أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي (إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَة

تفسير الشيخ الشعراوي سورة ص


٢٣_٢٦
(إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ )٢٣-ص


نلاحظ في كلمة (أخي) لَوْناً من التحنين، فمع وجود الخصومة لكن هو أخي كما في قوله تعالى: { { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } [الشعراء: 106] وفي أعنف ألوان العداوة، وهي الثأر يقول سبحانه: { { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [البقرة: 178] يريد أنْ يُحنِّن قلب وليِّ الدم على القاتل.


القضية: { إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ .. } [ص: 23]

كلمة نعجة تطلق في اللغة ثلاثة إطلاقات: أنثى الضأن، أو الشاة الجبلية، أو البقرة الوحشية { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } [ص: 23] يعني: اجعلها لي أكفلها أنا فعندي غنم كثيرة، فاجعلها ترعى مع غنمي، فيكفينا راعٍ واحدٌ بدل أنْ تكلف نفسك راعياً لها، والمعنى أن كفالتها سهلة عليَّ لا تكلفني شيئاً.


{ وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } [ص: 23] يعني: غلبني بالحجة والجدال، ومعلوم أن القاضي يحكم بالحجة والبرهان، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، فلعلَّ أحدكم أن يكون ألحنَ بحجته فأقضي له، فمَنْ قضيتُ له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أُقطع له قطعةً من النار" .


فالمعنى أن أخي غلبني بحديثه وتمكُّنه من حجته، وأنا أشعر بالظلم ونفسي غير راضية؛ لذلك جئتُكَ أرفع أمري إليك لتحكم فيه، وهكذا سمع داود - عليه السلام - دَعْوى الأول ولم يسمع الطرف الآخر، وهذه زلة من زلات القاضي.
لذلك قال أهل المعرفة في هذه المسألة:


إذا جاءك صاحب دَعْوى وقد فُقِئت عينه فلا تحكم له حتى تسمعَ من الآخر، فلعله قد فُقِئت عيناه.

لقد بادر سيدنا داود بالحكم

(قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ )٢٤


(فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ )٢٥-ص


قوله: { لَقَدْ ظَلَمَكَ } [ص: 24] نسب واحداً إلى الظلم { بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ } [ص: 24] أدخل شيئاً في حيثية الحكم وليس من حيثية الحكم، فهل لو لم يكُنْ له تسع وتسعون نعجة، أكان يحِلُّ له أنْ يقول لأخيه: اعطني نعجتك؟


إذن: هذه المسألة لا دخلَ لها في القضية لأنه ظالم، وإنْ لم يكن له تسعة وتسعون. إذن: سيدنا داود أولاً حكم قبل أنْ يسمع من الطرف الآخر، ثم أدخل في حيثية الحكم ما ليس له دَخْل فيه، وهو قوله: { إِلَىٰ نِعَاجِهِ } [ص: 24] فربما هم حاقدون عليه أن يكون عنده تسع وتسعون.


وقوله تعالى: { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ } [ص: 24] أي: الشركاء { لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ص: 24] المعنى: أن هذه القضية ليستْ قضية فذَّة ولا مفردة، إنما هي ظاهرة كثيرة الحدوث بين الشركاء، فكثيراً ما يبغي شريكٌ على شريكه ويظلمه مع أنهم ما تشاركوا إلا لمحبة بينهما واتفاق وتفاهم، لكن هذا كله لا يمنع ميل الإنسان إلى أنْ يظلم، وما أشبه هؤلاء بالمقامِرين تراهم في الظاهر أحبَّة وأصدقاء، في حين أن كلاً منهم حريص على أخْذ ما في جيب الآخر.
ثم يلفتنا الحق سبحانه إلى أن هذه المسألة ليستْ على إطلاقها، إنما هناك نوع آخر من الشركاء لا يظلم، فمَنْ هم؟ هم الذين استثناهم الله بقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ص: 24] لكنهم قليلون { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ص: 24] أي: أقلّ من القليل أو قليل جداً.


والنبي صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربه عز وجل في الحديث القدسي: "أنَا ثالث الشريكين ما لم يخُنْ أحدهما صاحبه، فإنْ خان خرجتُ من بينهما" .




يعني: إنْ تسَرَّب الظلم والخيانة إلى الشركة خرج الله تعالى منها، فمُحِقَتْ بركتها، وحَلَّ بها الخراب والخسران.


ثم يقول تعالى مبيناً حال سيدنا داود بعد أنْ مَرَّ بهذه القضية: { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } [ص: 24] يعني: اختبرناه وابتليناه، وظن هنا بمعنى علم وأيقن، وكأن الحق سبحانه يُعلِّم داود علم القضاء وأصوله فامتحنه بهذه المسألة، فكانت بالنسبة له (مطب) في أمور ثلاثة:

الأول: أنه خاف وفزع وهو في حضرة ربه من خَلْق مثله يقبلون عليه، وظن أنهم سيقتلونه.

الثاني: أنه حكم للأول قبل أنْ يسمع من الآخر.

الثالث: أنه أدخل في حكمه حيثية لا دخلَ لها في المسألة.


وكلمة { فَتَنَّاهُ } [ص: 24] أي: اختبرناه من قولهم: فتن الذهب على النار ليُخلِّصه من العناصر الخبيثة فيه.
فلما علم سيدنا داود بذلك لم يتأَبَّ، إنما استغفر ربه من كل ذلك { فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ .. } [ص: 24] أي: سقط على الأرض سقوطاً لا إرادياً، والسقوط هنا يناسب السجود لا الركوع؛ لذلك قال تعالى: { { يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } [الإسراء: 107] فكلمة خر أعطتنا المعنيين يعني: خرَّ ساجداً حالة كونه راكعاً قبل أنْ يسجد ومعنى { وَأَنَابَ } [ص: 24] رجع إلى الله بالتوبة.
ثم تأتي النتيجة: { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } [ص: 25] أي: ما كان منه { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } [ص: 25] قُرْبَى ومنزلة، ويكفي أنْ تُسبِّح معه الجبال، ويُردِّد معه الطير { وَحُسْنَ مَـآبٍ } [ص: 25] حُسْن مرجع ومردّ.





(يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ )٢٦-ص


كلمة { خَلِيفَةً } [ص: 26] هنا إما خليفة لله في الأرض خلافة عامة لأن الإنسان كله خليفة لكنه عليه السلام عمدة على الخليفة، أو خليفة الأنبياء في حَمْل رسالاتهم إلى الناس، وما دام هو مستخلفاً فهو موظف إنْ أحسنَ الوظيفة دامتْ له، وإنْ لم يحسن نُزِعَتْ منه.
فآفة الإنسان أنه إذا ما استجابتْ له الأشياء وطاوعتْه الأسباب يظن أنه صار أصيلاً في الكون، ونسي أنه مُسْتخلف غيرِ أصيل، إنما لو ظَلَّ على ذِكْرِ لخلافته في الأرض، وأنه من الممكن أنْ يُعزِلَ عن الخلافة في أيِّ وقت لظلَّ مؤدباً مع ربه الذي استخلفه: { { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7].


وقوله تعالى { فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ } [ص: 26] يعني: ما دُمْتَ خليفة لله في الأرض تعمرها بالأحكام وتقيم فيها الحق { فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ } [ص: 26] وهذه نصيحة غالية لكل مَنْ يحكم بين الناس، فالحق أمامك نبراس يهديك، فضعْهُ في موضعه أياً كان، ولا تتبع هواك لأن الرأي يُفسِده الهوى.


لذلك وقف بعض المفكرين أمام قول الله تعالى عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [النجم: 3-4].
قالوا: ما دام هو وَحْي يُوحَى، فلماذا يُعدِّل الله له كما في قوله سبحانه: { { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ .. } [التوبة: 43].
وقوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } [التحريم: 1].
وقوله تعالى: { { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } [عبس: 1-2].


قالوا: إن الحق سبحانه لا يعدل لرسوله، إنما يخبر أنه لا هوى له يجعله يميل عند الحكم، فهو صلى الله عليه وسلم يدخل على المسألة بدون هوى، سواء أكان الأمر من عند الله أو من المفوَّض له أنْ يشرع فيه.
والحق سبحانه حينما أراد أنْ يحدد مهمة رسوله صلى الله عليه وسلم حدَّد مهمة كتابه بأنه كتاب مُعجز، ويحمل أصول المنهج لا فروعه، وأنه مهيمن على غيره من الكتب السابقة، لأن الكتب السابقة عليه أثبتَ الله أنها بُدِّلَتْ وحُرِّفت، فلم يأمن عليها المؤمنين بها كما قال سبحانه: { { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ .. } [المائدة: 44].
ومعنى استحفظوا: طُلب منهم حفظه وحفظ منهجه، فحِفْظ الكتاب المنزَّل كان تكليفاً والتكليف عُرْضة أَنْ يُطاع وأنْ يُعصَى، وهؤلاء عَصَوْا وبدَّلوا وحرَّفوا، كما قال الله { { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [المائدة: 13] والذين لم ينسوا حرَّفوا { { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [المائدة: 13] ومنهم مَنْ جاء بكلام من عند نفسه، وأدخله في كلام الله { { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 78].
إذن: مثل هؤلاء لا يُؤتَمنون على حفظ كتاب الله، وقد ثبت ذلك بهذه التجربة، لذلك لم يجعل الحق سبحانه حِفْظ القرآن إلى المؤمنين به، إنما تكفَّل سبحانه بحفظ القرآن، فقال سبحانه: { { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
ولأن الحق سبحانه جعل لنبيه محمد هذه المنزلة أراد أنْ يُبينها، فقال: "مَثَلي ومَثَل الأنبياء من قَبْلي كَمَثَل رجل بنى بيتاً فحسَّنه وأجمله، إلا موضعَ لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هَلاَّ وُضِعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين" .


والحق سبحانه يُبيِّن منزلة رسوله في إكمال الأديان، فيقول { { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي .. } [المائدة: 3] ليس هذا فحسب، إنما يعطيه مهمة أخرى، هي صيانة هذه الأديان به وبالعلماء الذين يخلفون مَنْ بعده، لذلك قال سبحانه: { { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً .. } [البقرة: 143].
فالرسول يشهد أنه بلغنا، وعلينا نحن أنْ نمد رسالة رسول الله، فنشهد أننا بلغنا الناس من بعده. لذلك يحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من طائفة تأتي ممَّن لا يؤمنون بسنته يقولون: علينا بكتاب الله فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه.


وحين تتتبع لفظ الطاعة في القرآن تجد أنه أتى على صور متعددة.
فمرة يقول: { { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } [التغابن: 12] بتكرار الأمر بالطاعة.
ومرة يقول: { { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } [آل عمران: 132] بدون تكرار لفعل الأمر.
ومرة يقول: { { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأنفال: 20].

فتكرار الأمر بالطاعة مرة لله ومرة لرسول الله حين يكون لله أمر في القضية الإجمالية مثل الصلاة مثلاً، ولرسول الله أمر في تفصيل كيفية الصلاة. فإنْ توارد أمر رسول الله مع أمر الله جاء الأمر واحداً بدون تكرار، فإنْ كان الأمر خاصاً برسول الله، ولم يردْ فيه من الله شيء قال: أطيعوا الرسول.


لذلك تلاحظ العظمة في الأداء في قوله تعالى: { { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59] ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر، لماذا؟

ليلفتنا إلى أن طاعة أُولي الأمر من باطن طاعة الله، وطاعة رسول الله يعني ليس لهم طاعة خاصة بهم؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.


وقوله تعالى { فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ } [ص: 26]
أي: حكماً عاماً للناس جميعاً ليس خاصاً بك، وهنا لا بُدَّ أنْ نذكر قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [النساء: 105].
ولهذه الآية قصة، فقد نزلت في كل من زيد بن السمين، وكان رجلاً أميناً مع أنه يهودي، وفي قتادة بن النعمان وطعمة بن أبيرق، فقد كان لقتادة دِرْع سرقه ابن أبيرق واتهِم فيه اليهودي ابن السمين، وبعد استقصاء الأمر وجدوا الدرع عند ابن أبيرق المسلم وظهرت براءة اليهودي.
وهنا أسرع الناس إلى رسول الله حتى لا يحكم على المسلم، فتكون سبة في حق المسلمين أمام اليهود، فتردَّد رسولُ الله في المسألة، فأنزل الله عليه: { { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } [النساء: 105] أي: الناس جميعاً اليهود والنصارى والمسلمين وفعلاً حكم رسول الله على المسلم وبرَّأ ساحة اليهودي ولم يُبَال أحد لا رسولُ الله ولا المسلمون بأنْ ينتصر اليهودي على المسلم؛ لأن الحق أعزُّ من هذا ومن ذاك.
وحين رأى اليهودُ رسولَ الله يحكم لليهودي ويدين المسلم أقبلوا على الإسلام، وأسلم منهم كثيرون على رأسهم (مخيريق) الذي أعلن إسلامه، ووهب كل ماله لرسول الله، ثم خرج للغزو لما أعجله النفير قبل أن يصلي لله ركعة واحدة، وقُتِل (مخيريق) في هذه الغزو شهيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه: "نِعْمَ مُخيريق، دخل الجنة ولم يُصَلِّ لله ركعة" .
هذا معنى { فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ .. } [ص: 26].


ومعنى { خَلِيفَةً .. } [ص: 26] أن الله استخلفنا جميعاً في الأرض، وجعل للمستخلفين خليفة يدبر أمرهم ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه بمنهج من استخلف الكُلَّ. أو خليفة للرسل الذين سبقوه يُنبه إلى ما انطمس من مواكب الحق في الخَلْق، والحكومة بين الناس لا تكون إلا عن اختلاف بينهم؛ لأنهم لو لم يختلفوا ما تحاكموا، وما لم يختلف فيه الناس فلا دَخْلَ للحاكم فيه إلا أنْ يكونوا قد اختلفوا مع الحق الأعلى، فعندها لا بُدَّ أنْ يتدخَّل.
وكلمة { بِٱلْحَقِّ .. } [ص: 26] الحق يعني: الشيء الثابت الذي لا يتغير، وهذا لله تعالى، أما الإنسان فأموره تتغير ولا تستقر على حال، ونحن منها أغيار، لكن الحكم الذي يحكم حركة الإنسان ما دام من الله فهو ثابت لا يتغير، وما دام الله تعالى قد أتمَّ النعمة وأكمل الدين ورضي الإسلام، فلا استدراك لأحد عليه في شيء من الأشياء؛ لأن الاستدراك طَعْنٌ في استقصاء الله لحكمة الحكم.


والحق يقابله الباطل، وقد يعلو الباطل في بعض الأحيان، لكن يظل الحق هو الحق حتى يعلوَ في نهاية المطاف. والحق سبحانه يترك الباطلَ يعلو في بعض الأحيان لحكمة، هي أن يعضَّ الباطلُ الناسَ، ويكويهم بناره لتظهر لهم حلاوة الحق، فإذا لَذَعهم مُرُّ الباطل فزعوا هم إلى طلب الحق.
إذن: فإنْ عَلاَ الباطل فالحق أعْلَى، وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً يوضح هذه المسألة، فقال سبحانه: { { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } [الرعد: 17].
إذن: فالحق ثابت، وبهذا الثبات نفهم أن المناهج الإلهية ما جاءت لتجعل كلمة الله هي العليا، إنما جاءت لتجعلَ كلمة الذين كفروا السفلى، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: { { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا .. } [التوبة: 40] فلم يعطف الثانية على الأولى، ولم يقل: وكلمة الله هي العليا. لأن كلمة الله ليستْ جعلاً، وإنما هي شيء ثابت، وهي حَقٌّ أزلاً.


ثم يقول سبحانه مخاطباً سيدنا داود: { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ .. } [ص: 26] الهوى: مَيْلُ النفس إلى شيء تهواه بغَضِّ النظر عن منهج يحكمه، والهوى يختلف باختلاف الناس، حتى الأصدقاء الحميمون المتلازمون في المأكل والمشرب والميول إذا ذهبوا لشراء شيء اشتروا أشياء مختلفة وألواناً متباينة.
نعم، هناك جامعة تجمعهم هي الصداقة، لكن الأهواء مختلفة، فإذا كان هواي يخالف هواك، فلا بُدَّ أنْ نرجع إلى شيء لا نختلف فيه، فإنْ كان هذا الشيء الذي لا نختلف فيه من أعلى مِنّا فلا غضاضة، الغضاضة تأتي حين تخضع لمن يساويك وتحكّمه، وتنتهي إلى رأيه.
لذلك الحق سبحانه يحكم هذه المسألة بقوله تعالى: { { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ .. } [المؤمنون: 71].


ونحن نفهم أن اختلاف الأهواء يفسد الحياة على الأرض، لكن كيف يفسد السماء؟ ولماذا بدأ بفساد السماوات قبل الأرض؟
قالوا: نعم، لأن الفساد سيتعدَّى فسادَ الأرض، ويفسد أيضاً السماء، بمعنى أنه سيفسد حكم الله المنزَّل من السماء، وما دام سيفسد حكم الله المنزَّل من السماء وهو الحق، وهذا الفساد سابق لفساد ما على الأرض.
لذلك لم يقولوا: { { أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً .. } [الإسراء: 92] هذا هوى، ولو أجابهم الله فيما طلبوا لفَسدتْ فعلاً السماوات والأرض، فمن رحمة الله بالخَلْق أنْ عَصَم أهواءهم في المناهج النظرية التي تحكم الناس فيما يختلفون فيه، أما الشيء الذي لا يُختلف فيه فتركه لكم تربعون فيه كما تشاءون.
فإنْ قلتَ: فلماذا ترك لهم الأمور التي لا اختلاف فيها؟


نقول: لأنهم سينتهون فيها إلى حَقٍّ واحد مجْمع عليه، وهذا ما نراه مثلاً في العلوم المادية التجريبية، فهي مجال مفتوح للجميع، الروس مثل الأمريكان، بل نراهم يجعلون على هذه العلوم حواجز حديدية حتى لا تصل إلى غيرهم، والبعض يتلصَّص ويسرق ما وصل إليه الآخرون.
إذن: فالشيء الذي سنتفق فيه لا تتدخَّل فيه السماء، وهذه المسألة حكمها سيدنا رسول الله، وأعطانا مثالاً في نفسه صلى الله عليه وسلم في مسألة تأبير النخل، فلما اقترح عليهم عدم تأبير النخل فسد في هذا العام ولم يثمر، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بشئون دنياكم" .
لماذا؟ لأنكم ستصلون بالتجربة إلى شيء واحد، تتفقون عليه وتسرقونه من الآخرين، أما في الأهواء فهي مختلفة من واحد لآخر، ويحصل منها الصدام بارداً كان أو حاراً.


ثم يُبيِّن الحقُّ سبحانه العِلَّة من النهي عن اتباع الهوى، فيقول: { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ .. } [ص: 26] يعني: لا تتبع الهوى، لأن اتباع الهوى يُضلّك عن سبيل الله، وقد أوضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألة حين خَطَّ للصحابة خطاً مستقيماً، وخَطَّ حوله خطوطاً متعددة، ثم تلا: { { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ .. } [الأنعام: 153].
وتفرُّق السُّبُل ينشأ من الاختلاف مهما كان يسيراً، (فالمللي) الواحد يُفرِّق السبل، ولو رسمتَ خطَّيْن من مركز واحد ومال أحدهما عن الآخر (مللي) واحد لنتج عن ذلك تباعدهما بالتدريج كلما بَعُدَا عن المركز، أرأيتَ مثلاً المحولجي الذي يقوم بتحويل مسار القطار ماذا يفعل؟ إنه يحرك طرف القضيب الذي لا يتجاوز سمكه خمسة (مللي) متر، فينتج عن هذه الحركة تحويل مسار القطار من الإسكندرية إلى أسوان.
وهكذا تتفرق السبل، وينشأ عن الاختلاف اليسير اختلاف عظيم، فالتباعد الهيِّن البسيط عند المركز ينتج عنه تباعد واسع كلما طالت المسافة، وكما يكون التفرُّق في السُّبُل المتعددة يكون التفرق كذلك في الطريق الواحد حين يكون واسعاً يسمح بالتفرق.
فمثلاً الطريق الصحراوي إلى الإسكندرية طريق واسع من اتجاهين، ويمكنك أنْ تسير في أحدهما بطريقة ملتوية تميل مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، فينشأ عن ذلك طول الطريق؛ لذلك قالوا سواء السبيل يعني: أن تجعل الجانبين على سواء.


ثم يوضح الحق سبحانه عاقبة الضلال والانحراف عن جادة الطريق، فيقول: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ } [ص: 26].
إذن: فالغفلة عن هذا اليوم ونسيان العاقبة هو سبب الوقوع في العذاب الشديد، فلو ذكر الإنسانُ الجزاءَ على السيئة ما فعلها، ولو ذكر ثوابَ الحسنة مَا غفل عنها، ولا تكاسل عن أدائها.





التفاسير العظيمة









قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
ايات القران التي تتكلم عن: الحساب و اليوم الاخر أم أمة الله القرآن الكريم
أمنيات الأحياء وأمنيات الموتي بحلم بالفرحة المنتدي الاسلامي العام
الرقية الشرعية كاملة من القرآن والسنة لؤلؤة الحَياة الرقية الشرعية والسحر
الإيمان باليوم الآخر والحساب بشرى على العقيدة الإسلامية
طريقة قراءة الرقية الشرعية نسيم آڸدکَريآت الرقية الشرعية والسحر


الساعة الآن 11:44 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل