عناصر الخطبة:
العنصر الأول: تعريف حسن الخاتمة.
العنصر الثاني: علامات حسن الخاتمة.
العنصر الثالث: أسباب حسن الخاتمة.
العنصر الرابع: نماذج لبعض الناس خُتمت لهم بخاتمة السَّعادة.
الأدلة والبيان.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، وقال يوسف - عليه السلام -: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101].
وقال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]، هذه الآيات وغيرها يوصي الرؤوف الرحيم عباده بالثبات على الدين والموت على الإسلام، لأنه من حصل له ذلك فاز الفوز العظيم الذي لا فوز أكبر منه، وسعد السعادة التي لا شقاوة معها، فإن من علامات سعادة العبد حسن خاتمته، ولا أحسن، ولا أفضل من أن يموت العبد مؤمنًا بربه، راضيًا بدينه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بخواتيمها"
العنصر الأول: تعريف حسن الخاتمة:
حسن الخاتمة هو: أن يوفق العبد قبل موته للتقاصي عما يغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة، ومما يدل على هذا المعنى ما صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله) قالوا: كيف يستعمله؟ قال: (يوفقه لعمل صالح قبل موته) رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه الحاكم في المستدرك. أما العلامة التي يظهر بها للعبد حسن خاتمته فهي ما يبشر به عند موته من رضا الله تعالى واستحقاق كرامته تفضلا منه تعالى، كما قال جل وعلا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]، وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم، وفي قبورهم، وعند بعثهم من قبورهم.
ومما يدل على هذا أيضا ما رواه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) فقلت: يا نبي الله! أكراهية الموت، فكلنا نكره الموت؟ فقال: (ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه).
وفي معنى هذا الحديث قال الإمام أبو عبيد القاسم ابن سلام: (ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته، لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد، ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها، وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة)، وقال: (ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ﴾ [يونس: 7].
وقال الخطابي: (معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا، فلا يحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها، والكراهية بضد ذلك)
وقال الإمام النووي رحمه الله: (معنى الحديث أن المحبة والكراهية التي تعتبر شرعا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة، حيث ينكشف الحال للمحتضر، ويظهر له ما هو صائر إليه)
العنصر الثاني علامات حسن الخاتمة:
أما عن علامات حسن الخاتمة فهي كثيرة، وقد تتبعها العلماء رحمهم الله باستقراء النصوص الواردة في ذلك، ونحن نورد هنا بعضا منها، فمن ذلك:
1- النطق بالشهادة عند الموت:
ودليله ما رواه الحاكم وغيره أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)
كان حبيب العجمي يبكي ويقول: من ختم له بلا إله إلا الله دخل الجنة، ثم يبكي ويقول: ومن لي بأن يختم لي بلا إله إلا الله.
قصة: رجل عاش أربعين سنة يؤذن للصلاة لا يبتغي إلا وجه الله، وقبل الموت مرض مرضاً شديداً فأقعده في الفراش وأفقده النطق، فعجز عن الذهاب إلى المسجد، فلما اشتد عليه المرض بكى ورأى المحيطون به على وجهه أمارات الضيق وكأنه يخاطب نفسه قائلاً: يا رب أؤذن لك أربعين سنة وأنت تعلم أني ما ابتغيت الأجر إلا منك، وأحرم من الأذان في آخر لحظات حياتي، ثم تتغير ملامح هذا الوجه إلى البشر والسرور ويقسم أبناؤه أنه لما حان وقت الأذان وقف على فراشه واتجه إلى القبلة ورفع الأذان في غرفته، وما إن وصل إلى آخر كلمات الأذان: لا إله إلا الله خر ساقطاً على الفراش، فأسرع إليه بنوه فوجدوه قد مات. 2- الموت برشح الجبين
أي: أن يكون على جبينه عرق عند الموت، لما رواه بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (موت المؤمن بعرق الجبين) رواه أحمد والترمذي.
قصة: وأخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول والحاكم عن سلمان الفارسي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرقبوا الميت عند موته ثلاثًا».
إن رشحت جبينه وذرفت عيناه وانتشرت منخراه فهي رحمة من الله قد نزلت به.
وإن غط غطيط البكر المخنوق وخمد لونه وأزبد شدقاه فهو عذاب من الله قد حل به.
وأخرج سعيد بن منصور في سننه والمروزى في الجنائز عن ابن مسعود قال إن المؤمن يبقى عليه خطايا يجازي بها عند الموت فيعرق لذلك جبينه.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن علقمة بن قيس أنه حضر ابن عمٍ له وقد حضرته الوفاة فمسح جبينه فإذا هو يرشح.
فقال الله أكبر حدثني ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «موت المؤمن يرشح الجبين وما من مؤمن إلا له ذنوب يكافأ بها في الدنيا ويبقى عليه بقية يشدد بها عليه عند الموت».
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن علقمة أنه حضر ابن أخ له لما حضر (أي حضره الموت) فجعل يعرق جبينه فضحك فقيل له ما يضحكك..
قال سمعت ابن مسعود يقول: إن نفس المؤمن تخرج رشحًا وإن نفس الكافر أو الفاجر تخرج من شدقة كما تخرج نفس الحمار.
وإن المؤمن ليكون قد عمل السيئة فيشدد عليه عند الموت ليكفر بها وإن الكافر أو الفاجر ليكون قد عمل الحسنة فيهون عليه عند الموت.
وأخرج ابن أبي شيبة والمروزي عن سفيان قال: كانوا يستحبون العرق للميت قال بعض العلماء إنما يعرق جبينه حياءً من ربه لما اقترف من مخالفته لأن ما سبق منه قد مات.
3- الموت ليلة الجمعة أو نهارها
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر).
4- الاستشهاد في ساحة القتال في سبيل الله، أو موته غازياً في سبيل الله، أو موته بمرض الطاعون أو بداء البطن كالاستسقاء ونحوه، أو موته غرقاً.
ودليل ما تقدم ما رواه مسلم في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد).
سمعت طلحة بن خراش قال: سمعت جابرا يقول:
لقيني النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي:
(يا جابر! مالي أراك منكسرا)؟ فقلت: يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا فقال:
(ألا أبشرك بما لقي الله به أباك)؟ قلت: بلى يا رسول الله قال:
(ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وإن الله أحيا أباك فكلمه كفاحا فقال: يا عبدي! تمن أعطك قال: تحييني فأقتل قتلة [ص:135] ثانية قال الله: إني قضيت أنهم لا يرجعون) ونزلت هذه الآية: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169].
5- الموت بسبب الهدم
لما رواه البخاري ومسلم عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله).
6- ومن علامات حسن الخاتمة، وهو خاص بالنساء: موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها أو هي حامل به
ومن أدلة ذلك ما رواه الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن عبادة بن الصامت أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبر عن الشهداء، فذكر منهم: (والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة) يعني بحبل المشيمة الذي يقطع عنه.
7- الموت بالحرق وذات الجنب
ومن أدلته أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد أصنافاً من الشهداء فذكر منهم الحريق، وصاحب ذات الجنب: وهي ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع.
8- الموت بداء السل:
حيث أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شهادة.
9- ومنها أيضاً ما دل عليه ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون ما له فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد).
10- الموت رباطا في سبيل الله:
لما رواه مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان). ومن أسعد الناس بهذا الحديث رجال الأمن وحرس الحدود براً وبحراً وجواً على اختلاف مواقعهم إذا احتسبوا الأجر في ذلك.
11- الموت على عمل صالح:
لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ختم له بها دخل الجنة) رواه الإمام أحمد وغيره.
فهذه نحو من عشرين علامة على حسن الخاتمة علمت باستقراء النصوص، وقد نبه إليها العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه القيم (أحكام الجنائز).
العنصر الثالث: أسباب حسن الخاتمة:
1-الاستقامة: في الاستقامة لِحَاقٌ برَكْبِ الأنبياء و المرسلين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، قال تعالى:
﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء:69].
وقد بيَّن المولى سبحانه أن اللحاق بركب المستقيمين والظفر بصحبتهم هي أمنية الأنبياء والمرسلين؛ فذَكَرَ من دعاء سليمان عليه السلام:
﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل:19].
وحكَىَ عن يوسف عليه السلام ابتهاله إلى ربه بقوله:
﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف:101].
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]
محمد بن المُنكدر رحمه الله:
يقول صفوان بن سليم رحمه الله: "أتيتُ محمدَ بنَ المنكدر وهو في الموت فقلت: يا أبا عبدالله، كأني أراك قد شَقَّ عليك الموت، فما زال يُهوِّن عليه الأمرَ، ويَنجلي عن محمد، حتى لَكان وجهُه المصابيحَ، ثم قال محمدُ بن المنكدر لصفوان: لو تَرى ما أنا فيه لَقرَّت عينُك، ثم مات"؛ (الثبات عند الممات: ص141).
آدم بن أبي إياس العسقلاني رحمه الله: قال أبو علي المقدسي: "لما حضرت آدمَ بنَ إياس الوفاةُ، خَتم القرآنَ، وهو مُسجًّى، ثم قال: بحُبِّي لك، إلا رَفقت بي في هذا المصرع، كنتُ أُؤمِّلُك لهذا اليوم، كنتُ أرجوك، ثم قال: لا إله إلا الله، ثم قضى"؛ (الثبات عند الممات: ص159).
2-حسن الظن بالله: مفهوم حسن الظن بالله تعالى: هو ظنّ ما يليق بالله تعالى واعتقاد ما يحق بجلاله وما تفتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا مما يؤثر في حياة المؤمن على الوجه الذي يرضي الله تعالى. قال علي بن طالب رضي الله عنه: حسن الظنّ بالله ألا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا ذنبك.
عن أبي هريرة رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( يقول الله تعالى أن عند حسن ظن عبدي بي )) رواه البخاري ومسلم.
عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: «كيف تجدك؟»، قال: والله يا رسول الله، إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف».
ودخل واثِلَةُ بن الأسْقَع على أبي الأسود الجُرَشي في مرضه الذي مات فيه، فسلم عليه وجلس. فأخذ أبو الأسود يمين واثلة، فمسح بها على عينيه ووجهه، فقال له واثلة: واحدةٌ أسألك عنها.
قال: وما هي؟
قال: كيف ظنك بربك؟
فأومأ أبو الأسود برأسه، أي حسن.
فقال واثلة: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء» رواه أحمد.
3-التقوى: و التقوى عباد الله هي سفينة النجاة التي من ركبها نجا و من تخلف عنها هلك في أمواج﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الزمر: 61] الفتن قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4].
أبو بكر بن أبي مريم رحمه الله:
يقول يَزيد بنُ عبدربه رحمه الله: "عُدت أبا بكر بن أبي مريم وهو في النَّزع، فقلت له: رحمك الله، لو جَرعت جرعة ماء؟ فقال بيده: لا، وكان صائمًا، ثم جاء اللَّيل، فقال: أُذِّنَ؟ فقلت: نعم، فقطرنا في فمِه قَطرةَ ماءٍ ثم مات"؛ (الثبات عند الممات: ص152).
4-الصدق: والصدق مفتاح الهداية طريق البر فمن صدق الله تعالى في نياته و في أحواله صدقه الله تعالى بالسلامة و حسن الخاتمة قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]
عن شداد بن الهادِ رضي الله عنه، أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: " أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيًا فقسَّم، وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم.
فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهمٍ فأموت فأدخل الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن تصدق الله يصدقك ".
فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحملُ قد أصاب السهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه ". ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: " اللهم هذا عبدك، خرج مهاجرًا، فقُتل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك ".
5-التوبة: التوبة هي بداية الطريق ووسطه و نهايته هي عنوان السعادة و منشور الولاية من منحها كان من المفلحين الفائزين قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8].
وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجل أسرف على نفسه ثم تاب وأناب فقبل الله توبته، والقصة رواها الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة، فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة، فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملَكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة. قال قتادة: فقال الحسن: ذُكِرَ لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره ).أخرجه أحمد و مسلم.
6-الدعاء: و الدعاء هو سلاح المؤمن و المجاهد لا يدع سلاحه حتى تنتهي المعركة و معركتي و معركتك مع الشيطان و لا تنتهي بالظفر و الانتصار حتى يختم للعبد بخاتمة السعادة لذا فالمؤمن لا يفتر لسانه بالدعاء فها هو حبيبك صلى الله عليه وسلم كان لا يفتُر لسانه عن هذا الدعاء: ((يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))؛ (الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - وصححه الألباني في صحيح الجامع: 7987).
وها هو الحق -جل وعلا -: يُعلِّمنا ويحثنا على أن ندعو بهذا الدعاء العظيم:
﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8].
وكان من دعاء الصالحين أن يتوفَّاهم اللهُ تعالى على الإيمان، وأن يُكفِّر عنهم السيِّئات، وأن يتوفاهم مع الأبرار، وفي ذلك يقول عنهم الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193].
وقد كان مَطلب يوسفَ الصِّدِّيق عليه السلام: حين دعا ربَّه عند انقضاء أجلِه وذَهاب عمُره أن يُميتَه على الإسلام، ويَحشرَه في زُمرة الصالحين، كما قال ربُّ العالمين عنه: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101].
فاعلم أخي الحبيب. أنه لا ملجأ من الله إلا إليه؛ فعليك أن تلجأَ إليه في كل وقتٍ وحِينٍ ودائمًا وأبدًا، وأدعو الله أن يرزقَك حسنَ الخاتمة، وأن يُكرمك بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الجَنَّة، وألا يحرمك من نعمة النَّظر إلى وجهه الكريم -عز وجل.
العنصر الرابع: نماذج لبعض الناس خُتمت لهم بخاتمة السَّعادة:
وأخيرا نقف مع صور من حسن الخاتمة نسأل الله تعالى أن يحسن ختامنا
مجاهد بن جَبر رحمه الله يموت وهو ساجدٌ:
يقول الفَضل بنُ دُكَين رحمه الله: "مات مجاهدٌ وهو ساجدٌ"؛ (الثبات عند الممات: ص123).
عبد الله بن المبارك رحمه الله:
قيل: إن عبدالله بنَ المُبارك لما حضرته الوفاةُ فتح عينيه، وضحِك، وقال: ﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ [الصافات: 61].
وهذا حدث أيضًا مع شيخ القُرَّاء أبي بكر النَّقاش، وأبي بكر النَّيسابُوري، ورِبعي بن حِراش العبسي.
العلاء بن زياد العدوي رحمه الله:
يقول زُهير بن أبي عطيَّة: "لما احتضر العلاءُ بن زياد العدوي، بكى، فقيل له: ما يُبكيكَ؟ قال: كنتُ - واللهِ - أحِبُّ أن أستقبل الموتَ بالتوبة، فقيل له: فافعل رحمك الله، قال: فدعا بطَهور، فتطهَّر، ثم دعا بثَوبٍ له جديدٍ، فلبِسَه، ثم استقبل القبلةَ، فأومأ برأسِه مرَّتين.. أو نحو ذلك، ثم اضجع، فمات"؛ (المحتضرين لابن أبي الدنيا: ص126).
إبراهيم بن عبدالواحد المقدسي رحمه الله:
"حُكِي عنه أنه لما جاءه الموتُ، جعل يقول: يا حيُّ يا قيُّوم، برحمتك أستغيث! واستقبل القبلةَ، وتشهَّد"؛ (سير أعلام النبلاء: 22/51).
في "صفة الصَّفوة": عن عبدالعزيز بن أبي رواد قال:
"دخل قومٌ حُجَّاجٌ ومعهم امرأة تقول: أين بيتُ ربي.. أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة تَرَينه، فلما رأوه قالوا: هذا بيتُ ربِّك، أما ترينه؟ فخرجت تشتد وتقول: "بيت ربي.. بيت ربي"، حتى وضعت جبهتها على البيت، فوالله ما رُفِعَت إلا ميتة.
وقال الشيخ القحطاني في "تذكرة الإخوان":
"حدَّثَنى صاحبٌ لنا أنه مات رجل من قريتِهم، وكان مُؤذِّنًا للقرية ولا يأخذ على ذلك أجرًا، وكانت له مزرعة، لا يمنع أحدًا الأكلَ منها، لا من إنسان، ولا من حيوان، وكان كثيرَ الصَّدَقة، فمرِض قبل موته لمدة أربعة أيام، وعند احتضاره اجتمعنا، وكان لا يكلمنا، وكان يردد: "أستغفر الله، لا إله إلا الله"، وفجأة رفع يده في الهواء، كأنه يصافح أحدًا، وهو يقول: أهلاً بصديقي وحبيبي، ثم مات.
وقال أيضًا: "إنه أنزل رجلاً في قبره في ليلة ظلماء، شديدة الظُّلمة، وكان الجوُّ غائمًا، وكان هذا الرجل من الدعاة، وقد مات ليلة الجمُعة، وصلَّى عليه الشيخ ابنُ باز، ثم ذهبنا للمقبرة، وطلبنا من أحد الإخوة أن يأتينا بسراج أو كشَّاف لكي ننير القبر، ولكنه أبطأ علينا، فأخذت أعسُّ اللحد بيدي، فقلت للإخوة: أعطوني الميت، فلمَّا سللته من جهة الرِّجلَين، ووضعته في قبره، وفككت تلك الأربطة، وإذا بالأنوار خرجت من ذلك القبر، وأنارت القبر، ورآه كلُّ مَن كان معي، وكانت رائحة المسك تخرج من ذلك القبر.
مات وهو على هيئة الصلاة:
وهذه قصة رجلٌ يُدعى "ناصرًا"، وكان رجلاً صالحًا يَعمل نجَّارًا في الرياض، وكان كلما حان وقت سُنَّة الضحى، أغلق دكَّانه، وانطلق إلى المسجد المجاور للدُّكان، ثم توضأ وصلَّى سُنَّة الضُّحى، فبعد أن يَنتهي من صلاته: يَعود فيفتح دكانه، ثم يَعمل فيه، وفي يوم مِن الأيام أغلق دكانه كعادته، ودخل المسجد ليُصلِّي الضحى فتوضأ، ثم كبَّر وصلَّى، وما أن انتهى من الرَّكعة الأولى، وشرع في الركعة الثانية، فوضع يده اليمنى على اليسرى على الصدر، ثم مات وهو يُناجي ربه، مات وهو يُصلِّي، وما علموا بموته إلا عندما دخل المؤذن ليُؤذِّن لصلاة الظهر، فحملوه إلى بيته، وقاموا بتغسيله، فكلما أعادوا يده إلى جنبه، أعادها مرَّة أخرى إلى صدره، فكفَّنوه ويده موضوعة على صدره، كهيئتها في الصلاة، وسيُبعث هكذا إن شاء الله، فمَن مات على شيء، بُعِث عليه.
ماتت وهي ساجدة:
"وهذه قصة امرأة عَجوز، بلغت الثَّمانين من عُمُرها في مدينة الرِّياض، وكلَّما جلست مع النِّساء، رأت أن المجلس لا يُصرف إلا في القِيل والقال، وفي إضاعة الأوقات، فاعتزلت هذه المجالس، وجلست في بيتها تذكر اللهَ تعالى آناء الليل وأطراف النَّهار، وجعلت تصوم النهار، وتقوم اللَّيل، وكان لها ولدٌ بارٌّ بها، وفي ليلة من الليالي قامت لتُصلِّي، يقول ابنها: وفي آخر الليل إذا بها تنادي عليَّ، قال: فتقدَّمْتُ وذهَبْتُ إليها، فإذا هي ساجِدة - على هيئة السُّجود - وتقول: يا بُنيَّ، ما يتحرك فيَّ الآن سوى لساني، قال: إذًا أذهب بكِ إلى المستشفى، قالت: لا، وإنما أقعدني هنا، قال: لا والله، لأذهبنَّ بكِ إلى المستشفى، وقد كان هذا الابن حريصًا على برِّها، فأخذها وذهب بها إلى المستشفى، وتجمَّع الأطباء واحتاروا في أمرها، ولم يَعرفوا السَّبب الذي جعل جسدها يتيبَّس على هيئة السجود، ولما عجزوا قالت لابنها: أسألك اللهَ أن تردَّني على سجادتي في بيتي، فأخذها وذهب بها إلى البيت، ثم وضَّأها وأعادها على سجادتها، فقامت تُصلِّي، يقول: وقبل الفجر بوقتٍ ليس بطويل، وإذا بها تُناديني، وتقول: يا بُنيَّ، أستودعك اللهَ الذي لا تَضيع ودائعُه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، لتصعد رُوحها إلى بارئها - جل وعلا - وهي ساجدة، فغسَّلُوها وهي ساجدة، وكفَّنُوها وهي ساجدة، وحملوها إلى الصلاة عليها وهي ساجدة، وحملوها بنعشها إلى القبر وهي ساجدة، ودُفنت وهي ساجدة، وستبعث إن شاء الله وهي ساجدة؛ فمَن مات على شيء بُعِثَ عليه؛ (ا.هـ. بتصرف من محاضرة للشيخ علي القرني بعنوان "كلنا ذوو خطأ").
السيد مراد سلامة
شبكة الالوكة