(يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ )١٩-غافر
اعلموا أن عِلْمَ الله شامل ولا يخفى عليه شيء مهما دَقَّ، فإنْ عمَّيتم على خلق الله في الدنيا واختلستُم النظرات فيما لا يحل لكم فاعلموا أنكم لا تخفَوْنَ على الله، ولو أيقن المؤمن بشمول علم الله وبنظره إليه ما كانت له خائنة أعين.
لذلك رأينا القاضي وهو يحكم بين الناس ويتحرَّى العدل في حكمه وجد بحاسة الحق عنده أنَّ الشهود يشهدون زوراً، لكن ماذا يفعل وهم متفقون في أقوالهم جميعاً مهما حاورهم وقلّب لهم المواقف ليكشف زيفهم وباطلهم وجدهم على لسان واحد؟ ذلك لأن المحامي مثلاً حفّظهم الجواب، فماذا يفعل؟ غضب وانفعل للحق الذي يحكم به وقال كلمة هزَّتْ الشهود جميعاً، وجعلتهم ينطقون بالحق قال لهم: والله لو عميتم على قضاء الأرض فلن تُعمُّوا على قضاء السماء. كلمة أنطقه الله بها، فأعادتْ إليهم رشدهم وهزَّتهم من الأعماق، فرجعوا إلى الحق.
وقوله: { وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ } [غافر: 19] يعني: علم سبحانه مكنونات الصدور وخباياها، وهذه لا يعلمها إلا الله.
تفسير الشيخ الشعراوي
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
عباد اللهِ: رقابةُ البشرِ على البشرِ مهما كانت قاصرة، والإنسان دوماً يحملُ همَّ المحافظة على بيته وأولاده من مساوئ الأخلاق والأقوال خاصةً مع أجهزة أصبحت بمتناول اليد وتجلب كلَّ ما بالعالَم وصعبةَ الرقابة.. والحلُّ الأكمل للنجاة والحفظ هو بزرعِ شعورِ الرقابةِ الذاتية من لدن الإنسانِ نفسِه وخوفه من ربِّه.. بالتزامِه بخلقِه وقيمِه وتلك مرتبةٌ عظمى بالدِّين.. "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"..
البشرُ يغفل ورقابتهم ناقصة، ويبقى اليقينُ برقابةٍ لله كاملة تمنعُ الإنسان من الوقوع في الخطأ إن آمن بها والتزمها.. وهي إذا وُجدت أراحت من رقابة البشر وعقوبةِ النظام والمسؤول.. فمن يخلو ويسافر ويعملُ ويُتاجر فليستحضر رقابة الله.. وليعلم المتجاوزون أنهم غافلُون عن ربٍّ يعلم الظاهر والسرّ وما أخفى وأنه يعلم ويرى فتساهلوا بما يعملونه في الخفاء والله يعلم ذلك وما هو أعلى منه (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:59] (إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيء فِي ٱلأرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَاء) [آل عمران:5]..
يعلمُ ما تُسرُّه الآنَ سرائرُنا ومن بجوارنا لا يعلمُ ذلك.. يعلم ما ينطوي عليه قلبُك الآن وبعد أعوام وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) [النحل:19]، وهو (يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ) [غافر:19]
يعلمُ ويسمعُ ويرى دبيبَ النملةِ السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء لا إله إلا هو (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7].
فيا مُنتهكاً حرماتِ الله في الظلمات، والخلوات، بعيداً عن أعين المخلوقات: أين الله؟ هل سألتَ نفسكَ هذا السؤال. روى البخاري ومسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأعلمنَّ أقواماً من أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بيضاً، يجعلُها اللهُ هباءً منثوراً" قال ثوبان: صفهم لنا، جلّهم لنا أن لا نكون منهم يا رسول الله، قال: "أما إنهم إخوانُكم ومن جلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون أي يُقيمونَه، لكنهم إذا خلوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها".
وإذا خلوتَ بريبةٍ في ظُلمةٍ ***والنفسُ داعيةٌ إلى العصيان
فاستحِ من نظر الإله وقلْ لها *** إن الذي خَلَقَ الظلام يراني
عمرُ بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يعسُّ ليلاً في المدينة يتتبّعُ أحوالَ الأمة، فإذا بامرأةٍ تقولُ لابنتها: اخلطي اللبنَ بالماءِ ليكثرَ عند البيع. فقالت البنت: إن عمرَ أمرَ مناديَه أن ينادي أن لا يُخلطَ اللبنُ بالماء.. فقالتِ الأم: يا ابنتي قومي فإن عمر لا يرانا.. فقالت: أي أماه فأين الله؟ واللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملأ، وأعصيَه في الخلاء. فما راقبتُ إلا الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا..
فأنعم بها من مراقبة وأنعم بها من ابنةٍ تستشعر رقابة الله ونحتاجُ لزرعِ ذلك في أولادنا فإننا لو راقبنا الله حقَّ المراقبة لصلُح الحال، واستقامت أمورُ حياتِنا كلها فمبادئُ دينِنا وأخلاقِنا نُطبّقُها لنكونَ قدوات صالحة فيا أيّها المؤمن، إن عينَ اللهِ تلاحقُك أينما ما ذهبت، فهل علمتَ ذلك، واستشعرتَه فاتقيتَ اللهَ ظاهراً وباطناً، فكانَ باطنُك خيرُ من ظاهرِك؟!يقولُ أحمد بن حنبل رحمه الله: دخلتُ أحدَ مساجد بغداد فوجدتُ شيخاً كبيراً قد اتكأ على جدار فقلت لعله يروي لي حديثاً فلما سألته أنشدني..
إذا ما خلوْتَ، الدّهرَ، يوْماً، فلا *** تَقُلْ خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يَغفِلُ ساعةً *** وَلا أنَّ مَا يخفَى عَلَيْهِ يغيب
لَهَوْنَا، لَعَمرُ اللّهِ، حتى تَتابَعَتْ *** ذُنوبٌ على آثارهِنّ ذُنُوبُ
فَيا لَيتَ أنّ اللّهَ يَغفِرُ ما مضَى *** ويأْذَنُ فِي تَوْباتِنَا فنتُوبُ
إن اللهَ رقيب حسيب، لا ملجأ منه إلا إليه، هو الشهيدُ وكفى به شهيداً، جعلَ علينا شهوداً لإقامةِ الحجُةِ فرسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- شاهد (وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:143]..
الملائكةُ شهداء وكفى باللهِ شهيداً (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12]..
الكتابُ سيشهد عليك (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49]..
وأرضٌ ستشهدُ بما عملناه على ظهرها من خيرِ أو شر إِذَا زُلْزِلَتِ وَأخْرَجَت أَثْقَالَهَا (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [الزلزلة:4-5]..
وإذا ماتَ المؤمنُ بكاه موضعُ سجوده، وبكاه ممشاه إلى الصلاة، وبكاه مصعد عمله إلى السماء، وأما الذين أجرموا وكفروا ونافقوا (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ) [الدخان:29]..
الخلقُ أيضاً سيشهدون وكفى باللهِ شهيداً.. فلطالما تجرّأ البعضُ وجاهرَ بين الخلقِ ووقع في أعراضِ المسلمينَ وفضح ما سترَه اللهُ عليه من معاصي ويصوّرُ فعلَه وينشرُه وما علم أن كلَّ من رآه سيشهدون على ما فعل..
مرَّت جنازة على الصحابة فأثنوا عليها خيراً فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وجبت" وتمرُّ أخرى فيُثني عليها الناس سوءً فقال: "وجبت" فَلَمَّا سألوه؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أثنيتم على الأولى بخير فوجبت لها الجنة، وعلى الثانية بسوء فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه، أنتم شهداء الله في أرضه" (رواه مسلم)..
وسيشهدُ عليك -يا عبد الله- ما هو أقربُ من ذلك وهي جوارحُ جسدك! (ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوٰهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [يس: 65]، (وَيَومَ يُحشَرُ أَعداءُ اللَّهِ إِلَى النّارِ فَهُم يوزَعونَ * حَتّىٰ إِذا ما جاءوها شَهِدَ عَلَيهِم سَمعُهُم وَأَبصٰرُهُم وَجُلودُهُم بِما كانوا يَعمَلونَ * وَقالوا لِجُلودِهِم لِمَ شَهِدتُم عَلَينا ۖ قالوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذى أَنطَقَ كُلَّ شَيءٍ وَهُوَ خَلَقَكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيهِ تُرجَعونَ * وَما كُنتُم تَستَتِرونَ أَن يَشهَدَ عَلَيكُم سَمعُكُم وَلا أَبصٰرُكُم وَلا جُلودُكُم وَلٰكِن ظَنَنتُم أَنَّ اللَّهَ لا يَعلَمُ كَثيرًا مِمّا تَعمَلونَ * وَذٰلِكُم ظَنُّكُمُ الَّذى ظَنَنتُم بِرَبِّكُم أَردىٰكُم فَأَصبَحتُم مِنَ الخٰسِرينَ * فَإِن يَصبِروا فَالنّارُ مَثوًى لَهُم ۖ وَإِن يَستَعتِبوا فَما هُم مِنَ المُعتَبينَ) [فصلت:19-24].
أجهزةُ التواصل بين يدينا نطالع فيها المحرّم في غفلة عن رقابة الله نسألُ الله أن يعفو عنا.. وهذا خللٌ كبير أدَّى لتأخَّرِ المسلمين وتخلّفِهم عن الركب فترانا نتعلمُ من قرآننا وسنةِ رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وآثار علمائنا وتربية وآبائنا مبادئَ عظيمةٍ في الدين والأخلاق لكننا نُخالفُها بتصرفاتِنا وسلوكِنا في تناقضٍ بين ما نؤمن به وما نفعله..
لا يعني هذا أن البشر خلقوا كاملين من الخطأ فكلنا خطَّاءٌ وخيرُ الخطّائين التوابون لكنه تناقضٌ يثمرُ نفاقاً اجتماعياً عاماً يصبح طابعاً للمجتمعات ويورث ضرراً عظيماً على الأجيال وينشأون وهم يشاهدون تناقضاً بين القول والفعل ويفتقدون قدوة صالحةً من آبائهم ومن حولهم..
نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يرزقنا الإيمان به في الظاهر والخلوات والخوف منه في السر والعلن والتوبة من الخطأ في كل ما نأتيه ونذر وأن يختم لنا بخاتمة الإيمان ويجنبنا الكفر والفسوق والعصيان.
ملتقى الخطباء