المدخل والمخرج مصدران، بمعنى الإدخال والإخراج، والإضافة هنا إلى الصدق مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ يمكن أن تكون للمبالغة، كالمبالغة في قولهم: حاتم الجود، مدخل صدق ومخرج صدق، وهذا المُدخل اختلفوا فيه كثيرًا، والقول الذي نقله عن بعض السلف كعبد الرحمن بن زيد وقتادة قال: المدخل: المدينة، والمخرج: مكة، هو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، واحتج له بما قبله، ورأى أن ذلك قرينة دالة على رجحانه وقوته؛ لأن الله قال قبله: وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ [سورة الإسراء:76] أي: من أرض مكة، لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا، فقال بعده: وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، أي: أخرجني من مكة، وأدخلني المدينة بهذه الصفة.
وبعضهم حمل ذلك على الإماتة والبعث، أي: أدخلني في الموت مدخل صدق، وأخرجني في البعث مخرج صدق،
وبعضهم حمله على باب المأمورات والمنهيات، أي: أدخلني فيما أمرتني به من طاعتك مدخل صدق، وأخرجني مما نهيتني عنه من معصيتك مخرج صدق،
وبعضهم يقول: أدخلني في الأمن مدخل صدق، وأخرجني من المخاوف مخرج صدق؛ لأنه قال قبله: وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ.
وبعضهم يقول: أخرجني من بين المشركين مخرج صدق، وأدخلني مدخل صدق،
وبعضهم يقول: إن المقصود أدخلني مدخل عز، وأخرجني مخرج نصر،
وبعضهم يقول: هذا يتعلق بأمر النبوة، أدخلني فيها لمّا أكرمتني بها مدخل صدق، وأخرجني منها أي: من تبعاتها مخرج صدق، فلا يحصل تقصير في البلاغ، والقيام بأمر الله -تبارك وتعالى، أخرجني منه إذا توفيتني مخرج صدق،
وبعضهم يقول: أدخلني في القبر مدخل صدق، وأخرجني منه بالبعث مخرج صدق.
وهذه الأقوال لا يوجد دليل على واحد منها بعينه، غاية ما هنالك أن بعض هذه الأقوال ربما احتُج له بقرينة تشعر عند القائل به برجحان قوله.
ولعل الأحسن من هذا كله -والله تعالى أعلم- قول من حمل ذلك على العموم، وقال: الله لم يحدد، وهذا دعاء علّمه الله لنبيه ﷺ، وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ في الأمور كلها، ومن ذلك المدينة، المهاجر الذي يهاجر إليه، وهكذا في كل شأن يدخل فيه من الأمور الحسية والمعنوية، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ في كل ما يخرج منه، سواء كان ذلك من الفراغ من الأمور المعنوية، أو الخروج حسًا مما يخرج منه، والعلم عند الله .
قال: (وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا السلطان)
هنا -كما في المواضع الأخرى- بعضهم حمله على الحجة القاهرة، وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا [سورة القصص:35]، وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [سورة الإسراء:33]، فبعضهم يقول: أي الحجة القاهرة يغلب بها أعداءه، مَن خالفه وناوأه، ويظهر عليهم بالحجة والبرهان، وبعضهم يقول: المقصود بذلك العز القاهر والقوة الغالبة، ويكون ذلك بالتمكن والملك.
وعلى كل حال وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا: يقول الحافظ ابن كثير: قال الحسن البصري في تفسيرها: وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس وليجعلنه له، وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له، وقال قتادة: إن نبي الله ﷺ علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب الله ولحدود الله ولفرائض الله ولإقامة دين الله، فيكون هنا بمعنى الملك، وليس بمعنى الحجة، فهذا القول اختاره ابن جرير -رحمه الله، وهو الذي يظهر أنه رجحه ابن كثير، وقد صرح برجحانه -أن المقصود العز القاهر والقوة الغالبة وليس الحجة، وابن جرير ذكر هذا، ولكن من تأمل قوله من أوله إلى آخره يجد أنه جمع بين القولين؛ لأنه قال آخِرًا بعدما ذكر هذا المعنى: العز والغلبة والملك والقهر، قال: وذلك لا يكون إلا بحجة قاهرة، فهذه الجملة الأخيرة في كلام ابن جرير -رحمه الله- تدل على أنه قصد الجمع بين القولين، وهذا جيد، والنبي ﷺ حصل له هذا وهذا.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى ذكره: رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ: أمر رسوله ﷺ أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق، وأخبر عن خليله إبراهيم ﷺ أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين، فقال: وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [سورة الشعراء:84]، وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ [سورة يونس:2] وقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ [سورة القمر:54، 55]، فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق، وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.
فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقًا ثابتًا بالله، وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعدائه يوم بدر، ومخرج الصدق كمخرجه ﷺ هو وأصحابه في تلك الغزوة، وكذلك مدخله ﷺ المدينة كان مدخل صدق بالله، ولله، وابتغاء مرضاة الله، فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب، فإنه لم يكن بالله، ولا لله، بل كان محادة لله ولرسوله، فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار، وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول الله ﷺ حصن بني قريظة، فإنه لما كان مدخل كذب أصابه معهم ما أصابهم، فكل مدخل ومخرج كان بالله ولله فصاحبه ضامن على الله، فهو مدخل صدق ومخرج صدق، وكان بعض السلف إذا خرج من داره رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجًا لا أكون فيه ضامنًا عليك، يريد أن لا يكون المخرج مخرج صدق؛ ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه بخروجه ﷺ من مكة ودخوله المدينة، ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل فإن هذا المدخل والمخرج من أجلِّ مداخله ومخارجه ﷺ[1].
هذا الكلام لا تجدونه لأحد، غير ابن القيم، رجل ألين له الكلام كما ألين لداود الحديد، والإنسان يدخل مداخل كثيرة ويخرج مخارج، أحيانًا يدخل مداخل الريب، أو يدخل مداخل كاذبة لا يريد بها وجه الله ، وإنما يريد دنيا، وعرضًا زائلًا، أو يريد ما عند الناس، كالمَحمدة في قلوب الخلق، وأحيانًا يريد أن يتوصل بهذا إلى أمور فاسدة، فالمنافق لا يدخل مدخل صدق، ولا يخرج مخرج صدق، وهكذا في الأمور التي يدخل فيها الإنسان من الأعمال والمشاريع، قد يدخل فيها بنية غير ثابتة، ولا يقوم بالعمل على الوجه المطلوب.
هذه الدقة عند ابن القيم -رحمه الله- مع أن الذين رجحوه ما قالوا بأنه على سبيل التمثيل، فابن جرير -رحمه الله- احتج لهذا القول -المدينة ومكة، بما قبله وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ، حتى في الحجة، وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا قال: الغلبة والقهر، قال: لأن هذا يُحتاج إليه؛ لأنه قال قبله: وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ فدفْعُهم يحتاج إلى قوة وتمكن وغلبة، فهم رجحوا هذا القول بعينه ولم يحملوه على التمثيل، لكن ابن القيم -رحمه الله- وجه ما ورد عن بعض السلف وحمله على هذا فقال: هذا يقصد به التمثيل، وإلا فالمعنى أعم من هذا بكثير.
وإلا فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق، ومخارجه مخارج صدق، إذ هي لله وبالله وبأمره ولابتغاء مرضاته. وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلًا آخر إلا بصدق أو بكذب فمخرج كل واحد ومدخله لا يعدو الصدق والكذب، والله المستعان.
وأما لسان الصدق فهو الثناء الحسن عليه ﷺ من سائر الأمم بالصدق، ليس ثناء الكذب، كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل -عليهم صلوات الله وسلامه: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [سورة مريم:50] والمراد باللسان ههنا الثناء الحسن، فلما كان الصدق باللسان -وهو محله- أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقًا، وعبر به عنه، فإن اللسان يراد به ثلاثة معان: هذا، واللغة، كقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [سورة إبراهيم:4] وقوله: وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [سورة الروم:22] وقوله: لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ [سورة النحل:103] ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [سورة القيامة:16]، وأما قدم الصدق ففسر بالجنة، وفسر بمحمد ﷺ وفسر بالأعمال الصالحة، وحقيقة القدم: ما قدموه، وما يقدمون عليه يوم القيامة، وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ﷺ ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك.
فمن فسره بها أراد: ما يقدمون عليه، ومن فسره بالأعمال وبالنبي ﷺ؛ فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم، فالثلاثة قدم صدق.
هذا ربط بين المعاني الثلاثة، العمل الذي هو السبب، والجزاء، والواسطة التي يُتوصل بها، أو الوسيلة التي يُعرف بها محابُّ الله ، وهو النبي ﷺ.
وأما مقعد الصدق: فهو الجنة عند الرب -تبارك وتعالى- ووصْفُ ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره وأنه حق، ودوامه ونفعه وكمال عائدته، فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله، فهو صدق غير كذب، وحق غير باطل، ودائم غير زائل، ونافع غير ضار، وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل. انتهى.
المقصود أن هذه الجملة تحمل على أعم المعاني، وذلك لا يختص بالنبي ﷺ وإنما يدعو به الإنسان في أحواله كلها، في كل ما يأتي ويذر، يعني حينما يدخل مكان العبادة -المسجد الحرام مثلًا، يدخل لماذا؟ من الناس من يدخل للفرجة، ومن الناس من يدخل للرياء، ومن الناس من يدخل للعبادة، ومنهم من يدخل لينظر إلى النساء، ويزاحمهن في الطواف، أو يتفرج على الناس وهم يطوفون، مثلًا. والآخر حين يدخل السوق، لماذا يدخل؟ بعضهم يدخل مدخل صدق، وبعضهم يدخل مدخل فجور، والذي يفتح متجرًا لماذا يدخل فيه؟ من الناس من يفتح متجرًا في سوق النساء ويصرح لأصحابه بأنه لم يفتح لحاجة، ولا من أجل التجارة، وإنما فخ يصطاد به النساء فقط، هذا مدخل فجور.
وقل مثل ذلك في الدراسة التي يدرسها الإنسان، لماذا يدرس؟ أحد الأشخاص دخل تخصصًا ويصرح لبعض أصحابه أنه دخل هذا من أجل أن يكون له منعة لأمر ما، فجر بامرأة وحصل اتفاق مبدئي على أنه يتزوجها، فدخل في تخصص معين؛ ليكون له منعة فلا يستطيعون إلزامه بهذا.
والطب بعض الناس يدخل فيه من أجْلِ مواساة الناس والمسح على آلامهم وهذا من أجلِّ الأشياء، فأصحاب المعاناة لا يشعر أحد بمشاعرهم إلا من جرب وعانى، فالطبيب يمسح على هذه الآلام، وهو من أشرف الأعمال ومن أجلِّها وأعظمها، ومما يقرب إلى الله ، وبعض الناس قد يدخل؛ من أجل أن يرى العورات، ويلمس النساء بطريقة حريرية مقبولة عند الجميع، لا غبار عليها عند كثير من الناس، ولا إشكال، مهذبة، لا سيما إذا تخصص في عورات النساء، الولادة ونحو ذلك، فهذا ساقط المروءة، لا تقبل شهادته، وليس له عدالة، فرجل يدخل في هذا التخصص! ليس بمدخل صدق، وبعض الناس يدخل يقول: أنا أريد مكانة اجتماعية عند الناس، فهذا ليس بمدخل صدق.
وهكذا العلوم الشرعية، فأجلُّ العلم هو العلم الشرعي ومع ذلك بعض الناس يدخل فيه ليقال: عالم، أو يقال: طالب علم، فهذا ليس بمدخل صدق، وهكذا الدخول في القنوات، وإلقاء الخطب والمحاضرات، ومصاحبة الأخيار، والعمل في المشاريع الدعوية وغير هذا، قد يكون مدخل صدق وقد لا يكون مدخل صدق، فبعض الناس قد يقيم أعمالا، أو يدخل في مشاريع، ويقصد جمع الأموال لنفسه، فتحصل له ثروة، والواسطة هي العمل الخيري، فليس بمدخل صدق، فهذا يدعو به الإنسان دائمًا.