(( يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ – فاطر ١٥ ))
هذا هو المبدأ الأول الذي يتوجب علينا الإيمان به أن الناس كلهم فقراء والله هو الغني ، مع الأسف أنََّ غالبيتنا لا يؤمن بالقرآن في مقام العمل ، هذا الغني … هذا الحاكم من أين جاء بما لديه ؟ هل هو من ذاته ؟ لو كان كذلك لبقي عنده إلى أبد الآبدين بل يخرج من الدنيا بكفن رخيص … قبل أن يأتي إلى الدنيا يأتي فقيرا وعندما يذهب يذهب فقيرا ، يقول تعالى : (( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ- سورة الأنعام ٩٤ )) ، إذا آمنا بهذه الحقيقة هل تبقى ذرة شك في ضرورة الالتجاء لهذا المنبع الأبدي للغنى يجب أن نتصل بالغني المطلق
موسى كليم الله قال : ((رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ – القصص٢٤ )) يبدي افتقاره لرب العالمين ، ونحن في أمورنا العادية وكأننا لا نحتاج لرب العالمين ، رغم أن الأدب مع رب العالمين يقتضي أن نطلب منه كل شيء
الرزق بيد الله :
من صفات الله عزوجل أنه رزَّاق ((إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ – الذاريات ٥٨ )) : وهي صيغة من صيغ المبالغة ، أي أن الله يبالغ في رزقه ، ذو القوة المتين : هو صاحب القوة هو مسبب الأسباب ، كما وردت جملة من الآيات القرآنية في الرزق ، يقول تعالى : ((وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً- الطلاق ٢ ))… (( مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ – فاطر ٢ ))
(وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ – المنافقون ٧ )) (( ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ – الروم ٤٠ )) ما الذي تعنيه هذه الآية المختصرة ؟ …أن الذي له الخلق له الرزق ، أنت مسَلِّم لله في الخلق ، فلماذا لا تسلم له في الرزق ؟… هل الخلق من الله والرزق من السلطان والتجار والمترفين في الدنيا ؟!…
أسباب الرزق.. وجالبات البركة
1ـ تقوى الله:
قال سبحانه: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}[الطلاق] يقول ابن كثير: "يرزقه من جهة لا تخطر بباله"، وقال ابن عباس: "من حيث لا يرجو ولا يأمل".
أما التقوى التي تستجلب بها الأرزاق، وتتنزل بها البركات فهي التي عرفها علي رضي الله عنه بأنها: "الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل".
وقال طلق بن حبيب: هي "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "تقوى الله: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر".
وهي في عموم الكلام "أن تجعل بينك وبين غضب الله ومساخطه وعقابه وقاية".
قال تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[الأعراف:96].
2 - كثرة التوبة والاستغفار:
وقد حكى الله على لسان نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}[نوح:10-12].
قال الإمام القرطبي : "دلت الآية أن الاستغفار يتنزل به الرزق والأمطار".
وقال ابن كثير: "إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر عليكم الرزق، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، فأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين..".
ذكر الإمام القرطبي عن ابن صبيح قال: "شكا رجل إلى الحسن الجدوبة: فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه آخر الفقر، فقال له: استغفر الله. وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله.. فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فقال: ما قلت من عندي شيئاً! إن الله عز وجل يقول في سورة نوح: {فقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}[نوح:10-12].
وعن ابن عباس رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)[رواه أحمد وصححه الشيخ شاكر].
3 – صدق التوكل على الله:
وهو الأخذ بالسبب، وتعلق القلب بالمسبب سبحانه، فيتعلق قلبه بالله في جلب النفع ودفع الضر، وسعة الرزق، وتيسير الأمر.. قال جل في علاه: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}[الطلاق: ]، يعني كافيه: "يكفيه ما يؤذيه ويضره، ويكفيه حاجته وما أهمه".
عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا)[رواه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح].
أي أنها تخرج في الصباح خاوية البطون فارغة الأمعاء، متوكلة على رب الأرض والسماء، ليس معها سبب إلا السعي، فما تلبث أن تعود شباعا بطانا قد رزقها الله من فضله.
قال ابن رجب : هذا الحديث أصل في التوكل وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق.
قال ربنا سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ}[الملك:15]، وقال تعالى: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة:10].
قال الشافعي رحمه الله:
توكلت في رزقي على الله خالقي .. .. وأيقنــت أن الله لا شــك رازقـي
وما كان من رزقي فليس يفوتني .. .. وإن كان في قاع البحار العوامق
سـيأتي بــه الله العـظـــيم بمـــنــه .. .. ولو لم يــكن مني اللسـان بناطق
4 ـ صلة الأرحام:
فقد جعلها الله تبارك وتعالى سببا لسعة الرزق، ولجلب البركة على الواصل في ماله وعياله، وصحته وعمره.
وقد بوب البخاري في صحيحه: "باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم". وروى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ له فِي رِزْقِهِ، وأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة عن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعَلَّموا من أنسابِكم ما تَصِلُونَ به أرحامَكم؛ فإن صلةَ الرحِمِ مَحَبَّةٌ في الأهلِ، مَثْرَاةٌ في المالِ، مَنْسَأَةٌ في الأَثَرِ)[وقد رواه أحمد أيضا وصححه الألباني].
والأرحام هم أقارب المرء من أرحامه وأنسباؤه، وصلتهم تكون بزيارتهم، والتلطف معهم، والسؤال عن أحوالهم، وعيادة مرضاهم، ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، كما تكون بسد حاجة المحتاجين منهم، وإعطاء الفقراء والمساكين، وقضاء حوائج المحتاجين. وقد قيل:
ومن يــك ذا مـال فيبــخل بمــاله .. .. على أهله يًستغن عنه ويذمم
ومن يجعل المعروف في غير أهله .. يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
5 - النفقة في سبيل الله وكثرة الصدقات:
سواء كانت في الجهاد، أو في أبواب الخير والنفع، قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ:39]، قال ابن كثير: "يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب".
وفي صحيح مسلم، يقول اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: (يا ابْنَ آدَمَ أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ)[وهذه في البخاري أيضا]. وما أبرد هذه على القلب إذا تيقن بها الإنسان، وامتلأ بها قلبه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)[متفق عليه].
وهذا وعد حق وقد ورد ما يدل عليه في الكتاب والسنة. فإهلاك مال الممسك في قصة أصحاب الجنة في سورة القلم وغيرها،.. ووقائع الدنيا شاهدة بهذا ناطقة به.
6 ـ المتابعة بين الحج والعمرة:
خصوصا في زماننا هذا الذي زادت فيه تكاليف هذه الرحلات فزهد فيها الناس، فنذكرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)[رواه النسائي وصححه الألباني].
7 – النكاح بغية العفاف:
أي: الَّذي يُريدُ أن يتزوَّجَ ليُحصِّنَ نفْسَه مِن الزِّنا؛ فقد جعل الله هذا من أسباب الرزق، فقال سبحانه: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[النور:32].
وفي الحديث: (ثلاثةٌ حقٌّ على اللَّهِ عونُهُم: المُجاهدُ في سبيلِ اللَّهِ، والمُكاتِبُ الَّذي يريدُ الأداءَ، والنَّاكحُ الَّذي يريدُ العفافَ)[صحيح الترمذي].
قال عمر: عجبا لمن لم يطلب الغنى في النكاح والله يقول: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِۗ}.
8 ـ الإكثار من العبادة وتفريغ بعض الوقت لها:
وليس معناه أن يجلس الإنسان كل وقته يصلى، أو في المسجد قاعدا عن طلب الرزق، وحسن السعي، وإنما أن يقتطع من وقته ما أمكنه ويكثر من ذلك ما استطاع، ففي الحديث القدسي يقولُ ربُّكُم تَباركَ وتَعالَى: (يا ابنَ آدمَ، تَفرَّغْ لِعبادِتي أملَأْ قلْبَكَ غِنًى، وأملَأْ يدَيْكَ رِزْقًا، يا ابنَ آدمَ، لا تُباعِدْ مِنِّي فأملَأَ قلبَكَ فقْرًا، وأمَلَأَ يدَيْكَ شُغُلًا)[أخرجه الحاكم]. فاللهم اشغلنا بما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما خلقته لنا.
9 - ترك المعاصي والذنوب:
فإنها مزيلات النعم، وجالبات النقم، ومذهبات البركة، وموجبات اللعنة والهلكة، ورافعات الأرزاق. وقد جاء في بعض الآثار النبوية: (إنَّ العَبدَ ليُحرَمُ الرِّزقَ بالذَّنبِ يُصيبُه)رواه أحمد في مسنده [قال في تخريج المسند: حسن لغيره].
وشاهده قوله تعالى في سورة النحل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[النحل:112].
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا .. .. فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَاد .. .. فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
10 – الشكر والرضا
فقد تكفل الله للشاكرين بالزيادة، فقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:7]، وقال سبحانه: {وسيجزي الله الشاكرين}[آل عمران].
وأما الرضا فهو باب الغنى الأكبر والأوسع، قال صلى الله عليه وسلم: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)رواه الترمذي وغيره.
وأخيرا الدعاء
وهو من جوامع الأسباب، فإنه مفتاح كل باب مغلق، وسبيل التيسير لكل أمر عسير، قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60].
فاللهم إنا نسألك السعة في الأرزاق، والبركة في الأعمار والأموال والأولاد، وارزقنا شكر نعمتك، وحسن عبادتك، والفوز بجنتك يا أرحم الراحمين.
اسلام ويب