تناول الكاتب في هذا الجهد المتواضع الذي يرجو به عفو ربه، ما أفاض الله عز وجل به على قلبه وعقله ووجدانه من التأمل والتدبر من فهم أو تصوُّر فهم لسورة الرحمن (عروس القرآن) كما سمَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي السورة الوحيدة من سور القرآن الكريم التي تبدأ مباشرةً باسم من الأسماء الحسنى لمولانا وخالقنا العظيم الرحيم الكريم وهو اسم (الرحمن) الذي بدأت به السورة المباركة في أول كلماتها، متفردة بذلك عن أي سورة من سور القرآن، وإن كانت كلها لها الجلال والإجلال والتعظيم والإكبار؛ ولكن لا ريب أن لهذا التفرد الخاص بسورة الرحمن فيما يتعلق بتلك الخاصية الكريمة حكمة وعبرة في مكنون علم الله عز وجل.
أما تسميتها بعروس القرآن فقد ذكره السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن، في غضون ذكره لما رواه البيهقي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن".
وقد أدَّى ذلك إلى تكون مجموعة خواطر في وجدان الكاتب تخصُّ هذه السورة التي اشتملت على كل جمال وجلال تسمو به النفوس، وتنجلي به العقول، وتسعد به النفوس، وقد أتى ذلك من ثمرات التأمل والتدبر فيما يوفقنا الله لقراءته من آيات الذكر الحكيم، وهو أمر محمود؛ إذ يقول عز وجل: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
ويقول عز وجل أيضًا: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]، قال ابن كثير رحمه الله: أَيْ: سَهَّلْنَا لَفْظَهُ، وَيَسَّرْنَا مَعْنَاهُ لِمَنْ أَرَادَهُ، لِيَتَذَكَّرَ النَّاسُ، والمقصود أن المولى عز وجل هو من يَسَّر قراءة القرآن لقارئيه للاتِّعاظ والتدبر والذكر والتذكُّر كل على حسب قدرته الإيمانية والوجدانية، وكل ذلك يرتبط بلا شك بجلاء العقول ونُبْل الخاطر، والاجتهاد في ذلك هو بلا ريب باب من أبواب تزكية النفوس.
أما مقولة تفسير القرآن، فليس لأحد أن يفسر القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمَ؟ لأن القرآن الكريم مستودع أسرار الكون والخليقة، وليس لأحد أن يحيط بذلك من البشر إلا من اصطفاه الله عز وجل بفيض علم أو كرامة إلهام لما استقر في حكمته من أمور غيبية، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن القرآن الكريم في حديث طويل: "كِتَابُ الله، فِيهِ نَبَأُ مَا كان قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ".
فإذا أراد واحد من البشر تفسير القرآن فإنه من الجائز أن يدلو بدلوه في إطار فهمه أو حكمه أو رؤيته فيما يخص الماضي أو حتى الحاضر، ولكن كيف يتأتى له أن يفسر ما يخص المستقبل، ويقول عز وجل: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأنعام: 59]، والقرآن الكريم بلا شك ينطوي على علم الماضي والحاضر والمستقبل، وعند هذه النقطة يتوقف القائلون بتفسير القرآن فلا يتحركون قيد أنملة؛ لأن المستقبل بيد الله عز وجل وحده.
وبناءً على ذلك جنح الكثير من العلماء والمفكرين إلى استخدام مصطلح الخواطر عند التعرض لفهم أو إفهام القرآن الكريم؛ كخواطر الشيخ الشعراوي رحمه الله عز وجل الذي أصَرَّ على استخدام لفظة الخواطر وليس التفسير، وكان محقًّا في ذلك وموفقًا، ومن الكتاب كذلك من استخدم مصطلح التأملات القرآنية عند التعرض لذات الموضوع؛ لانها الأقرب لمحاكاة الحقيقة من وجهة نظره.
إن الكاتب في هذا التوجه وفي إطار محاولة الفهم الصحيح لنصوص القرآن ومحاولة صياغة فهمه المستقر في وجدانه ونقله للآخرين يستطرد في نواحٍ متعددة قريبة وبعيدة لمحاولة استلهام ما ينبغي أن يكتب أو يقال بخصوص النص القرآني الكريم الذي يتعرض له الكاتب، فالأمر يستدعي الكثير من إعمال الخاطر بالإضافة إلى الكثير والكثير من التأمل والتدبر، فالخواطر تتأتَّى من التأمل، وكذا فإن التأمل يرتبط بجمال الخاطر.
وسورة الرحمن عروس القرآن سورة مكية، والسور المكية تهتم بنواحي العقيدة وتثبيت الإيمان في الصدور، وكذا توطين الغيبيات على النحو الإيماني الصحيح، وما إلى ذلك من سمات تختلف إلى حد ما عنها في السور المدنية التي اهتمت أكثر بفقه المعاملات والحدود وأمور القتال، وهي أمور ترتبط بوضعية الإسلام والمسلمين حين تأسيسهم لدولة الإيمان بالمدينة المنورة.
وتعقب سورة الرحمن في ترتيب السور بالمصحف الشريف سورة الواقعة، ويلاحظ أن المولى عز وجل في سورة الرحمن قسم أصناف البشر يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف وهم: الخائفون من مقام ربهم ولهم من ربهم جنتان، ويليهم في الدرجة المؤمنون العاملون بأوامر الله المجتنبين لنواهيه ولهم من ربهم جنتان كذلك من دون الجنتين الأوليين، والصنف الثالث المجرمون أصحاب النار أعاذنا الله منهم ومن مصيرهم.
وقسم عز وجل نفس الأصناف الثلاثة أيضًا في سورة الواقعة التي تلي سورة الرحمن في ترتيب سور المصحف الشريف ولكن بأسماء جديدة وهم: السابقون الأولون ثم أصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة أعاذنا الله منهم ومن مصيرهم.
ربما أنه منهج رباني لتعليم القرآن للمؤمنين وتيسيره للذكر للمدكرين وتفهيمه لمن أراد الفهم أو أراد الله له أن يكتب بأنه للقرآن الكريم من المتدبرين، والمقصود بذلك تصنيف أحوال الناس من جوانب مختلفة وفي سور مختلفة أيضًا.
ويلاحظ في سورة الرحمن المباركة تكرار الآية الكريمة ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ عقب العديد من الآيات التي تناولت ذكره عز وجل لنعم وآلاء ربانية عظيمة أوجدها الله عز وجل وأتاحها لخلقه من الثقلين الإنس والجن، ولا شك أن ورود هذه الآية الكريمة بهذا التكرار وفي هذه الأماكن من سورة الرحمن له حكم ربانية عُلْيا يعلمها الله عز وجل ومن شاء من خلقه، بل ولها ضرورة كضرورة الماء والهواء والشمس للحياة.
يقول عز وجل في مستهلِّ سورة الرحمن بعد أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن: 1، 2].
الآية الأولى ﴿ الرَّحْمَنُ ﴾ حيث جعل الله عز وجل واحدًا من أسمائه الحسنى هو الآية والكلمة الأولى في السورة الكريمة، والقارئ المتدبر للقرآن هنا يدرك ببساطة أنه هنا في استقبال الرحمة من واهبها عز وجل في أجمل صورها، وعليه أن يستعد تمامًا لاستقبال تلك الرحمة التي وفَّقه الله عز وجل لكي يصطف مع المصطفين لاستقبالها، حيث يقول عز وجل في الآية 82 من سورة الإسراء ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82] صدق الله العظيم.
في إشارة منه سبحانه وتعالى إلى أن هذا القرآن منزل من عنده، وبه الشفاء والرحمة للمؤمنين، فتعرض المسلم لآيات الشفاء تكون سببًا في شفائه بإذن الله، وكذا تعرُّضه لآيات الرحمة تكون سببًا في تنزُّل الرحمات عليه من عند ربه وخالقه، وليس الأمر مطلقًا، بمعنى أن تعرض المؤمن لآيات العذاب هل يكون سببًا في عذابه؟ لا، فإيمانه وتدبُّره للقرآن يعصمه من ذلك، وإنما يعذب بها الكافر حين يستمع إلى القرآن ولا يتدبَّر ولا يتَّعِظ والله أعلم.
فالسورة الكريمة هنا تبدأ بأمر عظيم تغمر به القارئ والمستمع؛ ألا وهو الرحمة من الرحمن عز وجل، ولكن لماذا اختار المولى عز وجل اسمه الرحمن لتتصدر وتتزيَّن به السورة الكريمة التي تدلف بنا مباشرة إلى العلم والتعلم في الآية الثانية من السورة المباركة، فهل من رابط بين رحمة الرحمن والعلم، وبصفة خاصة علم القرآن؟
يبدو ذلك بجلاء في الآية الثانية ﴿ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾، أليس هناك مغزى وعبرة من أن تسبق آية ﴿ الرَّحْمَنُ ﴾ هذه الآية ﴿ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾؟ كلَّا وألف كلا؛ بل هناك العديد من العبر، فهذا القرآن يتصف بأنه قد أحكمت آياته كما بين عز وجل في قوله: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾ [هود: 1].
لماذا الرحمن دون غيره من أسماء الله الحسنى يقترن بتعليم القرآن؟ وهل المقصود بذلك هو القرآن الكريم كتاب الله المقدَّس والمنزَّل على قلب رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم والمشتمل على رسالة التوحيد، أم المقصود علم القراءة والبيان؛ حيث يقول عز وجل في الآيتين التاليتين مباشرة ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 3، 4].
فهل المقصود من آية ﴿ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ هو علم البيان - أي بيان معاني الكلمات المقروءة - أو فهم مدلولات وأسماء الأشياء التي علمها الله عز وجل لآدم عليه السلام بعد خلقه؟ وكما ورد في الآية 31 من سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31] أم أن المقصود من الآية الكريمة من سورة البقرة هو تعليم المولى عز وجل القرآن عامة لرسوله وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي، ومما آتاه الله إياه أو قذفه في قلبه الشريف في غضون رحلة الإسراء والمعراج المباركة؟
أيًّا كان الحال فقد قرن الله عز وجل التعليم بالرحمة من جانب المعلم، وهو جل في علاه هنا في حالتنا هذه هو المعلم، وغيره هو المتعلِّم، واللفظ القرآني بليغ؛ بل إنه معجز بطبيعة الحال، فإنه لم يقل: (الرحيم عَلَّم القرآن) لماذا؟ لأن الرحيم هو مستخدم الرحمة في موقف محدد يبدأ وينتهي؛ ولذا يقال عن بعض البشر بأنه رحيم، ولكن لا يقال عنه أبدًا بأنه رحمن؛ لأن اسم الرحمن لا ينسب إلا لله عز وجل؛ لأن اللفظ الكريم يطلق على واهب الرحمة ومعطيها باستمرار وبلا حدود وليس مستخدمها في موقف محدد بزمان ومكان وظروف.
الرحمة المرتبطة باسمه الكريم الرحمن متعدية للموقف والزمان والمكان والقدرة البشرية كذلك، ولقد قدم الله عز وجل اسم الرحمن على الرحيم في البسملة التي ذهب أكثر الفقهاء إلى مشروعيتها واستحبابها عند الأمور المهمة؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ كَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ - أَوْ قَالَ: أَقْطَعُ))، وتقديم اسم الرحمن على الرحيم هنا يدلل على عظم الرحمة في الاسم الأول عن الثاني، وكلاهما من أسمائه الحسنى عز وجل.
وكما تمت الإشارة فيما سبق إلى أن الرحمانية ربانية فقط، أما الرحيمية فقد تكون ربانية أو بشرية، وتكون بحساب غير متعدية للموقف المرتبطة به، وهذا يناسب الحياة البشرية التي نعيش فيها، فلا يمكن أن تكون الرحمة فيها مطلقة غير مقيدة؛ لأن ذلك يفسد الحياة؛ لأنه يوجد من المواقف ما يستلزم فيه الشدة؛ لارتباط ذلك بالمصلحة الجماعية للأمة أو المجتمع، مما يشكل دافعًا للتخلي عن مبدأ الرحمة، وإن كان هذا التخلي ظاهريًّا فقط وليس جوهريًّا؛ كقتل القاتل، ورجم الزاني، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر، فكلها أمور ظاهرها العذاب وباطنها الرحمة، والله أعلم.
ويتضح ذلك جليًّا في قوله عز وجل: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179]، والحياة؛ أي: المصلحة الحياتية الدنيوية للمجتمع الإسلامي، فلو طبَّقنا هنا مبدأ الرحمة المطلقة المتعدية المشتقة من اسم الرحمن؛ لفسد المجتمع، وفسدت الحياة بسبب عدم الأخذ على أيدي المجرمين ومرتكبي الكبائر.
فرحمته عز وجل في الآخرة غير رحمته في الدنيا؛ لأنه أنزل في الدنيا من الرحمة ما ينصلح به أمر الدنيا فقط؛ كالملح الذي ينصلح به الطعام، فلو زاد الملح لأفسد الطعام، ويقول صلى الله عليه وسلم في ذلك: ((جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحَم الخلائق)).
أما في الآخرة فإن الخالق عز وجل يعامل الخلق برحمانيته وليس برحيميته؛ أي: بالرحمة الكاملة مئة جزء وليس جزءًا واحدًا، فيخرج من النار كل من قال: "لا إله إلا الله"، ومن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ويقول صلى الله عليه وسلم عن حال يوم القيامة: ((يقولُ اللَّهُ: أخرجوا منَ النَّارِ من قال: "لا إلهَ إلَّا اللَّهُ"، وَكانَ في قلبِه منَ الخيرِ ما يزنُ شعيرةً، أخرجوا منَ النَّارِ من قال: "لا إلهَ إلَّا اللَّهُ" وفي قلبِه منَ الخيرِ ما يزنُ برَّةً، أخرجوا منَ النَّارِ من قال: "لا إلهَ إلَّا اللَّهُ" وفي قلبِه منَ الخيرِ ما يزنُ دودةً، أخرجوا منَ النَّارِ من قال: "لا إلهَ إلَّا اللَّهُ" وفي قلبِه منَ الخيرِ ما يزنُ ذرَّةً)).
ويقول عز من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ﴾ [النساء: 116]، فهو عز وجل يرحم خلقه من العقاب والعذاب الأليم ما داموا لم يشركوا به شيئًا، وهذا المنطق ذاته غير مطبق في حياتنا الدنيوية، فالزاني مثلًا أو شارب الخمر في الآخرة تشمله الرحمة الربانية ما دام لم يشرك بالله شيئًا، فيخرج من النار إلى الجنة بإيمانه الذي في صدره، أما في دنيانا فلا بد من تطبيق الحدود؛ لما في ذلك من مصالح اجتماعية حياتية.
نخلص من ذلك إلى أن الله عز وجل يدعو لاستخدام الرحمانية وليس الرحيمية في سياق عملية التعليم، مئة جزء من الرحمة شفقة ورفقًا وحلمًا على المتعلم، ولكنه المتعلم المتأهب للتعلم، المقدر للمعلم، المستعد لمكابدة الصبر وتحَمُّل المشاقِّ في سبيل تحصيل العلم، وهنا يستحق المتعلم هذا الإشفاق على جهله، والترفق عليه في مصيبته، والاجتهاد في تعليمه ما يجهل، وهناك فرق جلي فيما يخص الموقف التعليمي الرباني والبشري، فالمولى عز وجل حين يعلم فهو يضع المتعلم في مستهل الرحمة الكاملة المتعدية، أما البشر فليس لديهم إلا جزء واحد من الرحمة سرعان ما ينفذ؛ ومن ثم ينحى المعلم لمعالجة الحالة التعليمية البشرية وفقًا لقدرته على الصبر وتحَمُّل الأذى والتعامل مع أصناف من السوقة والجهلة من البشر، هداهم الله للوفاء بحق العلم وأهله أو صرفهم الله عن ذلك السبيل ليتركوه لمن يقدره.
ويلجأ صنف متميز من البشر وهم المعلمون في الموقف التعليمي - المأمورون فيه باستخدام الرحمة مع المتعلم تأسيًا بالرحمن عز وجل حين علم القرآن ولله المثل الأعلى- إلى استخدام الوسائل العقابية لعقاب المتعلم في غضون تلقيه للعلم، إذا هو قصر أو أهمل أو تكاسل أو تجاوز دوره كطالب للعلم مستحق للشفقة والرحمة كونه جاهلًا بما لدى المعلم من فضل رباني متمثل في العلم؛ وذلك لأن الرحمة المطلوبة من المعلم تجاه المتعلم لا يجب أن تكون ممتدة بلا نهاية، كما لا يجب استخدامها في كل المواقف والمراحل التعليمية بنفس المستوى.
ونربأ بالأذهان المتفتحة أن تتجه مباشرة إلى أن المقصود بذلك هو العقاب البدني، بل إن هناك العديد من وسائل العقاب غير البدنية أكثر إنجازًا من العقاب البدني، منها حرمان المتعلم من المثول أمام المعلم حتى يلتزم بآداب طلب العلم، وهذه الوسيلة من أنجع الوسائل وهي الحق الأصيل للمعلم فليس من المنطقي أن يفرض على صاحب العلم من يعلمه، بل إنه لن يكون قادرًا على العطاء إلا لمن يحنو عليه، ويرفق به ولا يتحقق ذلك إلا مع من يعرف آداب طلب العلم ممن يطلبون العلم.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن أنواع العقاب التي يمكن أن يستخدمها المعلم، ولكنه مجرد لفت للأنظار إلى التناول القرآني الراقي لهذا السياق في إطار قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن: 1، 2].
ولكن لمن عَلَّم القرآن عز وجل؟ من المعَلَّم؟ ظاهر النص القرآني الكريم أنه عَلَّم القرآن لخلقه بصفة عامة، والقرآن ضروري لقيام الحياة كلها كضرورة الماء والهواء بالنسبة للخليقة، فآيتا ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ تفيدان أنه علم القرآن عز وجل بدون تحديد، فقد يكون المتعلِّم ملكًا أو بشرًا أو جنًّا أو من غيرهم من خلق الله عز وجل الذين نعلم بهم أو لا نعلم.
وإذا كانت الآيتان الأولى والثانية من سورة الرحمن المباركة لم تحددا من هو المتعلِّم في ذلك الموقف الرباني، فالآيتان التاليتان تتعلقان بالإنسان تحديدًا في قوله عز وجل: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 3، 4].
وتفيد الآيتان الكريمتان أنه عز وجل بعد خلقه للإنسان- والمقصود به هنا آدم عليه السلام- عَلَّمه البيان، وقد يكون تعَلُّم البيان ومستوى هذا التعلم ومقداره وتوقيته مرتبط بكل إنسان على حدة؛ أي: إن كل إنسان خلقه أو سيخلقه الله عز وجل حتى قيام الساعة تتاح له الفرصة التي حدد الله مقدارها وقدرها وتوقيتها ليعلمه الله عز وجل البيان، مع اختلاف هذا التعليم والتعلم حسب كل إنسان وقدراته وملكاته ومواهبه التي يمنحه الله إياها، وعلى حسب دوره المحدد والمقدر له في الحياة، وقد يكون المقصود بالإنسان هو آدم عليه السلام فقط، وهو بدوره من ينقل هذا العلم لذريته ولسائر الذريات الآدمية جيلًا من بعد جيل، والله عز وجل أعلى وأعلم.