(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ )١٩
(وَقَالُواْ يٰوَيْلَنَا هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ )٢٠
(هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ )٢١-الصافات
قوله تعالى { فَإِنَّمَا هِيَ } [الصافات: 19] أي: مسألة البعث { زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } [الصافات: 19] صيحة واحدة، أو نفخة واحدة كافية لأن تُخرِجهم من قبورهم { فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } [الصافات: 19] لا أننا سنذهب إلى كل واحد منهم ونوقظه (اصحى يا فلان) إذن: البعث الذي تكذِّبون به أمرُه يسير علينا، ولا يُكلِّفنا شيئاً.
والصيحة في ذاتها لا تبعث الموتى، إنما هي مجرد إذْنٍ للملَك، بأن يباشر مهمته، فهي مثل الجرس الذي يُبْدأ به العمل، فبعد الزَّجْرة { فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } [الصافات: 19] هكذا مباشرة؛ لأن إذا هنا تدل على المفاجأة، فالأمر لن يستغرق وقتاً، وأول ما يقومون من القبور ينظرون أي: هنا وهناك؛ لأنهم سيروْنَ أمراً عجيباً لا عَهْدَ لهم به، وسيُفاجئهم ما كانوا يُكذِّبون به في الدنيا.
لذلك حكى القرآن عنهم في آية أخرى: { { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } [السجدة: 12] وهي أول آية في القرآن يتقدم فيها البصر على السمع؛ لأنهم أول ما يفاجئهم يفاجئهم منظرٌ جديد لم يَرَوْهُ من قَبْل، فينظرون إليه.
فإذا ما عاينوا هذا المنظر، قالوا: { يٰوَيْلَنَا هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ * هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [الصافات: 20-21] هم الذين يقولون، وهم الذين يدْعُون على أنفسهم بالوَيْل والثبور، لا نقولها نحن ويلكم، بل يقولونها هم { يٰوَيْلَنَا } [الصافات: 20] يعني: احضر، فهذا أوانك؛ لأنهم الآن تكشَّفَتْ لهم الحقائق وبَانَ كذبُهم وفسادُ تفكيرهم، وما كانوا فيه في الدنيا من اللَّدَد والعناد، وأول ما يتبين للإنسان فسادُ تفكيره وسوء عمله أوَّل ما يلوم يلوم نفسه، فيدعو عليها.
وقولهم: { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ } [الصافات: 20] يعني: يوم الجزاء على الأعمال، هذا الجزاء الذي لم يؤمنوا به في الدنيا، ها هم يعترفون به، أو { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ } [الصافات: 20] يعني: هذا هو اليوم الذي ينفع فيه الدين، كما تقول لولدك وهو مُقبل على الامتحان: هذا يوم المذاكرة. يعني: اليوم الذي لا تنفعك فيه إلا مذاكرتك.
ثم يقولون: { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } [الصافات: 21] ثم يعترفون { ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [الصافات: 21] والفصل لا يكون إلا في الخصومة، والخصومة هنا كانت بين الرسل وأقوامهم المكذِّبين لهم والمعاندين، ومثْل هذه الخصومة لا يُنهيها الجدل؛ لأن المكذبين لديهم لدَد وعناد، وقد لا يُنهيها السيف حتى يموت الظالم دون أنْ يقتصَّ منه.
إذن: لا بُدَّ أنْ يأتي يوم للقصاص وللفصل في هذه الخصومات؛ لذلك قال أحدهم: والله لا يموت ظلوم حتى ينتقمَ الله منه، فقال الآخر: كيف وفلان ظلم كثيراً ولم نَرَ فيه شيئاً؟ قال: والله، إن وراء هذه الدار داراً أخرى يُجَازَى فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
نعم، لا بُدَّ من هذا اليوم، وإلا لَكانَ الظالم أحظَّ من المظلوم.
التفاسير العظيمه