تفسير الشعراوي
(وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ )٢٧-الشورى
هذه الآية تقرر طبيعة في النفس الإنسانية، كما قال سبحانه في موضع آخر: { { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7] لأن الرزق عندما يكون مبسوطاً ميسَّراً لا يشغل المرء به ولا بالحركة من أجله، فلا يكد ولا يتعب ويتفرغ لأمور أخرى تشغله ومنها البغي.
لذلك لما تحدَّث القرآن عن قارون، وهو أوضح مثال للغَنى الطاغي، قال سبحانه: { { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ .. } [القصص: 76] إذن: النعمة والثراء قد يدعوان الإنسان إلى الطغيان والبغي بغير الحق، وبسطة الرزق تعني سعته وتيسير سُبُله، وهي في هذه الحالة نوع من الابتلاء.
وقوله: { وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } [الشورى: 27] أي: يسوق الرزق بقدر معين وبحساب على مقتضى علمه سبحانه وحكمته في تدبير شئون خلقه، فيعطيهم بحساب بحيث لا يصل العبد إلى مرحلة الطغيان والبغي، وهو سبحانه أعلم بطباع عباده وأعلم بما يصلحهم، لذلك ورد في الحديث القدسي: "إن من عبادي مَنْ إذا أغنيته لفسد حاله، ومنهم إذا أفقرته لصلح حاله" .
وقد اهتم الإسلام بالجانب الاقتصادي في حركة الحياة وفرضَ الزكاة من أجل استطراق الخير في المجتمع، وعلَّمنا أن نُفرِّق بين الفقر عن عجز واحتياج، والفقر عن حرفة وخداع، فمَنْ يتخذ الفقر حرفة ليس له نصيب، ولا يصح أنْ تعينه على التكاسل والقعود عن العمل.
أما العاجز فمستحق، لأنه غير قادر على الكسب، لذلك جعل الله له جزءاً في مال القادر يصل إليه، وهو مُعزَّز لا يريق ماء وجهه للقمة العيش، بل يحفظ له الحقُّ سبحانه كرامته، ويجعلك أنت أيها الغني القادر تذهب إليه وتطرق عليه بابه وتعطيه ليعلم أن الله حين سلبه قدرته سَخَّر له قدرات الآخرين.
كذلك مثلاً في فريضة الحج ترى غير المستطيع حزيناً لأنه لم يحج، والواقع أنه أحظُّ عند الله من المستطيع الذي يحج؛ لأن المستطيع قد يؤدي ولا يقبل منه، أما غير المستطيع فقد سقط عنه الفرض أصلاً. ويقولون: إن نسبة تسعين بالمائة من الناس لم يروا البيت يعني لم يطوفوا به، فهل يعني هذا أن الله يحرمهم رؤيته؟ لا بل لهم منه نصيب كما قيل: "من الناس مَنْ يطوف بالبيت، ومن الناس مَنْ يطوف بهم البيت".
ثم إن حالة الفقر هذه أو العجز لا تدوم مداولة بين الناس، كما قال سبحانه: { { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ .. } [آل عمران: 140].
وسبق أنْ بيَّنا أن الفقر في المجتمع له حكمة، لأن حركة المجتمع ومصالح الناس لا يمكن أنْ تقوم على التفضُّل، إنما تقوم على الحاجة، فحين تُلجئك الحاجة تعمل ولا تستنكف من العمل الشاق أو الحقير، وإلا فمَنْ سيقوم بهذه الأعمال.
ورأينا العامل حين يرضى بقدر الله فيه ويخلص في عمله يقول الله له: رضيتَ بقدري فسأعطيك على قدري. فتراه بعد فترة أصبح صاحب عمل بعد أنْ كان أجيراً، لأنه أخلص لصاحب العمل ولم يحقد عليه، ولم يكره النعمة عنده.
إذن: الحق سبحانه لا يضيق الرزق ولا يعطي بقدر إلا في مظنة الضرر، فمَنْ علم الله منه أنَّ بسطة الرزق تفسده يُضيِّق عليه منافذ الرزق ليصلحه بالفقر. فالأصل أنه تعالى جواد كريم يبسط رزقه لعباده
:::::::::::::::::
د. محمود بن أحمد الدوسري
بعض الناس لو أعطاهم الله تعالى فوق حاجتهم من الرزق؛ لحملهم ذلك على البغي والطغيان؛ أشرًا وبطرًا، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، فهذا من لُطْفِ الله بعباده، أنه لا يُوَسِّع عليهم الدنيا سَعَةً، تَضُرُّ بهم، ﴿ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ﴾ بحسب ما اقتضاه لُطفه وحِكمته؛ لأنه ﴿ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾. وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21]. فجميع الأرزاق لا يملكها أحد إلاَّ الله، فخزائنها بيده، يُعطي مَنْ يشاء، ويمنع مَنْ يشاء، بحسب حكمته ورحمته الواسعة، ﴿ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ فلا يزيد على ما قدَّره الله، ولا ينقص منه.
التقوى والطاعة سببٌ عظيم لحصولِ الرزق، والبركةِ فيه، قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]. فالله تعالى يسوق الزرق للمُتَّقي، من جهةٍ لا تخطر بباله. وبِضِدِّ ذلك المعاصي؛ فإنها تُنْقِصُ الرِّزقَ والبركة؛ لأن ما عند الله تعالى لا يُنال إلاَّ بطاعته، قال الله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]. قيل: الفساد في البَّر: القحط، وقلة النبات، وذهاب البركة. والفساد في البحر: انقطاعُ صيدِه بذنوب بني آدم. وقيل: هو كساد الأسعار، وقلة المعاش. فتبيَّن أنَّ المعاصي تُفسد الأخلاقَ والأعمالَ والأرزاق، كما أنَّ الطاعات تَصْلُح بها الأخلاقُ، والأعمالُ، والأرزاقُ، وأحوالُ الدنيا والآخرة.
رِزْقُ اللهِ لعباده نوعان:
الأوَّل: رِزْقٌ عامٌّ؛ يشمل البرَّ والفاجر، والمؤمنَ والكافر، وهو رِزقُ الأبدان، وهذا من عظيم لطفه بعباده؛ كما قال سبحانه: ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ ﴾ [الشورى: 19]. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» رواه البخاري ومسلم. فالله تعالى واسِعُ الحِلم، حتى مع الكافر الذي ينسب له الولد، فهو يُعافيه ويرزقه.
والثاني: رِزْقٌ خاص؛ وهو رِزْقُ القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان، والرِّزق الحلال الذي يُعِينُ على صلاح الدِّين، وهذا خاصٌّ بالمؤمنين على مختلف مراتبهم، بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته، وأعظمُ رِزقٍ يَرزُق اللهُ به عِبادَه المؤمنين هو الجنة، التي خَلَقَ فيها ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر؛ بل كلُّ رِزقٍ يَعِدُ الله به عبادَه الصالحين فغالبًا ما يُراد به الجنة؛ كقولِه تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحج: 50]، وقولِه تعالى: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ﴾ [الطلاق: 11].