه الأمور الستة، وقف عندها وتأملها بقلب واعٍ، واعرضها على نفسك، وتأمل في حالك ومآلك، وأجب عليها بصدق وصراحة، تجد أننا واقعون فيها إلا من رحم ربك.
قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» [رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني في صحيح الجامع].
إن الذي يعجب بنفسه وعمله، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والسداد نقول له:
أيها المسكين:
من الذي وفقك؟ من الذي أعانك؟ من الذي أعطاك؟
من الذي علمك؟ من الذي فهمك؟ من الذي أنطقك؟
إنك لم تبلغ ما بلغت إلا بتوفيقه لك، فاحمد الله، وكن من الشاكرين " بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ " [الزمر: 66].
بل تعلم أيها الموفق هذا الدرس من سفيان الثوري (رحمه الله) حين قال: كل شيء أظهرته من عملي فلا أعده شيئًا؛ لعجز أمثالنا عن الإخلاص إذا رآه الناس.
ويؤكد ذلك لك أحمد بن قدامه (رحمه الله) عندما قال: اعلم أن الله سبحانه هو المنعم عليك بإيجادك، وإيجاد أعمالك، فلا معنى لعجب عامل بعمله، ولا عالم بعلمه؛ إذ كل ذلك من فضل الله تعالى، وإنما الآدمي محل لفيض النعم عليه. ا.هـ.
" يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ " [الانفطار: 7].
يقول مطرف بن عبد الله الشخير (رحمه الله): لأن أبيت نائما وأصبح نادماً أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح مُعجبًا.
وتأمل في هذا الكلام القيم من مدرسة الإمام ابن القيم حيث يقول: اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي مرضاة الله، مطالعًا فيه منّة الله عليه به، وتوفيقه له فيه، وأنه بالله لا بنفسه ولا بمعرفته، وفكره وحوله وقوته، بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن، فالذي من عليه بذلك هو الذي منَّ عليه بالقول والفعل، فإذا لم يغب ذلك عن ملاحظته، ونظر قلبه، لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه، وغيبته عن شهود منّة ربه وتوفيقه وإعانته، فإذا غاب عن تلك الملاحظة، وثبّت النفس، وقامت في مقام الدعوى فوقع العجب، فسد عليه القول والعمل... كما في الفوائد.
قال رجل لتميم الداري: ما صلاتك بالليل؟
فغضب غضبًا شديدًا، ثم قال: والله لركعة أُصليها في جوف الليل في سرٍّ أحب إليَّ من أن أصلي الليل كله، ثم أقصه على الناس.
إنه فقه السلف الصالح وكفى، فهيا شمّر عن ساعد الجد والاجتهاد والصبر والمثابرة والمجاهدة والبذل والعطاء في سلوك طريق أهل التوفيق والرشاد، فمتى علم الله صدق نياتنا وسرائرنا، وفقنا الله إلى ما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال.
" وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ " [الرعد: 24].
" معالم على طريق التوفيق " لفيصل بن سعيد شهوان الزهراني