الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب تحريم وصل الشعر والوشم والوشر" وهو تحديد الأسنان، قد مضى الكلام على ذلك بقي من الأحاديث ما جاء عن ابن عمر ، "أن رسول الله ﷺ لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة"[1]، والواصلة هي التي تصل الشعر يعني تقوم بهذا العمل، والمستوصلة هي التي تطلب ذلك لنفسها أو لغيرها، والواشمة والمستوشمة، والوشم هو ما يحصل من غرز الإبر أو ما في معنى ذلك ثم يوضع مادة كالكحل وغيره فيبقى ذلك الأثر في رسومات وما إلى هذا، وذكرت حكمه، وما يشبهه مما يسمونه "التاتو"، وأنها ترجمة للوشم، وأحكام ذلك، وما كان لإصلاح عيب، وما لم يكن لهذا الغرض.
ثم ذكر حديث ابن مسعود ﷺ قال: "لعن الله الواشمات"[2]، فالحديث الأول أن رسول الله ﷺ لعن الواصلة، وهنا: "لعن الله الواشمات"، يعني لعنهن الله ورسوله، الواشمات جمع واشمة وهي التي تقوم بهذا العمل، والمستوشمات جمع مستوشمة وهي التي تطلب ذلك لنفسها أو لغيرها.
"والمتنمصات" المتنمصة وفي بعض الألفاظ: "النامصات والمتنمصات"، فالنامصة هي التي تفعل ذلك، والمتنمصة هي التي تطلبه لنفسها أو لغيرها، والنمص الفقهاء اختلفوا فيه، فبعضهم قيده بشعر الحاجب.
وبعضهم أطلق ذلك في الوجه، وسبب اختلاف الفقهاء أن أهل اللغة اختلفوا في معنى النمص، ومعلوم أن ألفاظ الشارع تحمل على المعنى الشرعي إن وجد، فإن لم يوجد فالعرفي، يعني عرف المخاطبين وهم الصحابة ، فإن لم يكن عرف معين فإنه ينتقل بعد ذلك إلى المعنى اللغوي، والنمص ليس له معنى في الشرع خاص عند الشارع، وليس له معنى في عرف المخاطبين، فيرجع حينئذ إلى اللغة، فأهل اللغة يختلفون في النمص فبعضهم يقيده بالحاجب، وبعضهم يطلق ذلك في الوجه، فمن قيده بالحاجب فإنه لا إشكال عنده أن تزيل المرأة مما ينبت على خديها، أو ما يكون بين الحاجبين أن تزيل ذلك، أما إن كان لها شارب ولحية على غير المعهود فإنهم يقولون بالاتفاق فيما أعلم حتى الذين يقولون: إن النمص إزالة شعر الوجه، يقولون: لا بأس أن تزيل ذلك، بل بعضهم يقول: يستحب كالنووي[3] -رحمه الله-.
والذين قالوا: بأنه يشمل الوجه جميعًا فعندهم لا يجوز أن تزيل شعر الوجه بأي طريق كان إلا الشارب واللحية إذا ظهر على غير المعهود، وما عدا ذلك فيقولون: إزالة الشعر الذين يكون بين الحاجبين لا يجوز، الشعر الذي على الخدين بالنسبة للمرأة لا يجوز، وما إلى ذلك إذا كان هذا في المرأة، وهي محل الجمال والتجمل والحسن: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، فيكون إزالة الرجل لشعر الوجه لاسيما اللحية التي هي من خصال الفطرة، قد جاء الأمر بإعفائها أشد، يعني إذا كان ورد الحديث هنا في لعن النامصات والمتنمصات على القول بأن النمص يشمل شعر الوجه جميعًا فالرجل يكون من باب أولى.
أما إزالة شعر الحاجبين فهذا بالاتفاق بالإجماع أن ذلك لا يجوز، وأنه من كبائر الذنوب، يعني أن تحف الحاجب فهذا لا يجوز بحال من الأحوال،
الباقي يمكن أن يقال: إن من الورع المشروع أن تتوقاه المرأة لكن إن ظهر لها شارب أو لحية على غير المعهود والمعتاد فإنها تزيله، وما عدا ذلك من شعر الوجه فلو تورعت من ذلك فهو خير لها، أما الحاجب فبالاتفاق لا يجوز لها حف الحاجبين، يبقى أمر آخر وهو التشقير الذي يسأل عنه النساء كثيرًا تقول: أنا لا أريد النمص لكن التشقير، وهذا التشقير ليس بدائم هو كالحناء ونحوه، فمثل هذا التشقير الآن لو نظرنا إلى واقعه وحقيقته فهو ليس بنمص فلم تأخذ من شعر حاجبها، لكن النمص لماذا حرم؟
المغيرات خلق الله للحسن تغير ذلك تفعل ذلك؛ لتبدو حواجبها دقيقة هذه النامصة، فإذن حرمت لهذه العلة وأما الشعر فمعلوم أنه ثلاثة أنواع في جسد الإنسان:
النوع الأول: يحرم إزالته كالنمص فهذا لا يجوز.
والنوع الثاني: يؤمر بإزالته كشعر الإبط ونحو ذلك من خصال الفطرة. والنوع الثالث: هو المسكوت عنه فهذا لم يرد فيه شيء فلو أزاله المكلف فإنه لا يكون مؤاخذًا، مثل: الشعر الذي ينبت على الرقبة على الحلق فهذا لا حرج على المكلف في إزالته.
إذن إزالة الشعر ليست بمقصود لذاته حينما يمنع مثلاً، أو نحو هذا وعليه فهذه المرأة التي تشقر الحاجب أشبهت النامصة في المآل في النهاية تبدو حواجبها دقيقة، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى هذه المرأة المشقرة هي متشبهة في الواقع بالنامصة، ومن رآها يحتاج أن يدقق هل هي نامصة أو مشقرة، تبدو حواجبها دقيقة، ومعلوم من الأبواب السابقة وما ورد فيها من الأحاديث أنه لا يجوز التشبه بالفاسقات، بأهل الفسق، والمتنمصات والنامصة ورد فيها اللعن هذا من الكبائر، وضابط الكبيرة أن يرد فيه لعن أو وعيد خاص بالنار، أو عذاب معين، أو نحو ذلك، فهذه إذًا من الفاسقات هذه النامصة فلا يجوز للمرأة أن تتشبه بها فتشقر حواجبها فتبدو كالنامصة، من رآها ظن أنها نامصة ولهذا نقول للنساء بأن لا تقرب الحاجبين بتشقير أو بنمص، والله تعالى أعلم.
قال: "والمتفلجات للحسن" يعني تطلب الحسن المتفلجة نحن عرفنا المتفلجة هي التي تفرق بين الأسنان لتبدو جميلة ويكون ذلك غالبًا لمن تقدم بها العمر فأسنانها تكون مصتكة، أو تكاد، فتباعد بينها لتبدو كأنها شابة حديثة السن، وهذا لا يجوز لا للشابة ولا لغير الشابة، لكن هنا قال: "للحسن" فدل ذلك على أنه إن كان لغرض طبي فهذا لا إشكال فيه، وقد ذكرت من قبل أنه جاء في رواية صحيحة أن ذلك: "إلا لعلة"، يعني جاء فيه الاستثناء فإن كان لعلة فلا إشكال في ذلك.
قال: "المغيرات خلق الله"، إذن العلة هي تغيير خلق الله -تبارك وتعالى-، فقالت له امرأة في ذلك يعني لابن مسعود يعني كيف تلعن؟ تقول: "لعن الله" أين هذا؟ فقال: "وما لي لا ألعن من لعن رسول الله ﷺ، وهو في كتاب الله"، هذه المرأة تقول: "أنا قرأت القرآن وما وجدت هذا فيه، فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه فقرأ عليها قوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]"[4]، متفق عليه. فهذه الآية في الأصل في سياقها هي واردة في العطاء الدنيوي، العطاء المادي، المال وما إلى ذلك، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، من الفيء أو الغنيمة هذا في الأصل، فيكون هذا يدخل فيه دخولاً أوليًا، ويدخل في العموم ما آتاكم من الأحكام، والشرائع، والتوجيهات، والآداب، فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ والمعاني، فهذا اللفظ عام فما تفيد العموم ولهذا احتج بها ابن مسعود على هذا المعنى ما آتاكم من الأحكام والشرائع فخذوه، فإذا قال النبي ﷺ: لعن الله النامصات، فإن هذا داخل في جملة قوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. يقول المصنف -رحمه الله-: المتفلجة هي التي تبرد من أسنانها ليتباعد بعضها من بعض قليلاً، وتحسنها وهو الوشر، -الوشر كأن يكون بالمبرد ونحو ذلك؛ لتستوي هذه الأسنان-، والنامصة وهي التي تأخذ من شعر حاجب غيرها وترققه؛ ليصير حسنًا، والمتنمصة التي تأمر من يفعل بها ذلك. إذن أقول: إذا كان هذه النصوص الآن بهذه المثابة اللعن في أمر إنما يفعل من أجل الزينة والحسن، فهل يطيق الإنسان لعنة الله أن يقوم بها ويقعد، ويأكل ويشرب، ويذهب وينتقل ولعنة الله تلاحقه من أجل حف حاجب من يطيق هذا؟!
وللأسف بعض النساء لربما تتساهل في هذا، وتقول: ما دام الدعوة خربانة، فتفعل أشياء أخرى من عمليات التجميل أيضًا في الأنف، أو في الشفة، أو نحو ذلك بحجة أنها تنمص الحاجب، فلا تسأل عن عمليات التجميل، وكشف العورات مما يندى له الجبين، فيجرؤها هذا العمل هذه الكبيرة يعني هي تقول: ما دام حلت عليها لعنة الله إذن فلتفعل الباقي، يعني أما يكتفي الإنسان بلعنة واحدة إن كان ولا بدّ بدلاً من أن تتابع عليه لعنات الله، فكيف يفكر الإنسان؟! وكيف يجترئ؟! وكيف يجعل آخرته في خطر؟! بل حتى دنياه في خطر! إنسان تنزل عليه لعنة الله كيف يضحك؟! كيف ينام؟! وكيف يستطيع أن يأكل؟! وكيف يستطيع أن يجلس مع الناس؟! وكيف يلقاهم؟! فهذا من أعجب الأشياء لا يكاد الإنسان يتصور مثل ذلك، كيف يجترئ عليه من عرف الله -تبارك وتعالى- وأنه ملاقيه ولا بدّ؟! وأنه سيموت وأنه سيحاسب بمثاقيل الذر؟! فنسأل الله أن يصلح أعمالنا وأحوالنا، إنه سميع مجيب، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]، برقم (4886)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، برقم (2125).
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الموصولة، برقم (5943)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، برقم (2125).
انظر: شرح النووي على مسلم (14/ 106).
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب المتنمصات، برقم (5939)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، برقم (2125).