1- قال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
سبحانك ربي، أحمدك وأشكرك.
خلقْتَنا ولَم نكُ شيئًا مذكورًا.
خلقْتَنا من ترابٍ، وكرَّمتنا وجعَلتنا خُلفاءَ لك في الأرض، وعلَّمتنا ما لَم نكن نعلم، وأدَّبتنا أدبًا رفيعًا يَليق بمَن جعَلته خليفة لك.
وتعلم أننا خَلْق ضعيفٌ، نُخطئ ونُصيب، وجعَلت خيرنا مَن يُخطئ ويتوب ويُنيب، وتعلم أن الشيطان عدوٌّ لنا، يُلقي بيننا بالبغضاء والعداوة؛ حتى تنقطع بيننا حبائلُ الودِّ والرحمة؛ لذلك وصَّيْتنا في كتابك العزيز بوصايا هي حبال النجاة لنا يوم الوعيد.
فقلت لنا وقولك الحق: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ﴾ [المائدة: 8].
أي: لا يَدفعنَّكم عداوة قومٍ لكم، واختلافهم معكم، إلى ارتكاب جُرم عدم العدل، اجْعَلوا العداوة جانبًا، فإذا حكَمتم بين الناس عليكم أن تَحكموا بالعدل، غير متأثِّرين في أحكامكم بما بينكم، ولنا في سلفنا الصالح قدوة وأُسوة حسنة، فهذا عدوٌّ لله وعدوٌّ لنبيِّه وللمؤمنين، شكا عليًّا بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى عمر - رضي الله عنه - فجاء إلى مجلس القضاء، فسوَّى بينهما عمر وحكَم لليهودي، ولَم تَنفعه العداوة إلى تجاوز العدل بينهما، أو لتحيُّزٍ إلى علي - رضي الله عنه - وهو مَن هو إيمانًا وفضلاً، وقُربى ومصاحبة.
فهل لنا أن نتعلَّم؟ وهل لنا في الأسوة الحسنة من سبيل؟
إنَّ العدل أقربُ لتقوى الله ومُراعاته، والحذر من عذابه يوم لا ينفع مال ولا بنون.
2- قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الأنفال: 31].
سبحان ربي العظيم، فهذا نوع آخر من أنواع الزَّيغ والمُكابرة والعناد؛ يقول به ﴿ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾ [المطففين: 12]، ألغى عقلَه، وانساق وراء شيطانه المَريد.
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا ﴾، نوع من الطيش حين أردفوا، فقالوا: ﴿ لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ﴾.
فما الذي منَعهم أن يشاؤوا، إنَّ قولتهم تُعبِّر عن عجزهم، وتؤكِّد إفلاسهم، وقد استقرَّ في نفوسهم أنهم عاجزون عن المجيء بمثل هذا القرآن، أو بسورة من مثله، وقد تحدَّاهم الله بقوله ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾ [الطور: 34].
سبحانك ربي، وأنت أعلم بخَلقك، وقد أرسَلت إلى رسولك آيات معجزات، لا طاقة لبشرٍ أن يأتي بمثلها، وزاد تحدِّي الله لهم، وهم أهل البلاغة والكلام؛ ليَعلموا - وقد علموا - أن حُجَّتهم باطلة زاهقة من أول نزول ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، فقال لهم: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 38].
هكذا أيها الفُجَّار تقولون: افتراه؛ أي: أتى به من عنده، وهو بشرٌ مثلكم، فاجْعَلوا بعضكم لبعض ظهيرًا، والْتَمِسوا العون ممن استطعْتُم من إنسكم وشياطينكم، وأْتُوا بسورة واحدة - كهذا القرآن - إن كنتُم صادقين، فزادَ عجزهم، وإنهم لكاذبون، وأُسْقِط في أيديهم، ولكنَّها المُكابرة والغرور، والحسد من عند أنفسهم، أفلا يعقلون؟ فهل ما أُنزلَ على محمد من أساطير الأوَّلين؟!
ولقد جاءَتهم الحُجج دامغة، وإظهار العجز الدائم إلى يوم الدين، بقوله تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
قمة التحدِّي وقمة الإعجاز، فبُهِت الذي كفَر، وصدق الله العظيم.
3- قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ [الأنفال: 60].
هذا أمرٌ وتكليف من الله - جل وعلا - إلى مَن آمَنوا به وبرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وارْتَضوه ربًّا، أن يكونوا على أُهْبة الاستعداد لمُلاقاة أعداء الله، الذين هم بطبيعة الحال أعداء للمؤمنين أنفسهم، فإنَّ أعداء الله والإسلام والمسلمين يتربَّصون، وسوف يستمرون في تربُّصهم؛ حتى يرثَ الله الأرض ومَن عليها.
إنَّ للإسلام أعداءً ظاهرين معروفين بعدائهم وحِقدهم؛ ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32]، ومن هنا كان عداؤهم ظاهرًا بيِّنًا، و﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: 82].
لذلك فإن للإسلام أعداءً مختفين أيضًا، منهم المنافق الذي يُظهر الإيمان ويُضمر الكفر والحقد الشديد، ومنهم الحاسد الذي أكَل الحسدُ قلبه، ومنهم مَن يرى في الإسلام خطرًا يُهدِّد كِيانه ووجوده، وكل هؤلاء وأولئك أعداءٌ لله ولرسوله وللمؤمنين، ومن هنا يدعو الله أولياءَه لإعداد العُدَّة، وأن يكونوا على أُهْبة الاستعداد، وحِكمة الله تتجلَّى في هذه الآية في ألفاظها المُحكمة:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾؛ أي: كل ما تستطيعون من عَتادٍ وعُدة تُتاح لكم.
وتتجلَّى عظَمة الله في قوله: ﴿ مِنْ قُوَّةٍ ﴾؛ حيث جاء اللفظ نكرة، والنكرة تُفيد التعميم؛ أي: مُطلق القوَّة مهما كان نوعها.
ثم الْتَفَت القرآن إلى ما كان سائدًا في عصر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو رباط الخيل، وهو أرقى ما كان يُستعمل.
ثم يأتي الهدف من كلِّ ذلك في قوله تعالى: ﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾، ولَم يَقل: قتال عدوِّ الله وعدوِّكم، ولكن ما قبل القتال، وهو بَثُّ الرُّعب والخوف في نفوسهم، ليس وحْدهم، ولكن آخرين غيرهم، لا تَعلم بهم، ولكنَّ الله - سبحانه - الذي أحاط بكلِّ شيء علمًا يَعلمهم، فإن مجرَّد إعداد القوة وتجهيزها يُخيف الجميع ويَخلع قلوبهم، ويَجعلهم في هَلَعٍ وخوف عظيمٍ.
4- قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: 15، 16].
بِئس ما يفعل الكافرون، ألاَّ ساء ما يَحكمون، ما يتَّبعون إلا الظنَّ، وما يظنون إلاَّ ظنًّا.
انظر أيها العاقل إلى قولهم في الآية الكريمة لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد حاوَرهم محاورة عقليَّة لطيفة، لو كانوا يعقلون، لدخلوا في الدين مسلمين، لكنَّهم للأسف لا يعقلون ولا يَفقهون.
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾: واضحات لا لَبْس فيها، فإنهم يَطلبون من الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - طلبًا عجيبًا، يدل على تَفاهة عقولهم وزَيْغهم، قائلين: ﴿ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾.
واعجبًا لِما يقولون!
فيحاورهم الرسول بيقين ثابتٍ، وقول فصلٍ:﴿مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾، إني ما جئت به أولاً، فكيف أُغَيِّره من تِلقاء نفسي؟ فأنا ما بلَّغتكم إلاَّ بما يوحى إليّ من الله، وأنا عبدٌ مأمور بذلك؛﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
إنَّ الأمر كله لله؛﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾، إنما جِئتكم به عن إذن الله ومَشيئته وإرادته، ولو شاء ما أنزَله عليّ، وما تَلَوته عليكم، وما دَرَيتُم من أمره شيئًا.
أيُّها الكفَّار، أليستْ لكم عقول رشيدة، تَعرفون بها الحقَّ من الباطل؟
﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
لقد عِشتُ بينكم قبل النبوة أربعين سنة، ما قلتُ شعرًا ولا نثرًا، وما عَلِمتم عني نفاقًا ولا كذبًا، فكيف تتَّهمونني بذلك الآن، أفلا تعقلون؟!
لقد سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، وكان يومها زعيمًا للمشركين، فقال له: هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقولَ ما قال؟
قال أبو سفيان: لا.
فأين كانت عقول الكافرين؟
صدَقتَ يا رب، وصدَق رسولك الكريم.
وساء عملاً ما قاله الكافرون.
5- قال تعالى: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99].
ولي مع هذه الآية الكريم قصة.
طلَب مني صاحب برنامج "أفيدونا أفادَكم الله" بإذاعة الشرق الأوسط - كتابةَ بعض الحلقات عن الإرهاب.
وفتَحت المصحف الشريف ألْتَمِس فيه بعض آيات الكتاب في هذا الأمر، فإذا بعينَي تَقعان على هذه الآية الكريمة.
وقرأْتها مرات ومرات، وكأني لَم أرها من قبلُ، ولَم أسمع بها، ولَم أقرأها في الكتاب الكريم، وليس هذا الأمر بدعًا بالنسبة لي، فهذا هو عمر بن الخطاب يُنكر قول مَن قال بوفاة الرسول الكريم، وتوعَّد قائلها، إلى أن تَلا عليه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِين﴾ [آل عمران: 144].
فجلَس عمر وقد سكَن رَوعه، وتعجَّب من أنه كأنه لَم يسمع بها من قبلُ، وهو الحافظ لكتاب الله، يُرَدِّده آناء الليل وأطراف النهار، فسبحان الله العظيم، يؤتِي الحِكمة مَن يشاء.
وقرأت الآية كاملة وما بعدها، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [يونس: 99 - 100].
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ﴾ يا محمد، لأَذِن لأهل الأرض جميعًا بالإيمان، ولقَهَرهم عليه كالملائكة، لكن له حِكمة فيما يفعله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [هود: 118].
﴿أَفَأَنْتَ﴾يا محمد ﴿تُكْرِهُ النَّاسَ﴾، وتُلِحُّ عليهم؛ ﴿حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، فليس ذلك عليك؛ ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 272]، و﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56]، وإنه ﴿عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرعد: 40]، وأنت ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 22]، إلى غير ذلك من آيات الكتاب الكريم، التي تَسير في خطِّ الآية السابقة وعلى نَهجها.
نعم، صدَقت يا رب ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ومَشيئته، ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ﴾؛أي: الضلال والتخبُّط ﴿عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: لا يَفقهون حُجج الله وأدلَّته، ولا يفهمون آياته، وهو العادل في كلِّ ذلك؛ في هداية مَن هُدِي، وإضلال مَن ضَلَّ.
أفبعد قول الله لرسوله قولٌ؟!
وهل لِمن لَبِسوا عباءة الإسلام حُجة في إرهاب خَلْق الله، وتكفير مَن يشاؤون، وسَفْك دمِ مَن يستحلُّون؟!
سبحانك ربي؛ جعَلت في الكتاب ما تشاء لِما تشاء.
6- قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: 105].
تتحدَّث الآية الكريمة عن مشهد من مشاهد يوم القيامة، فقد قال - سبحانه وتعالى - قبلها: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [هود: 103].
إنه يوم عظيم مُرَوِّع: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 2].
هذا اليوم حينما يأتي - وهو آتٍ لا ريبَ - يُحشر الناس أوَّلُهم وآخرُهم، كلُّهم يُجمعون لربِّ العالمين؛ ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 47]، وذلك يوم مشهود، تَشهده الملائكة والرُّسل، وتُحشر الخلائقُ كلُّها؛ من الإنس والجن، والطَّير والوحش والدَّواب، ويَحكم الواحد الأحد العادل بينها.
وهذا اليوم هو يوم القيامة، حين يأتي لا يتكلَّم أحدٌ إلاَّ بإذن الله؛ ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ [النبأ: 38].
نعم، يوم يأتي هذا اليوم لا تتكلَّم النفس إلاَّ بإذن الله، والناس يومها صِنفان: شقي، وسعيد.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود: 106- 107].
نعم هذا جزاء الأشقياء، هم في النار، وهذا حالُهم، لهم فيها زفير وشهيقٌ؛ قال ابن عباس: "الزفير في الحَلق، والشهيق في الصَّدر"؛ لِما هم فيه من العذاب الأليم، خالدين في النار ما دامَت الأرض والسموات، وليس المقصود هنا سماء الدنيا وأرضها؛ لأن الله تعالى قال عن ذلك: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ﴾ [إبراهيم: 48]؛ أي: سماء غير هذه السماء، وأرض غير هذه الأرض؛ قال ابن عباس: "لكلِّ جنة سماءٌ وأرضٌ"، والمعنى: أنهم باقون في العذاب بقاءَ السموات والأرض؛ أي: أبدًا؛ لأن من عادة العرب إذا أرادَت أن تَصِف شيئًا بالدوام أبدًا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض.
﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾، وهذا الاستثناء هنا خاص بالعُصاة من أهل التوحيد، فمن يُخرجه الله منهم من النار، فبإذنه وبشفاعة الشافعين.
7- قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: 108].
قلنا في الحديث السابق: إنَّ الناس في الموقف العظيم - يوم القيامة - صِنفان: صِنف شَقي، وقد تحدَّثنا عنه، وصِنف سعيد، وهو موضوع حديثنا الآن؛ حيث قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: 105]، وقد حكَم الله على الصِّنف الأول، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود: 106- 107].
أما الصِّنف الثاني - وهو السعيد - فقد حكَم الله - سبحانه - عليه بقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ﴾، نعم السُّعداء في الجنة؛ لقد استعَمل الحقُّ - جل وعلا - الفعل ﴿سُعِدُوا﴾ في حقِّهم، وهو الفعل الوحيد المذكور في القرآن الكريم، لَم يَرِد بهذا اللفظ إلاَّ في هذا الموضع فقط، وقد جاء مَبنيًّا للمجهول؛ للتذكير بأنَّ السعادة أحاطَت بهم من كلِّ جانبٍ، كما أنه ليس للسعادة مصدرٌ واحدٌ فقط، فهم سُعداء برحمة الله الواسعة، وهم سعداء بمنَّة الله عليهم بدخولهم الجنةَ، وهم سُعداء بأنهم رأوا ما وعَدهم الله حقًّا، وهم سُعداء؛ لأن ذُرِّيَّاتهم لَحِقت بهم، فقد حفَّتهم السعادة وغَشِيتهم من كلِّ جانب، وأحاطَت بهم من كلِّ جهة؛ لذلك كان لفظ ﴿سُعِدُوا﴾ مطابقًا لحالتهم ولِما هم فيه.
كما أنَّ الله - سبحانه - حكَم عليهم بالبقاء في الجنة خالدين فيها، فقال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾؛ أي: خالدين فيها أبدًا.
﴿إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾؛أي: إنَّ هذا الفعل من الله، وليس لعَملهم فحسب، فهو مرهون بمشيئته - سبحانه.
﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾؛أي: فيها ما لا عين رأتْ، ولا أُذن سَمِعت، ولا خطَر على قلب بشرٍ، كلُّ ذلك موصول غير مقطوع، بمشيئة الله وقُدرته، ثوابًا من عند الله، والله عنده حُسن الثواب.
8- قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102].
نعم، ربي سبحانك، إنَّ أخْذَك لشديد.
وكلمة "أخْذ" في الآية الكريمة مصدر يُعبِّر عن الشِّدة الشديدة، ويُعبِّر عن القوة المُطلقة، والانتقام الشديد.
﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ﴾؛أي: هكذا يكون شِدَّة وقوة لا مثيلَ لها؛ لأن ذلك يتحقَّق حينما يأخذ القرى الظالمة بظُلمها، إنَّ أخْذَه لها أليمٌ شديد؛ ذلك بما كسَبوا، وهذا جزاؤهم بما ظَلَموا.
وهذا جزاء كلِّ ظالِم يتمارَى في ظُلمه، ولا يَرعوي أو يَرتدع.
ورَد في الصحيحين عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((إنَّ لله ليملي للظالِم، حتى إذا أخَذه لَم يُفلته)).
إن لله ليملي؛ أي: يَصبر عليه لعلَّه يتوب، أو يَرشد أو يَستغفر، حتى إذا أخَذه لا يُفلته من العقاب، ولا يتركه، فيأخُذه أخْذَ عزيزٍ مُقتدر، ولقد تحقَّق أخْذُ ربِّك الشديد في قرى ظالمة كثيرة.
ألَم ترَ كيف فعَل في قوم عاد؟ وكيف فعَل في قوم لوط؟ وكيف فعَل في قوم صالح حينما عَقَروا الناقة وهم ظالمون؟ وغيرهم، وغيرهم كثير.
﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
////////////////////////
9- قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 29].
سبحان ربي العظيم، إنَّ الله يُعطينا من آياته ما يدلُّ على قدرته ووحدانيَّته، دليلاً وراء دليلٍ، ويخاطب فينا العقل والفؤاد والأبصار؛ لعلَّنا نَعقِل أو نُفكِّر، أو نَرَى.
فهذه آيات لا يَعقلها إلا َّذَوُو الألباب، أو الأفئدة الصافية، أو الأبصار التي ليس عليها غِشاوة،
وفي هذه الآية الكريمة يُعطينا دليلاً يراه ذَوُو الأبصار كلَّ يوم؛ ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾.
فعلى الرغم من أنَّ الليل والنهار طولهما معًا أربع وعشرون ساعة، لا يزيد دقيقة واحدة، فإننا نرى الليل والنهار يتساوَيان في عدد ساعاتهما أحيانًا، كما نرى أنَّ الليل يزيد في طوله تدريجيًّا على حساب ساعات النهار، فيطول عنه كثيرًا، وبالتالي تنقص ساعات النهار في بعض فصول السنة، ثم نرى الليل يتناقص تدريجيًّا، وتزيد ساعات النهار على حساب ساعات الليل، فيطول عنه كثيرًا، وبالتالي تنقص ساعات الليل في بعض الفصول الأخرى، إذًا، فما الحكاية؟ وما الآية؟
الآية: إن الله يولِج الليل في النهار؛ أي: يُدخل الليل في النهار، ويأكل من ساعاته، ونرى الليل يَزحف على النهار.
ويَلِج فيه (يدخل)، فترى الفجر مثلاً في الساعة الثالثة، ويتقدَّم ويتقدَّم؛ حتى يصلَ إلى الساعة السادسة صباحًا تقريبًا، وهذا ولوجُ الليل في النهار شتاءً.
كما أنه يولِج النهار في الليل، فيأكل النهار من زمن الليل ومساحته، فنرى المغرب مثلاً في الساعة الخامسة مساءً، ويتقدَّم ويتقدَّم؛ حتى يصل إلى الساعة الثامنة تقريبًا؛ وهذا هو ولوجُ النهار في الليل صيفًا، وفي أثناء ولوجهما بعضهما في بعض، يزيد هذا ويَقصر هذا؛ حتى يتساوَيان، فيكون فصل الربيع أو فصل الخريف، يأتي فصل الربيع حين يَلِج النهار في الليل، أو حين زحف النهار على الليل، ويأتي فصل الخريف حين يَلِج الليل في النهار، أو حين زَحفه عليه.
ومن آياته الظاهرة لكلِّ عينٍ، أنه سَخَّر لنا الشمس والقمر اللتين حقَّقتا معجزة ولوج الليل في النهار، وولوج النهار في الليل، فتراهما مُسَخَّرين لتحقيق هذه المعجزة بانتظام دقيقٍ، لَم تتخلَّف عنه، ألا ترى أنَّ أهل الفلك ضبَطوا تقويم شروق الشمس وغروبها مع هذا الولوج - من الليل في النهار، أو من النهار في الليل - بدقَّة مُتناهية، أليس هذا هو التسخير المعني في الآية الكريمة؟
إنه تسخير إلى أجلٍ مسمًّى يَعلمه الله - سبحانه.
وأنَّ الله بما تعملون خبير، ألا يَعلم مَن خلَق؟ بَلَى، إنه العليم الخبير، فهل في ذلك آيات لأُولِي الألباب؟
10 - قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - عن هذه الآية الكريمة: "أجمعُ آية في القرآن لخير يُمْتَثل، ولشرٍّ يُجْتَنب".
ورُوي أن عثمان بن مظعون قال: ما أسْلَمت ابتداءً إلاَّ حياءً من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى نزَلت هذه الآية وأنا عنده، فاستقرَّ الإيمان في قلبي، فقرأتُها على الوليد بن المغيرة، فقال: يا ابن أخي أعِدْ، فأعدتُ، فقال: "والله، إنَّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنَّ أصله لمُورق، وأعلاه لمُثمر، وما هو بقول بشر".
سبحانك ربي، ما أعظم ما أنْزَلت على رسولك!
إنها شهادة جاءت من كافر، فكيف تكون شهادة المؤمن؟!
وأعظم من هذه الشهادة، ما رُوِي من أنَّ قومًا ذهَبوا إلى أبي طالب عمِّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقالوا له: "إنَّ ابن أخيك زعَم أن الله أنزَل عليه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ... ﴾، فقال لهم: اتَّبعوا ابن أخي، فوالله إنه لا يأمر إلاَّ بمحاسن الأخلاق"!
وبعد هذا يُنكرون ويَسخرون، ويقولون: أساطير الأوَّلين، ألا خَسِئوا وساء ما يقولون.
وهذه الآية الكريمة من إعجاز القرآن، ومن جوامع الكَلِم، فعلى الرغم من قِصَرها، فإنها حَوَت ثلاثة أوامر، وثلاثة نواهٍ:
• أمَرَت بالعدل؛ أي: الاستقامة، والمساواة، والتوسُّط، والإنصاف.
• وأمَرَت بالإحسان، وهو إتقان العمل والعبادة، وإيصال النفع إلى الخَلق.
• وأمَرَت بإيتاء ذي القُربى، وهو إيتاء الأقارب حقَّهم من الصِّلة والبِر وصِلة الرَّحم.
وبعد الأمر بأُمَّهات الفضائل وأسمى المكارم في إيجاز وإعجاز، جاء النهي:
• حيث نَهَت عن الفَحشاء، وهي كلُّ قبيح من قول أو فعلٍ مما عَظُمت مفاسده.
• ونَهَت عن المنكر، وهو كلُّ ما أنكرَه الشرع بالنهي عنه، وهو يضمُّ جميع المعاصي والرذائل.
• ونَهَت عن البغي، وهو عطفٌ للخاص على العام؛ ليتأكَّد أنَّ ظُلم الناس والبغي عليهم من الشر، وذلك حين نَفهم البغي بمعنًى عام يشمل كلَّ أنواع الظُّلم والمعاصي.
كل هذا - الأمر والنهي - جاء موعظة من الله لنا، فقد نبَّهنا إلى الخير، وأمرنا به، ونبَّهنا إلى الشر، ونهانا عنه، فهل نحن مُتَّعظون؟ وهل نحن مُنتهون؟
11- قال تعالى:
﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36].
هذه الآية من النصائح الغُر، التي يربي بها الإسلام أتباعَه، وهي منهج قويم ينبغي اتِّباعه، ونصيحة غالية لا تُقدَّر بثمنٍ.
أيها المسلم، ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾، لا تقف: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "لا تَقل"، وقال العوفي: "لا ترْمِ أحدًا بما ليس لك به عِلمٌ".
وقال قتادة: "لا تَقل: رأيتُ ولَم ترَ، وسَمِعت ولَم تسمع، وعَلِمت ولَم تَعلم".
والفعل "تقفو" من القفا، وهو خلف الإنسان، ومنه القافية، وهي قفا بيت الشعر وآخره، وقد يكون المعنى - والله أعلم في الآية - لا تتكلَّم عن أحدٍ من وراء ظهره بما لا تَعلم، ولا تتَحرَّ أفعال الناس من خلفهم، وتدسَّ أنفَك تَتْبَع أخبارهم فيما يَكرهون، بما ليس لك فيه حقٌّ، فهو إذًا المنع عن تتبُّع الناس بالسمع أو بالبصر، أو بالظنِّ والشك، ثم تبني على ذلك أحكامًا ليست من حقِّك، وليس أمرها موكولاً إليك، فإن مَن يفعل، فإنه سوف يُسأل عن ذلك يوم القيامة.
﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسؤولاً ﴾: مُحاسبًا عليها، سيُسأل العبد عنها يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12].
وفي الحديث: ((إيَّاكم والظنَّ، فإن الظنَّ أكذبُ الحديث)).
وفي حديث آخر: ((إنَّ أفرى الفِرى أن يُرِيَ الرجل عينَيه ما لَم تَرَيا))؛ أي: أكذبُ الكذب أن يقول الرجل: رأيتُ، وما رأَى شيئًا.
قال تعالى: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105].
صدَقتَ يا ربُّ، لقد علَّمتنا ما لَم نكن نعلم، فسَمِعنا وأطَعْنا، غُفرانك ربَّنا وإليك المصير.
12- قال تعالى:
﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء: 53].
ما أجمل الأدب القرآني الذي دأَب القرآن الكريم على تربية المؤمن عليه، وكيف لا وقد قال الرسول الكريم: ((إنما بُعثْتُ لأُتَمِّم مكارم الأخلاق))، وقال عن نفسه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أدَّبني ربي، فأحسَن تأديبي)).
وهذه مدرسة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - تقوم على مكارم الأخلاق، وحُسن الخُلق، فلا غَرْوَ أن ترى الله - سبحانه - يأمر رسوله بأن يتلوَ على أصحابه ما يُهذِّب نفوسهم؛ لتَشيع المودة والرحمة.
يا محمد، ﴿ قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، عليهم أن يتلمَّسوا أحسنَ القول وأطيب الحديث، فالكلمة الطيِّبة صدقة؛ ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 24].
وهذا هو منهج الله الذي أمَر عباده أن يتَّبعوه، ليس مع بعضهم البعض فقط، ولكن في دعوتهم إلى الله أيضًا؛ ليكونوا نموذجًا يُحتذى ونورًا يُهتدى إليه، فقال: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [العنكبوت: 46].
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 96].
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ [فصلت: 33].
ما أحسن الكلمة الطيبة! وما أجمل وَقْعها على النفوس!
وما أعظم أن يقول المرء التي هي أحسن!
• أن يقول التي هي أحسن إذا حكَم بين الناس.
• وأن يقول التي هي أحسن إذا أمَر الناس بالمعروف.
• وأن يقول التي هي أحسن إذا تكلَّم.
• وأن يقول خيرًا أو ليَصمُت.
﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83].
ويجب ألاَّ نُبادل الناس بالإساءة إساءة؛ بل الأحسن والأفضل والأقوم، أن نُبادل بالسيئة الحسنة؛ ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ [البقرة: 178]،﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].
ما أحسن أدبَك لنا يا ربَّنا! وما أعظمَ منهجك الذي رسَمتَ لنا!
13- قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1- 2].
تبدأ الآية الكريمة بخطاب الناس جميعًا - مسلمهم وكافرهم، المُطيع والعاصي - ليَلتفتوا إلى ما يأتي بعد النداء؛ ليَتنبَّهوا، ولتتيقَّظ مشاعرهم، وتتفتَّح عقولهم، وتَصحو ضمائرهم وقلوبهم لهذا الأمر عظيمِ الشأن، بالغِ الخطر؛ ليَتَّقوه، ويَحترسوا منه.
﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾؛ أي: احترسِوا بطاعته من عقوبته، واحْذَروه من أن تتركوا أوامره، وتَفعلوا ما نهاكم عنه؛ حتى تكونوا أهلاً لرحمته، ومُستحقِّين لمغفرته في يوم يَشيب فيه الولدان، وتُبَدَّل الأرض غير الأرض والسماء، وما يحدث في الدنيا من خرابٍ وتدمير يملأ القلوب رُعبًا وفزعًا، فإن ما سيحدث في أوَّل الساعة أمرٌ رهيب، مثَّله الله لنا بما تَفهمه عقولنا، وتتصوَّره مداركنا، وتَستوعبه أحاسيسُنا، وقد مرَّ على الإنسان بعض نُذُره في حياته الدنيا وهو على بيِّنة منه؛ لئلا يكون للناس على الله حُجَّة يومها؛ إذ ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾: هولٌ كبير، وخَطْب جليل، وطارق مُخيف، وحدَثٌ هائل، والزلزال هنا لعلَّه ما يحدث للنفوس من فزعٍ ورُعب، ولقد صوَّرت الآيات ذلك أصدقَ تصويرٍ وأحسَنه وأرْوَعه؛ لأن الناس يوم يَرونها ﴿ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ﴾، فكلُّ امرئ بأمر نفسه مشغول مذهول، فتَذهل كلُّ امرأة عن أحبِّ الناس إليها، وتَغفل كلُّ مرضعة عن رَضيعها مَن هَولِ ما ترى، بل تُسقط الحامل جنينها قبل موعده من شدَّة الهول والخوف والاضطراب.
ثم رَسَمت الآية صورة الناس في شدَّة اضطرابهم، وذهولهم وزَيَغان عيونهم، وغياب أذهانهم؛ حيث ﴿ تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ﴾، وهذا تصوير لتقريب المعنى وتشبيه الصورة القائمة بالصورة المعهودة؛ إذ إن المسألة ليست خمرًا، ولكنَّهم كأنهم سُكارى، وهي مسألة نفسية حادثة من شِدَّة الهول والفَزَع، والزَّيغ ووَقْع الصدمة، والخوف من العذاب الشديد، وكلها ظواهر علميَّة تدلُّ على صِدق نبوَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي عاش في بيئة لا تعرف مثل هذا؛ فسبحانك ربَّنا، عَلَّمتنا ما لَم نكن نعلم، وأرْسَلت فينا أُمِّيًّا يُعلِّمنا الكتاب والحِكمة؛ إنَّك أنت العليم الحكيم.
14- قال تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ﴾ [الحج: 3].
هناك خَلْق جاحدون، يدَّعون العلم والمعرفة وهم في غفلة وجهل عظيمٍ، يَسْعَون في الأرض فسادًا؛ ليَصدوا عن دين الله، وهم يَلَجُّون في آيات الله بالباطل، ويُزَخْرِفون القول، ألا ساء ما يفعلون!
هؤلاء الخَلْق ألْغَوا عقولهم، وأقاموا أدلَّتهم على وهمٍ، فمنهم مَن يَستبعد الحياة بعد الموت، ويُنكر البَعث؛ حيث يَرَون أنه من المستحيل أن يَحيا الإنسان بعد ما يَبلى ويَصير عظامًا وتُرابًا، ألا ساء ما يحكمون!
هؤلاء الخلق، لو أنصَفوا واستخدموا عقولهم المُغَيَّبة، لعَلِموا أن الذي أوجَد آدمَ من العدم وخلَقه من تراب، القادر على أن يَبعثه من موته، وهو عليه أهونُ، فكيف لا يستطيع مَن أحدَث الناس من عدمٍ؟! هل يَمتنع عليه إحياؤهم مرة أخرى؟! ولقد حاجَّهم الله بقوله: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الواقعة: 62].
وهذا عتاب عظيم، لا يَعْقِله إلاَّ كلُّ ذي عقلٍ سليم، وفكر مستقيمٍ، فكيف يُنكرون هذا وهم يعلمون كيفيَّة النشأة الأولى؟ أليس هو الله خالقهم من العدم؟!
﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27].
إنهم قوم مغالطون، يتَّبعون كلَّ شيطان مَريد - وهو العالي المتمرِّد - من الإنس والجن، وهذا حال أهل الضلال والغَي، والأهواء والزَّيغ، بغير حجة دامغة ولا علمٍ صحيح.
لقد نُشِر في جريدة الأهرام يوم الجمعة 11/ 4/ 1997م، أن فريقًا من العلماء قد اكتشَفوا أن الناس جميعًا ينتمون إلى أمٍّ واحدة "حوَّاء"، وهي التي خلَقها الله من آدمَ!
إنَّ أمرك عظيمٌ يا رسول الله، أيها النبيُّ الأمي، الذي أخبَرنا بذلك مُصدِّقًا لِما بين يديه من آيات الله، فهل بعد نتائج العلم المصدِّقة لقول الله من دليلٍ؟!
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].
/////////////////////
15- قال تعالى:
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 56 - 57].
سبحانك ربَّنا، أرْشَدتنا إلى الحقِّ، وقولك الحق، وأنت أصدقُ القائلين، تقول مخاطبًا نبيَّك وحبيبَك محمدًا: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾؛ أي: ليس أمر الهداية بيدك، عليك أن تُنذر، وعليك أن تُذَكِّر، وعليك أن تدعو إلى الله، والله - سبحانه - يهدي إلى الإيمان مَن يشاء وهو أعلمُ بالمُهتدين.
لقد قال تعالى في موضع آخر يؤكِّد هذا المعنى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 272]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8].
وهكذا يُسَرِّي الله عن نبيِّه حُزنَه على مَن لَم يؤمن به، وخصوصًا حُزنه على عدم إيمان عمِّه أبي طالب؛ فقد ثبَت في الصحيحين أن آيتَي القَصص نَزَلتا في أبي طالب لَمَّا حضَرته الوفاة؛ حيث دعاه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فاستمرَّ على كُفره، ولله الحِكمة البالغة في ذلك!
ولقد احتجَّ الكفار على عدم اتِّباعهم الهدى مع الرسول، بخشيتهم أن يَلحقهم الكفار حولهم بالأذى والمُحاربة، أو يتخطَّفوهم من أرضهم، لقد كذَبوا والله، وما هذا بعُذرٍ، إنه عذر أقبحُ من ذنبٍ، وبيَّن الله أنَّ ما اعتذَروا به كذبٌ وباطل؛ لأن الله مكَّن لهم حرَمًا آمِنًا، كيف يكون آمنًا لهم في كُفرهم، ولا يكون آمِنًا لهم في حالة إيمانهم؟!
نعم إنه حرَمٌ آمِنٌ بمعنى مأمون، ومَن دخَله كان آمنًا، ورِزَقه مكفول؛ ﴿ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [القصص: 57].
تجد فيه من سائر الثمرات، ومن كلِّ جهات الأرض، واستعمَل الحقُّ الفعل: ﴿ يُجْبَى ﴾ ولَم يقل: يُحمل، أو يُؤْتَى؛ لأن الجباية تكون قسرًا، بمعنى أنَّ الثمار تُجبَى إلى الحرَم؛ رَضِي المشركون أو لَم يرضوا؛ لأن هذه إرادة الله، وبهذا تميَّز الحرم عن غيره، ﴿ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا ﴾؛ أي: من عندنا، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾؛ولهذا يقولون ما قالوا، والله أعلم.
16- قال تعالى:
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [القصص: 71 - 72].
ما زالت أدلة وجود الله تَتْرى، وكذا أدلة قُدرته.
كلها تدلُّ على أنه الواحد الأحد المُتفرِّد، لا إله إلا هو الواحد الصمد، يَضرب لنا الأمثال؛ لعلَّنا نتدبَّر ونَعقِل.
ومن ذلك اختلاف الليل والنهار وتعاقُبهما، وما فيهما من قُدرة بالغة وفضلٍ عظيم.
ما بالك إن جعَل الله الليل سرمدًا إلى يوم القيامة - وهو قادرٌ على ذلك - هل ترى من يستطيع أن يُغيِّر ويأتي بضياء يُزيل ظُلمة الليل؟
والسرمد في لسان العرب: دوام الزمان من ليلٍ أو نهار، وليل سرمد: طويل دائمٌ لا يَنقطع، وكذلك الأمر إن جعَل الله النهار مُمتدًّا لآخر الزمان، مَن غيره يأتينا بليلٍ نستريح فيه من العَناء والمَشقَّة، وكيف يكون حالنا لو عِشنا نهارًا طويلاً لا يَعقبه ليلٌ؟!
وحِكمة القرآن وبلاغته تتجلَّى في اختيار لفظ: ﴿ تَسْمَعُونَ ﴾، في قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ﴾؛ حيث اختار السمع مع الليل الذي تَصعب الرؤية فيه، واختياره لفظ: ﴿ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ مع النهار؛ حيث يُتيح ضياؤه لنا رؤية جيدة، تستخدم فيها الأبصار والعيون.
إن في خَلْق الله الليلَ والنهار وتعاقبهما رحمةً من الله بنا؛ حتى نبتغي من فضل الله نهارًا، ونستريح من عَناء ذلك ليلاً، وإلاَّ شَقَّ علينا الأمر.
أفلا نتدبَّر؟ أفلا نُبصر؟ أفلا نشكر صاحب النِّعم القادر الحق؟
قال تعالى: ﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 73].
أحمدُك ربي وأشكرك، وأُثني عليك بما أنت أهله.
17- قال تعالى:
﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 1 - 5].
نزَلت هذه الآيات الكريمة حين غلب الفرسُ الرومَ، وهي نوع من التحدِّي القاهر للكفَّار، الذين فَرِحوا بنصر المشركين على الروم أهل الكتاب، والتحدي هنا ظاهر واضحٌ؛ حيث أنزَل الله الآيات في قرآن يُتلى على ألْسِنة المؤمنين، ويَسمعه الكافرون، ولا يُمكن أن يكون هذا القرآن من بشر؛ إذ كيف يتحدَّى بحدثٍ لَم يحدث؟
بل إنه حدَّد وقت النصر على الفرس ببضع سنين، وهو عدد أقلُّ من عشرة؛ لذلك فهو تحدٍّ قاهر بحدثه وزمانه، ولا يكون هذا إلاَّ من إله قادرٍ عالِم، لا يحدُّه زمان ولا يُعجزه مكان، فهل كان هؤلاء القوم من الكفار مُغَيَّبين؟ كيف يُغامر محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بدعوته وسُمعته ويُعلن هذا، إن لَم يكن هذا وحيًا يُوحى من عزيز مُقتدر؟!
وفي حديثٍ عن ابن مسعود: "لَمَّا نزَلت ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ... ﴾ الآيات، قالوا - أي: الكفار -: يا أبا بكر، إنَّ صاحبك يقول: إنَّ الروم تظهر على فارس في بضع سنين، قال: صَدَق، قالوا: هل لك أن نُقامرك، فبايَعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين، فمضَت السبع ولَم يكن شيء، ففَرِح المشركون بذلك، فشقَّ على المسلمين، فذَكروا ذلك للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((ما بضع سنين عندكم؟))، قالوا: دون العشر، قال: ((اذهب فزَايدْهم وازْدَد سنتين في الأجَل))، قال: فما مَضت السنتان حتى جاءَت الرُّكبان بظهور الروم على فارس، ففَرِح المؤمنون بذلك"؛ أخرَجه ابن جرير.
الويل لكم أيها المشركون، بل الويل والثبور، وبعد ذلك أفلا تَستحون؟!
أمَّا ﴿ الم ﴾ التي في أوَّل السورة، فأعدل الآراء فيها أنها حروف مُقَطَّعة يَعلم الله سرَّها، أو هي قسَمٌ يُقسِم به المولى - عزَّ وجلَّ - أو هي تَحدٍّ للمشركين بأن هذا القرآن مؤلَّف من هذه الحروف التي تكتبون بها، ومع ذلك لا تستطيعون المجيء بمثله.
واعْلَم أنَّ كلمتَي ﴿ قَبْلُ ﴾ و﴿ بَعْدُ ﴾ مَبنيَّتان على الضم في محلِّ جرٍّ؛ لأنهما إذا جُرِّدتا من الإضافة بُنيتا على الضم، وليست الضمة هنا علامة رفعٍ.
﴿ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ﴾، والله ينصر مَن يشاء بنصره، وهو ﴿ الْعَزِيزُ ﴾ القوي الذي سينصر المؤمنين على الفرس والروم كلاهما بعد ذلك، وهو ﴿ الرَّحِيمُ ﴾بعباده المؤمنين.
18- قال تعالى:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُم ﴾ [الروم: 22].
تعدَّدت الآيات التي يَضربها الله - سبحانه وتعالى - للناس؛ للتدليل على قدرته وعَظَمته، وتفرُّده بالألوهيَّة، ولكن هل يتدبَّرها الناس؟ هل يَعقلها المنكرون؟
إنَّ في ذلك لآيات لأُولِي الألباب.
سبحانك ربي وهَبْتَنا جميعًا ألبابًا وعقولاً، وجَعَلتها حجَّة علينا، ومع ذلك هل نستخدم ألبابَنا وعقولنا لنهتدي إليك ونعتصم بك؟
ومع أنَّ الأدلة واضحة لا تَخفى على ذَوِي الأبصار، إلاَّ أنها عَمِيت وضَلَّت ضلالاً بعيدًا.
في تلك الآيات الدالة على ربوبيَّة الله وتفرُّده بالوحدانيَّة، خلق السموات والأرض؛ ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ [لقمان: 11].
لو اجتمَع الخَلق جميعًا، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا، ما خَلَقوا ذبابة، ولو أخَذ الذباب منهم شيئًا، ما استطاعوا له ردًّا.
قال تعالى في تحدٍّ واضحٍ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73].
أفلا يؤمنون، وعن غيِّهم يرجعون؟
ومن آيات الله على قُدرته بالألوهيَّة: اختلاف ألْسِنة البشر، فعلى الرغم من أنهم جميعًا من أب واحدٍ وأم واحدة - وكان الله قادرًا على أن يجعلَ لهم لغة واحدة، أو حتى لا يَنطقوا كغيرهم من خَلْق الله - فإنَّ الله - جَلَّت قُدراته - أعمَلَ فيهم آياته وجَعَلهم ينطقون، بل جعَل لهم لغات متعدِّدة مُتباينة؛ لتكون آية على قُدرته وعَظَمته، ولكنَّهم لا يتأمَّلون ولا يَعقلون.
ومن آياته الناطقة بعَظَمته وتفرُّده: اختلاف ألواننا، فعلى الرغم من توحُّدنا في الجوهر، فإننا نسخة واحدة، إلا أن قُدرة الله جعَلَت لنا ألوانًا مختلفة لا تُنتقى، فعلى مستوى الأسرة الصغيرة تتباين الألوان وإن تقارَبت الملامح، فما بالك بألوان البشر في كل الدنيا؟!
اذهَبْ إلى الحج في صعيد عرفات الطاهر - التي تجمع فوق ترابها ملايين البشر من كلِّ صقعٍ - لتَرَى آية الله في اختلاف ألْسِنتنا وألواننا، ومع ذلك كلنا نتَّجه إلى خالق واحدٍ لا إله إلا هو، ونُسَبِّح الله العظيم الذي تفرَّد بالعَظَمة والقُدرة والألوهيَّة، إنَّ في ذلك لآيات لأُولِي الألباب.
19- قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34].
سبحانَّك ربي، لا عِلْم لنا إلاَّ ما عَلَّمتنا.
علَّمتنا أمورًا، واختَصَصت نفسك بأمور لا يَعلمها إلاَّ أنت، وفي الآية الكريمة استأثَرْت يا ربَّنا بخمسة أمور، فلا يَعلمها أحد، إنها مفاتيح الغيب: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأنعام: 59]، وقد ورَد في السُّنة تسمية هذه الخمس بمفاتيح الغيب؛ روى الإمام أحمد عن أبي بُريدة، سَمِعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((خَمس لا يَعلمهنَّ إلاَّ الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾)).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مفاتح الغيب خمس، لا يَعْلمهنَّ إلاَّ الله))، وذكَر الآية"[1].
وعن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية، فقال: إن امرأتي حُبلى، فأخْبِرني متى تَلِد؟ وبلادنا مُجدبة، فأخْبِرني متى يَنزل الغيث؟ وقد عَلِمت متى وُلِدْتُ، فأخْبِرني متى أموت؟ فأنزَل الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ... ﴾.
وعن مسروق عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "مَن حدَّثك أنه يعلم ما في غدٍ، فقد كَذَب، ثم قرَأت: ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ﴾.
والخلاصة أنَّ الله عنده عِلم الساعة، لا يُجلِّيها لوقتها إلاَّ هو، وكذلك إنزال الغيث لا يَعلمه إلا الله، ولكن إذا أمَر به، علمته الملائكة المُوكَّلون بذلك، ومَن يشاء الله من خَلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام أحد سواه؛ أذكر أو أُنثى؟ أحمر أم أسود؟ شَقِي أم سعيد؟ ولكن إذا أمَر بذلك، عَلِم الملائكة المُوكلون بذلك، وكذلك ما تدري نفس ماذا تكسِب غدًا، أخيرًا أم شرًّا؟ وكذلك ماذا تَكسِب في دنياها وأُخراها.
وهكذا الأمر الخامس: ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾؛ أي: ليس لأحدٍ من الناس أن يدري أين مَضجعه من الأرض؛ أفي بحر أم يَمٍّ؟ أو سهلٍ أم جبلٍ؟
وقد جاء في الحديث: ((وإذا أراد الله قَبْضَ عبدٍ بأرض، جعَل له إليها حاجة))[2].
فسبحانك ربَّنا، لا عِلم لنا إلاَّ ما عَلَّمتنا؛ إنَّك أنت علاَّم الغيوب.
20 - قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
أمَرَنا الله - سبحانه وتعالى - بالصلاة والسلام على سيِّدنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِما في ذلك من فوائد عظيمة للمُصَلِّين والمُسَلِّمين عليه، وأهمها[3]:
1- الامتثال لأمر الله - سبحانه وتعالى.
2- موافقته - سبحانه وتعالى - في الصلاة عليه، وإن اختَلَفت الصلاتان؛ فصلاتُنا عليه دعاء وسؤال، وصلاة الله عليه ثناءٌ وتشريف.
3- يحصل المصلي عليه - مرَّة واحدة - على عشر صلوات من الله.
4- يُرفع المُصلي عليه عشر درجات، ويُكتب له عشر حسنات، وتُمحى عنه عشر سيِّئات.
5- إذا صلَّى الداعي على الرسول قبل دعائه وبعد دعائه، فإنه يُرجى إجابة دعائه؛ لأن الصلاة على الرسول تُرفع إلى ربِّ العالمين، وتَصعد إليه، مع ما بينها من دعاء.
6- إنها سببٌ لشفاعته - صلَّى الله عليه وسلَّم - للمُصلي يوم القيامة.
7- إنها سببٌ لقضاء الحوائج.
8- إنها سببُ تذكُّر العبد ما قد نَسِيه.
9- إنها زكاة للمصلي وطهارة له.
10- إنها تقوم مقام الصَّدقة لدى المُعسرين.
11- إنها سببٌ لنَفْي الفقر ونفي البخل عن المصلي.
12- إنها سبب لردِّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على المصلي والمُسَلِّم عليه.
13- إنها سببٌ لمحبَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهداية للعبد وحياة لقلبه.
14- إنها سببٌ لعَرْض اسم المصلي على الرسول الكريم، وسبب لذِكره عنده.
15- إنَّ الصلاة عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أداء لأقلِّ القليل من حقِّه علينا، وشكر الله على هذه النعمة الكبرى، والله أعلم.
[1] أخرَجه البخاري، والإمام أحمد.
[2] أخرَجه الطبراني.
[3] راجع في ذلك: "غنية المسلم فيما يحتاج إليه"؛ للشيخ جودة قاسم.