أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي (وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ

تفسير الشيخ الشعراوي

(وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً )٦٠-الإسراء


اذكر يا محمد، وليذكر معك أصحابك إذ قلنا لك: إن ربك أحاط بالناس، فلا يمكن أن يتصرفوا تصرُّفاً، أو يقولوا قولاً يغيب عن عِلْمِه تعالى، لأن الإحاطة تعني الإلمام بالشيء من كُلّ نواحيه.
وما دام الأمر كذلك فاطمئن يا محمد، كما نقول في المثل (حُط في بطنك بطيخة صيفي)، واعلم أنهم لن ينالوا منك لا جهرة ولا تبييتاً، ولا استعانة بالجنس الخفي (الجن)؛ لأن الله محيط بهم، وسيبطل سَعْيَهم، ويجعل كَيْدهم في نحورهم.


لذلك لما تحدَّى الحق سبحانه وتعالى الكفار بالقرآن تحدَّى الجن أيضاً، فقال: { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الإسراء: 88].
ففي هذا الوقت كان يشيع بين العرب أن كل نابغة في أمر من الأمور له شيطان يُلهمه، وكانوا يدَّعُون أن هذه الشياطين تسكن وادياً يسمى "وادي عبقر" في الجزيرة العربية، فتحدّاهم القرآن أنْ يأتوا بالشياطين التي تُلهمهم.


وهكذا يُطمئن الحق سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه يحيط بالناس جميعاً، ويعلم كل حركاتهم ظاهرة أو خفيّة من جنس ظاهر أو من جنس خفيّ، وباطمئنان رسول الله تشيع الطمأنينة في نفوس المؤمنين.
وهذا من قيوميته تعالى في الكون، وبهذه القيومية نردُّ على الفلاسفة الذين قالوا بأن الخالق سبحانه زاول سلطانه في الكون مرة واحدة، فخلق النواميس، وهي التي تعمل في الكون، وهي التي تُسيّره.
والرد على هذه المقولة بسيط، فلو كانت النواميس هي التي تُسيِّر في الكون ما رأينا في الكون شذوذاً عن الناموس العام؛ لأن الأمر الميكانيكي لا يحدث خروجاً عن القاعدة، إذن: فحدوث الشذوذ دليل القدرة التي تتحكم وتستطيع أن تخرق الناموس.


ومثال ذلك: النار التي أشعلوها لحرق نبي الله وخليله إبراهيم - عليه السلام - فهل كان حظ الإيمان أو الإسلام في أن ينجو إبراهيم من النار؟
لا .. لم يكن الهدف نجاة إبراهيم عليه السلام، وإلا لما مكَّنهم الله من الإمساك به، أو سخر سحابة تطفئ النار، ولكن أراد سبحانه أن يُظهر لهم آية من آياته في خَرْق الناموس، فمكّنهم من إشعال النار ومكّنَهم من إبراهيم حتى ألقوْه في النار، ورأَوْهُ في وسطها، ولم يَعُدْ لهم حجة، وهنا تدخلت القدرة الإلهية لتسلب النار خاصية الإحراق: { قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69].


إذن: فالناموس ليس مخلوقاً ليعمل مطلقاً، وما حدث ليس طلاقة ناموس، بل طلاقة قدرة للخالق سبحانه وتعالى.
فكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُسلِّي رسوله ويُؤْنِسه بمدد الله له دائماً، ولا يفزعه أن يقوم قومه بمصادمته واضطهاده، ويريد كذلك أنْ يُطمئن المؤمنين ويُبشِّرهم بأنهم على الحق.


وقوله تعالى: { أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ .. } [الإسراء: 60].
الإحاطة تقتضي العلم بهم والقدرة عليهم، فلن يُفلتوا من علم الله ولا من قدرته، ولا بُدَّ من العلم مع القدرة؛ لأنك قد تعلم شيئاً ضاراً ولكنك لا تقدر على دَفْعه، فالعلم وحده لا يكفي، بل لا بُدَّ له من قدرة على التنفيذ، إذن: فإحاطته سبحانه بالناس تعني أنه سبحانه يُعلِّمهم ويقدر على تنفيذ أمره فيهم.
كلمة (الناس) تُطلَق إطلاقاتٍ متعددة، فقد يراد بها الخلْق جميعاً من آدم إلى قيام الساعة، كما في قول الحق تبارك وتعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ * مَلِكِ ٱلنَّاسِ * إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ * مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ * ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ * مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [الناس: 1-6].
وقد يُراد بها بعض الخَلْق دون بعض، كما في قوله تعالى: { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ .. } [النساء: 54].
فالمراد بالناس هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عنه كفار مكة: { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
وكما في قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ .. } [آل عمران: 173] فهؤلاء غير هؤلاء.


وقد وقف العلماء عند كلمة الناس في الآية: { إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ .. } [الإسراء: 60] وقصروها على الكافرين الذين يقفون من رسول الله موقف العداء، لكن لا مانع أن نأخذ هذه الكلمة على عمومها، فُيَراد بها أحاط بالمؤمنين، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاط بالكافرين وعلى رأسهم صناديد الكفر في مكة.


لذلك فالإحاطة هنا ليست واحدة، فلكل منهما إحاطة تناسبه، فإنْ كنتَ تريد الإحاطة بالمؤمنين وعلى رأسهم رسول الله فهي إحاطة عناية وحماية حتى لا ينالهم أذى، وإنْ أردتَ بها الكافرين فهي إحاطة حصار لا يُفلِتون منه ولا ينفكُّون عنه، وهذه الإحاطة لها نظير، وهذه لها نظير.
فنظير الإحاطة بالكافرين قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ .. } [يونس: 22].
أي: حُوصِروا وضُيِّق عليهم فلا يجدون منفذاً.
ونظير الإحاطة بالمؤمنين وعلى رأسهم رسول الله قوله تعالى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } [الصافات: 171-172].


فالحق سبحانه محيط بالمؤمنين وبرسوله صلى الله عليه وسلم إحاطة عناية، وكأنه يقول له: امْضِ إلى شأنك وإلى مهمتك، ولن يُضيرك ما يُدبِّرون.
لذلك كان المؤمنون في أَوْج فترات الاضطهاد والقسوة من الكفار في وقت كل المؤمنون غير قادرين حتى على حماية أنفسهم ينزل قول الحق تبارك وتعالى: { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [القمر: 45].
حتى أن عمر - رضي الله عنه - الذي جاء القرآن على وَفْق رأيه يقول: أيّ جَمْع هذا؟! ويتعجب، كيف سنهزم هؤلاء ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا وهذه تسلية لرسول الله وتبشير للمؤمنين، فمهما نالوكم بالاضطهاد والأذى فإن الله ناصركم عليهم.
وكما قال في آية أخرى: { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 173].




فاذكر جيداً يا محمد حين تنزل بك الأحداث، ويظن أعداؤك أنهم أحاطوا بك، وأنهم قادرون عليك، اذكر أن الله أحاط بالناس، فأنت في عناية فلن يصيبك شرٌّ من الخارج، وهم في حصار لن يُفلِتوا منه.


ثم يقول تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّؤيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ .. } [الإسراء: 60].
كلمة { ٱلرُّؤيَا } مصدر للفعل رأى، وكذلك (رؤية) مصدر للفعل رأى، فإنْ أردتَ الرؤيا المنامية تقول: رأيتُ رُؤْيا، وإنْ أردتَ رأي البصرية تقول: رأيتُ رؤية.
ومن ذلك قول يوسف عليه السلام في المنام الذي رآه: { وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ .. } [يوسف: 100].
ولم يَقُلْ رؤيتي. إذن: فالفعل واحد، والمصدر مختلف.


وقد اختلف العلماء: ما هي الرؤيا التي جعلها الله فتنة للناس؟
جمهرة العلماء على أنها الرؤيا التي ثبتتْ في أول السورة: { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا .. } [الإسراء: 1] أي: حادثة الإسراء والمعراج.
وبعضهم رأى أنها الرُّؤْيا التي قال الله فيها: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } [الفتح: 27].
فقد وعد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأنهم سيدخلون المسجد الحرام في هذا العام، ولكن مُنِعوا من الدخول عند الحديبية، فكانت فتنة بين المسلمين وتعجبوا أنْ يعدهم رسول الله وَعْداً ولا ينجزه لهم
.
ثم بيّن الحق - تبارك وتعالى - لهم الحكمة من عدم دخول مكة هذا العام، فأنزل على رسوله وهو في طريق عودته إلى المدينة: { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الفتح: 25].
إذن: الحق سبحانه منعهم تحقيق هذه الرؤيا في الحديبية؛ لأنهم لو دخلوا مكة مُحاربين حاملين السلاح، وفيها مؤمنون ومؤمنات لا يعلمهم أحد، وسوف يصيبهم من الأذى وينالهم من هذه الحرب؛ لأنهم لن يُميِّزوا بين مؤمن وكافر، فقد يقتلون مؤمناً فتصيبهم مَعَرَّةٌ بقتله، ولو أمكن التمييز بين المؤمنين والكفار لدخلوا مكة رَغْماً عن أُنُوف أهلها.
لذلك كان من الطبيعي أنْ يتشكَّكَ الناس فيما حدث بالحديبية، وأن تحدث فتنة تزلزل المسلمين، حتى إن الفاروق ليقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألسنا على الحق؟ أليسوا هم على الباطل؟ ألستَ رسول الله؟ فيقول أبو بكر: الزم غَرْزَه يا عمر، إنه رسول الله.
وقد ساهمتْ السيدة أم سلمة - أم المؤمنين - في حَلِّ هذا الإشكال الذي حدث نتيجة هذه الفتنة، فلما اعترض الناس على رسول الله في عودته من الحديبية دخل عليها، فقال: "يا أم سلمة، هلك المسلمون، أمرتُهم فلم يمتثلوا" . فقالت: يا رسول الله إنهم مكروبون، جاءوا على شَوْق للبيت، ثم مُنِعوا وهم على مَقْرُبة منه، ولا شكَّ أن هذا يشقّ عليهم، فَامْضِ يا رسول الله لما أمرك الله، فإذا رأوك عازماً امتثلوا، ونجح اقتراح السيدة أم سلمة في حل هذه المسألة.


وقال بعضهم: إن المراد بالرؤيا التي جعلها الله فتنة ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة بدر، حيث أقسم وقال: "والله لكأني انظر إلى مصارع القوم. وأخذ يومِئ إلى الأرض وهو يقول: هذا مَصْرع فلان، وهذا مَصْرع فلان، وهذا مَصْرع فلان" .
وفعلاً، جاءت الأحداث موافقة لقوله صلى الله عليه وسلم فَقُلْ لي: بالله عليك، مَنِ الذي يستطيع أنْ يتحكَّم في معركة كهذه، الأصل فيها الكَرّ والفَرّ، والحركة والانتقال لِيُحدد الأماكن التي سيقتل فيها هؤلاء، اللهم إنه رسول الله.
لكن أهل التحقيق من العلماء قالوا: إن هذه الأحداث سواء ما كان في الحديبية، أو ما كان من أمر الرسول يوم بدر، هذه أحداث حدثتْ في المدينة، والآية المرادة مكية، مما يجعلنا نستبعد هذين القولين ويؤكد أن القول الأول - وهو الإسراء والمعراج - هو الصواب.


وقد يقول قائل: وهل كان الإسراء والمعراج رؤيا منامية؟ إنه كان رؤية بصرية، فما سِرّ عدول الآية عن الرؤية البصرية إلى الرؤيا المنامية؟ وكيف يعطي الحق سبحانه وتعالى للكفار والمشككين فرصة لأن يقول: إن الإسراء والمعراج كان مناماً؟
نقول: ومَنْ قال إن كلمة رؤيا مقصورة على المنامية؟ إنها في لغة العرب تُطلق على المنامية وعلى البصرية، بدليل قول شاعرهم الذي فرح بصيد ثمين عنَّ له:

فَكَبَّر لِلْرُؤْيَا وهَاش فُؤَادُهُوَبشَّرَ نَفْساً كَانَ قَبْلُ يَلُومُهَا

أي: قال الله أكبر حينما رأى الصيد الثمين يقترب منه، فعبَّر بالرؤيا عن الرؤية البصرية.
لكن الحق سبحانه اختار كلمة (رُؤْيَا) ليدل على أنها شيء عجيب وغريب كما نقول مثلاً: هذا شيء لا يحدث إلا في المنام. وهذا من دِقّة الأداء القرآني، فالذي يتكلم رَبّ، فاختار الرؤيا؛ لأنها معجزة الإسراء وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس في ليلة.
فَوَجْه الإعجاز هنا ليس في حدث الذهاب إلى بيت المقدس لأن كثيراً من كفار مكة قد ذهب إليها في رحلات التجارة أو غيرها، بل وَجْه الإعجاز في الزمن الذي اختُصِر لرسول الله، فذهب وعاد في ليلة واحدة، بدليل أنهم سألوا رسول الله "صِفْ لنا بيت المقدس".
ولو كانوا يشكُّون في الحدث ما سألوا هذا السؤال، إذن: فاعتراضهم على وقت هذه الرحلة التي كانوا يضربون إليها أكباد الإبل شهراً، ويخبر محمد أنه أتاها في ليلة واحدة، ولأن الإسراء حدث في هذا الزمن الضيق المختصر ناسب أن يُطلق عليه رؤيا، لأن الرؤيا المنامية لا زمنَ لها، ويختصر فيها الزمن كذلك.



ولقد توصّل العلماء الباحثون في مسألة وعي الإنسان أثناء نومه، وعن طريق الأجهزة الحديثة إلى أنْ قالوا: إن الذهن الإنساني لا يعمل أثناء النوم أكثر من سبع ثوان، وهذه هي المدّة التي يستغرقها المنام.
في حين إذا أردتَ أن تحكي ما رأيتَ فسيأخذ منكم وقتاً طويلاً. فأين الزمن - إذن - في الرؤيا المنامية؟ لا وجود له؛ لأن وسائل الإدراك في الإنسان والتي تُشعِره بالوقت نائمة فلا يشعر بوقت، حتى إذا جاءت الرؤيا مرَّتْ سريعة حيث لا يوجد في الذهن غيرها.


لذلك مَنْ يمشي على عجل لا يستغرق زمناً، كما نقول: (فلان يفهمها وهي طايرة) وهذا يدل على السرعة في الفعل؛ لأنه يركز كل إدراكاته لشيء واحد.
ومن ناحية أخرى، لو أن الإسراء والمعراج رؤيا منامية، أكانت توجد فتنة بين الناس؟ وهَبْ أن قائلاً قال لنا: رأيت الليلة أنني ذهبتُ من القاهرة إلى نيويورك، ثم إلى هاواي، ثم إلى اليابان، أنُكذِّبه؟!
إذن: قَوْل الله تعالى عن هذه الرؤيا أنها فتنة للناس عَدَّلَتْ المعنى من الرؤيا المنامية إلى الرؤية البصرية، وكأن الحق سبحانه اختار هذه الكلمة ليجعل من الكافرين بمحمد دليلاً على صدقه، فيقولون: نحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً وأنت تدعي أنك أتيتها في ليلة؟ فلو كانت هذه الحادثة مناماً ما قالوا هذا الكلام.


لكن، ما الحكمة من فتنة الناس واختبارهم بمثل هذا الحدث؟
الحكمة تمحيص الناس وصَهْرهم في بوتقة الإيمان لنميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من الكافر، فلا يبقى في ساحتنا إلا صادق الإيمان قويُّ العقيدة، لأن الله تعالى لا يريد أن يسلم منهجه الذي سيحكم حركة الحياة في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، إلا إلى قوم موثوق في إيمانهم ليكونوا أهلاً لحمل هذه الرسالة.
فكان الإسراء هو هذه البوتقة التي ميَّزَتْ بين أصالة الصِّدِّيق حينما أخبروه أن صاحبك يُحدِّثنا أنه أتى بيت المقدس، وأنه عُرِج به إلى السماء وعاد من ليلته، فقال: "إنْ كان قال فقد صدق" هكذا من أقرب طريق، فميزان الصدق عنده مجرد أن يقول رسول الله. وكذلك ميزت الزَّبَد الذي زلزلته الحادثة وبلبلته، فعارض وكذب.


ثم يقول تعالى: { وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ .. } [الإسراء: 60].
أي: وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنةً للناس أيضاً، وإنْ كانت الفتنة في الإسراء كامنَة في زمن حدوثه، فهي في الشجرة كامنة في أنها تخرج في أصل الجحيم، في قَعْر جهنم، ومعلوم أن الشجرة نبات لا يعيش إلا بالماء والري، فكيف تكون الشجرة في جهنم؟
ومن هنا كانت الشجرة فتنة تُمحِّص إيمان الناس؛ لذلك لما سمع أبو جهل هذه الآية جعلها مُشكلة، وخرج على الناس يقول: اسمعوا ما يحدثكم به قرآن محمد، يقول: إن في الجحيم شجرة تسمى "شجرة الزقوم"، فكيف يستقيم هذا القول، والنار تحرق كل شيء حتى الحجارة؟
وهذا الاعتراض مقبول عقلاً، لكن المؤمن لا يستقبل آيات الله استقبالاً عقلياً، وإنما يعمل حساباً لقدرته تعالى؛ لأن الأشياء لا تأخذ قوامها بعنصر تكوينها، وإنما تأخذه بقانون المعنصِر نفسه، فالخالق سبحانه يقول للشجرة: كوني في أصل الجحيم، فتكون في أصل الجحيم بطلاقة القدرة الإلهية التي قالت للنار: كُوني بَرْداً وسلاماً على إبراهيم.
وقد قال ابن الزَّبْعَري حينما سمع قوله تعالى: { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 62-64].
فقال: والله ما عرفنا الزقوم إلا الزُّبْد على التمر، فقوموا تزقَّموا معي، أي: استهزاءً بكلام الله، وتكذيباً لرسوله صلى الله عليه وسلم.
أما المؤمن فيستقبل هذه الآيات استقبالَ الإيمان والتسليم بصدق كلام الله، وبصدق المبلِّغ عن الله، ويعلم أن الأشياء لا تأخذ صلاحيتها بعنصر تكوينها، وإنما بإرادة المعنْصِر أن يكون؛ لأن المسألة ليست ميكانيكا، وليست نواميس تعمل وتدير الكون، بل هي قدرة الخالق سبحانه وطلاقة هذه القدرة.


ولسائل أن يقول: كيف يقول الحق سبحانه عن هذه الشجرة أنها (ملعونة)؟ ما ذنب الشجرة حتى تُلْعَن، وهي آية ومعجزة لله تعالى، وهي دليل على اقتداره سبحانه، وعلى أن النواميس لا تحكم الكون، بل ربّ النواميس سبحانه هو الذي يحكم ويُغيِّر طبائع الأشياء؟ كيف تُلْعَن، وهي الطعام الذي سيأكله الكافر ويتعذب به؟ إنها أداة من أدوات العقاب، ووسيلة من وسائل التعذيب لأعداء الله.
نقول: المراد هنا: الشجرة الملعون آكلها، لأنه لا يأكل منها إلا الأثيم، كما قال تعالى: { إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ * طَعَامُ ٱلأَثِيمِ } [الدخان: 43-44] والأثيم لا شَكَّ معلون.
لكن، لماذا لم يجعل المعلونية للآكل وجعلها للشجرة؟
قالوا: لأن العربي دَرَجَ على أن كل شيء ضار ملعون، أي: مُبْعَد من رحمة الله، فكأن الكافر حينما يرى هذه الشجرة هو الذي يلعنها، فهي ملعونة من آكلها. وقد أكل منها لأنه ملعون، إذن: نستطيع القول إنها ملعونة، وملعون آكلها.


ومن الإشكالات التي أثارتها هذه الآية في العصر الحديث قول المستشرقين الذين يريدون أن يتورّكوا على القرآن، ويعترضوا على أساليبه، مثل قوله تعالى عن شجرة الزقوم: { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ } [الصافات: 65].
ووَجْه اعتراضهم أن التشبيه إنما يأتي عادةً لِيُوضِّح أمراً مجهولاً من مخاطب بأمر معلوم له، أما في الآية فالمشبَّه مجهول لنا؛ لأنه غَيْب لا نعلم عنه شيئاً، وكذلك المشبَّه به لم نَرَهُ، ولم يعرف أحد مِنّا رأس الشيطان، فكيف يُشبِّه مجهولاً بمجهول؟ لأننا لم نَرَ شجرة الزقوم لنعرف طَلْعها، ولم نَرَ الشيطان لنعرف رأسه.
ثم يقولون: الذي جعل المسلمين يمرُّون على هذه الآية أنهم يُعطون للقرآن قداسة، هذه القداسة تُربّى فيهم التهيُّب أنْ يُقبلوا على القرآن بعقولهم ليفتشوا فيه، ولو أنهم تخلصوا من هذه المسألة وبدأوا البحث في أسلوب القرآن دون تهيُّب لاستطاعوا الخروج منه بمعطيات جديدة.
وللردِّ على قَوْل المستشرقين السابق نقول لهم: لقد تعلمتم العربية صناعة، وليس عندكم الملَكَة العربية أو التذوّق الكافي لفهم كتاب الله وتفسير أساليبه، وفَرْقٌ بين اللغة كملَكَة واللغة كصناعة فقط.
الملَكة اللغوية تفاعل واختمار للغة في الوجدان، فساعة أنْ يسمعَ التعبير العربي يفهم المقصود منه، أما اللغة المكتسبة - خاصة على كِبَر - فهي مجرد دراسة لإمكان التخاطب، فلو أن عندكم هذه الملكة لما حدث منكم هذا الاعتراض، ولعلمتم أن العربي قبل نزول القرآن قال:


يَغُطُّ غَطِيطَ البكْر شُدّ خِنَاقُهلِيقتُلَنِي والمرْءُ ليسَ بقتَّالِ
أَيقتُلِني وَالمشْرفيُّ مُضَاجِعِيوَمسْنُونَةٍ زُرْقٍ كأنْيَابِ أَغْوَالِ


فهل رأيتم الغول؟ وهل له وجود أصلاً؟ لكن الشاعر العربي استساغ أن يُشبّه سلاحه المسنون بأنياب الغول؛ لأن الغول يتصوَّره الناس في صورة بشعة مخيفة، فهذا التصوّر والتخيُّل للغول أجاز أنْ نُشبّه به.
وكذلك الشيطان، وإنْ لم يَرَهُ أحد أن الناس تتخيله في صورة بشعة وقبيحة ومخيفة، فلو كلّفنا جميع رسّامي الكاريكاتير في العالم برسم صورة مُتخيّلة للشيطان لرسم كل واحد منهم صورة تختلف عن الآخر؛ لأن كلاً منهم سيتصوره بصورة خاصة حَسْب تصوره للشيطان وجهة البشاعة فيه.
فلو أن الحق سبحانه شبَّه طَلْع شجرة الزقوم بشيء معلوم لنا لَتصوّرناه على وجه واحد، لكن الحق تبارك وتعالى أراد أنْ يُشيعَ بشاعته، وأنْ تذهب النفس في تصوُّر بشاعته كل مذهب، وهكذا يؤدي هذا التشبيه في الآية مَا لا يُؤديّه غيره، ويُحدِث من الأثر المطلوب ما لا يُحدِثه تعبير آخر، فهو إبهام يكشف ويجليِّ.


ثم يقول تعالى: { وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } [الإسراء: 60].
أي: نُخوّفهم بأنْ يتعرّضوا للعقوبات التي تعرّض لها المكذِّبون للرسل، فالرسل نهايتهم النصر، والكافرون بهم نهايتهم الخُذْلان. وأنت حينما تُخوّف إنساناً أو تُحذره من شر سيقع له، فقد أحسنتَ إليه وأسديتَ إليه جميلاً ومعروفاً، كالولد الذي يُخوِّف ابنه عاقبة الإهمال، ويُذكّره بالفشل واحتقار الناس له، إنه بذلك ينصحه ليلتفت إلى دروسه ويجتهد.
فقوله تعالى: { وَنُخَوِّفُهُمْ .. } [الإسراء: 60] التخويف هنا نعمة من الله عليهم، لأنه يُبشّع لهم الأمر حتى لا يقعوا فيه، وسبق أن ذكرنا أن التخويف قد يكون نعمة في قوله تعالى، في سورة الرحمن: { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 35-36].
فجعل النار والشُّوَاظ هنا نعمة؛ لأنها إعلام بشيء سيحدث في المستقبل، وسيكون عاقبة عمل يجب أن يحذروه الآن.
وقوله تعالى: { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } [الإسراء: 60].
أي: يزدادون بالتخويف طغياناً، لماذا؟ لأنهم يفهمون جيداً مطلوبات الإيمان، وإلا لو جهلوا هذه المطلوبات لقالوا: لا إله إلا الله وآمنوا وانتهت القضية، لكنهم يعلمون تماماً أن كلمة لا إله إلا الله تعني: لا سيادةَ إلا لهذه الكلمة، ومحمد رسول الله لا بلاغَ ولا تشريعَ إلا منه، ومن هنا خافوا على سيادتهم في الجزيرة العربية وعلى مكانتهم بين الناس، كيف والإسلام يُسوِّي بين السادة والعبيد؟!


إذن: كلما خوَّفْتهم وذكّرتهم بالله ازدادوا طغياناً ونفوراً من دين الله الذي سيهدم عليهم هذه السلطة الزمنية التي يتمتعون بها، وسيسحب بساط السيادة من تحت أقدامهم؛ لذلك تجد دائماً أن السلطة الزمنية لأعداء الرسل، وتأتي الرسل لهدم هذه السلطة، وجَعْل الناس سواسية.
وقد اتضح هدم الإسلام لهذه السلطة الزمنية للكفار عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان أهلها يستعدون لتنصيب عبد الله بن أُبيٍّ ملِكاً عليهم، فلما جاء رسول الله المدينة انفض الناس عن ابن أُبيٍّ، وتوجهت الأنظار إليه صلى الله عليه وسلم، وطبيعي - إذن - أن يغضب ابن أُبيٍّ، وأن يزدادَ كُرْهه لرسول الله، وأن يسعى لمحاربته ومناوأته، وأنْ يحسده على ما نال من حُبِّ الناس والتفافهم حوله.






نداء الايمان





قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
كتيب جوامع الدعاء..لكل من تريد الدعاء في أوقات الاستجابة ولا يحضرها دعاء أم أمة الله العقيدة الإسلامية
سور القران الكريم مكتوبة بالتشكيل شوشورضا القرآن الكريم
سورة الشعراء ,سورة الشعراء مكتوبة,سورة الشعراء مكتوبة بالتشكيل دوما لك الحمد القرآن الكريم
القرءان الكريم مكتوب ومقسم بالاجزاء,الجزء الاول والتانى والتالت شقاوة آنثى القرآن الكريم


الساعة الآن 02:10 PM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل