الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد:
فهذه بعض أقوال السلف رضي الله عنهم في شأن الدنيا وموقف المؤمن منها.
قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: إن الله تبارك وتعالى فاتح عليكم، فلا تأخذُن منها إلا بلاغًا.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: وإذا عرض لك أمران: أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الآخرة على نصيبك من الدنيا، فأن الدنيا تنفد والآخرة تبقى.
وقال عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -: الدنيا خضرة، قد شُهِّيَتْ إلى الناس، ومال إليها كثيرٌ منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا، ولا تثقوا بها، فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلَّا من تركها.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل)؛ أخرجه البخاري.
وقيل لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: صف لنا الدنيا؟
فقال: ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء حلالها حساب، وحـرامها عقاب، من استغنى فيها فـتـن، ومـن افـتـقـر فـيهـا حـزن.
وكان ابنُ عمرَ - رضِي اللهُ عنهما - يقول: إذا أصبحتَ فلا تنتظِرِ المساءَ، وإذا أمسيْتَ فلا تنتظِرِ الصَّباحَ، وخُذْ من صِحَّتِك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك.
وقـال ابـن مـسـعـود - رضي الله عنه -: ليـس أحـد إلا وهـو ضـيـف على الدنيا وماله عـاريـة، فـالـضـيـف مـرتـحـل والـعـاريـة مـردودة.
وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بني، بعْ دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا، ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعًا.
وقال الحسـن الـبـصـري - رحمه الله تعالى -: مـن نافـسـك في دينـك فـنـافـســه، ومـن نافـسـك في دنيـاك فـألـقـهـا فـي نـحـره.
وذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله فقال:
الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل
وإن اللبيب بمثلها لا يخدع
وقال الإمـام الـشـافـعـي - رحـمـه الله تعالى -:
مـن غلبت عليــه شــدة الـشـهـوة لحب الحـياة، ألـزمـته العـبـوديـة لأهـلهـا، ومـن رضي بالقـنـوع زال عنه الخضوع.
وقال الفضيل - رحمه الله -:
لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى، لكان ينبغي لنا أن نختار خزفًا يبقى على ذهب يفنى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ليس في الدنيا نعيمٌ يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان.
وقال ابن القيم - رحمه الله -: من لاح له كمال الآخرة هان عليه فراق الدنيا.
وقال حاتم الأصم رحمه الله: مثل الدنيا كمثل ظلِّك إن طلبته تباعد وإن تركتَه تتابَع.
وقال وهب بن منبِّه رحمه الله: (مَثَلُ الدُّنيا والآخرةِ مثلُ ضَرَّتَين إن أَرْضَيتَ إحداهما أَسْخَطتَ الأُخَرى).
وقال بعض السلف: "إنَّ الدنيا إذا كست أوكست، وإذا حلت أوحلت، وإذا غلت أوغلت، فإياك إياك".
ومن نظر في جميع نصوص الوحيين وأقوال السلف الصالحين، أدرك أن ما ورد في ذم الدنيا ليس المقصود منه ذم الحياة أو الأرض أو الزمان، ولكن المقصود ذم العمل السيء فيها والانشغال بها عن طاعة الله تعالى، فالدنيا مزرعة الآخرة ومضمار سباق المتقين إلى جنات النعيم، وإنما غلب وصف الذم على الدنيا وكثُر التحذير منها؛ لأن حال أكثر الناس التلهي والانشغال بها عن الآخرة.
قال ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾، هذه حياة الكافر؛ لأنه يكون فيها في غرور وباطل، وأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهوًا ولا لعبًا.
وقال سعيد بن جبير- رحمه الله تعالى - في الدنيا:
(متاعُ الغُرورِ ما يُلْهِيكَ عن طَلبِ الآخرةِ، وما لم يُلْهِكَ فليسَ مَتاعَ الغُرورِ، ولكنّه بَلاغٌ إلى ما هو خَيرٌ منه).
وقال ابن رجب - رحمه الله -:
واعلم أنَّ الذمَّ الوارد في الكتاب والسُّنَّة للدُّنيا ليس هو راجعًا إلى زمانها الذي هو اللَّيل والنَّهار، ولا إلى مكان الدُّنيا الذي هو الأرض، التي جعلها الله لبني آدم مِهادًا وسكنًا، فإنَّ ذلك كُلَّه مِنْ نعمة الله على عباده، وإنَّما الذَّمُّ راجعٌ إلى أفعال بني آدمَ الواقعةِ في الدُّنيا؛ لأنَّ غالبَها واقعٌ على غير الوجه الذي تُحمَدُ عاقبتُه، بل يقعُ على ما تضرُّ عاقبتُه أو لا تنفع". ا. هـ.
وقال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -:
"واعلم أن خلقًا كثيرًا سمعوا ذم الدنيا ولم يفهموا المذموم، وظنوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع من المطاعم والمشارب، فأعرضوا عما يصلحهم منها فتجففوا فهلكوا، ولقد وضع الله جل وعلا في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكلما تاقت منعوها ظنًّا منهم أن هذا هو المراد، وجهلًا بحقوق النفس، وعلى هذا أكثر المتزهدين"؛ [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب 2 /547].
وقال ابن القيم - رحمه الله -:
الدنيا في الحقيقة لا تُذَمُّ، وإنما يُتوجه الذمُّ إلى فعل العبد فيها، ولكن لَمَّا غلبتْ عليها الشهوات والحظوظ، والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة، فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها، صار لها اسم الذم عند الإطلاق، وإلا فهي مَبْنَى الآخرةِ ومزرعتُها، وفيها اكتسبتْ النفوسُ الإيمان، ومعرفةَ الله ومحبتَه وذكرَه ابتغاء مرضاته، وخيرُ عيش ناله أهل الجنة في الجنة، إنما كان بما زرعوه فيها، وكفى بها مدحًا وفضلًا". ا. هـ.
عبدالهادي بن صالح محسن الربيعي
شبكة الالوكة