(أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )٥٢-الزمر
﴿أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ لا تعلّق قلبك في رزقك -ولا في غيره- بغير الرزاق سبحانه، فهو الذي يعطي ويمنع./ عمر المقبل
لأن قارون اغترَّ بماله وجاهه، وما كان فيه من غنى وزَهْوة في قومه، حتى قال { { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } [القصص: 78] فأراد الحق سبحانه أنْ يُصحح له المسألة ولمَنْ كان على شاكلته، فقال سبحانه: { أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [الزمر: 52] يبسط يعني: يُوسِّع على مَنْ يشاء، ويقدر يعني: يُضيق على مَنْ يشاء ويقبض، وكما نقول: يعطي مَنْ لا حيلَةَ له ليتعجب مَنْ له حيلة.
إذن: المسألة في الرزق والعطاء ليست شطارة ومهارة في تناول الأشياء، إنما هي قدر قدَّره الرازق سبحانه.
والحق سبحانه وتعالى يرزق الإنسان من حيث لا يحتسب،
لكن نلاحظ في مسألة الرزق أن الناس يُخطئون حين يظنون ويُحجِّمون الرزق في المال وحده، فالرزق عندهم هو الغِنَى وكثرة المال، لكن الصواب أن نقول: الرزق هو كل شيء يُنتفع به وتستفيد منه، وعليه فالعلم رزق، والحلم رزق، والأمانة رزق، والصحة رزق .. إلخ.
لذلك ينبغي على الغني الذي رُزِق المال الوفير أنْ يسأل نفسه حين يرى فقيراً: يا ترَى ما رزق هذا الفقير؟ وبم تميَّز عني؟ ربما كان رزقه في عقله أو في أدبه أو في حلمه أو في سمعته الطيبة بين الناس أو في عافيته.
وسبق أنْ قلنا: إن مجموع المواهب عند أيِّ إنسان تساوي مجموع المواهب عند الآخر، فهذا عنده المال بنسبة عشرة على عشرة، لكنه حُرِم نعمة الولد بنسبة صفر على عشرة وهكذا؛ لأن الخَلْق جميعاً عيال الله، ولا يوجد منهم مَنْ هو ابن الله أو بينه وبين الله نسب.
إذن: علام يوجد التمييز بين واحد وآخر؟
نقول: الرزق يحتاج إلى جهات متعددة؛ لذلك يوزع الرازق سبحانه الأسباب فلا تستقيم الحياة إنْ كان الناس جميعاً أغنياء، أو كان الناسُ جميعاً عقلاء أو علماء؛ لأن العقل الواحد مثلاً يحتاج إلى أكثر من جارحة من الجوارح تخدم تفكيره، فالمهندس مثلاً حين يرسم تصميماً لعمارة سكنية، هو مهندس واحد لكن يحتاج إلى كم عامل لتنفيذ هذا العمل، ولخدمة هذه الفكرة الهندسية، فالعامل البسيط الذي يحفر الأرض لوضْع الأساس عنده من المواهب ما ليس عند المهندس، وهكذا تُوزَّع المواهب وتُوزَّع الأرزاق.
والرزق قد يكون بزيادة الدخل، وقد يكون سلباً بنقص المنصرف، فنجد مثلاً رجلاً راتبه الشهري مائة جنيه ويتعجب الناس كيف يعيش بهذا المبلغ، ونسوا أن المهم في الرزق أن يكون من الحلال، فالله يبارك في القليل منه، حتى يحلّ محل الكثير، فتجد هذا الرجل مثلاً إذا مرض ولده يكفيه قرص أسبرين والأم تعد له كوب شاي ويُشفى الولد بإذن الله.
بينما نجد آخر يحصل على أضعاف هذا المبلغ، لكنه لا يتحرَّى الحلال في كسبه، فإذا مرض ولده ذهب به إلى الطبيب، وأجرى التحاليل وأوهم نفسه أن المرض خطير، حتى يصرف على الولد مبالغ كبيرة.
إذن: رزق الإيجاب أنْ يزيد المورد، ورزق السلب أنْ يقلَّ المنصرف،
لذلك نلحظ مثلاً موظفاً من أصحاب الرواتب العالية وزميله له راتب متواضع يذهبان إلى السوق، الأول يشتري الرومي أو السمك الكيلو بعشرة جنيهات، أما الآخر فيشتري السمك العادي الكيلو مثلا بأربعة جنيهات، ذهب كل منهما إلى بيته وأكل كل منهما سمكاً، لكن الأول صرف أضعاف أضعاف الآخر، وربما النتيجة واحدة، وكل منهما راضٍ بما أخذ وبما أكل، هذا نسميه رزق السلب.
والمؤمن ينبغي له دائماً أنْ يضع مسألة الاقتصاد في النفقات في باله، وأنْ يعلم أن رزق السلب أوسع من رزق الإيجاب، لأن رزق السلب منع ألماً، أمَّا رزق الإيجاب فقد يأتي بالألم.
وقوله سبحانه: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الزمر: 52] أي: يؤمنون بالرازق الذي سمَّى نفسه الباسط، وسمى نفسه القابض، وما دام الحق سبحانه سمَّى نفسه الباسط وسمى نفسه القابض فلا بدَّ أنْ يكون لكل صفة متعلق، ولا بدَّ أنْ يوجد في الخَلْق مَنْ يبسط الله له الرزقَ، ومَنْ يقبض عنه ويُضيِّق عليه، وهذا وذاك بحكمته تعالى وقدره سبحانه.
فمَنْ وسَّع الله له رزقه، وبسط له عليه أنْ يشكر، ومن قُدِر عليه رزقه وضُيِّق عليه يجب أن يصبر وأنْ يرضى، وأنْ يسير في حركة حياته على قدر رزقه، ولا يفتح على نفسه أبواب المسألة، فمَنْ رضي بقدره أعطاه الله على قدره سبحانه؛ لذلك تجد عظماء العالم وأصحاب الكلمة والصِّيت لو نظرت إليهم في أوليات حياتهم لوجدتهم رَضُوا بقدر الله فيهم وعاشوا في مستوى دخولهم
التفاسير العظيمة