صبر مفتاح الفرج"
ساد الصمت الغرفة ، بعد أن نجحت أمي في تهدئة أخي الرضيع .. فصفا لي الجو للنوم .. ولكني حينها لم يهدأ لي بال ولم يغمض لي جفن .. فها هو الليل يلم أطرافه للرحيل ووالدي لم يعد بعد … لعن الله الفقر .. ، لو لم نكن فقراء معدمين لما كنا على هذا الحال .. ، لا لا لا إنه امتحان من رب العالمين..
لكن الأفكار تحيط بي .. لما نحن بالذات مِن بين مَن في العالم أجمع نبتلي بهذا الامتحان .. لماذا؟ .. ويعلو نداء النفس الداخلي .. استغفرالله .. إنه الشيطان يحاصرني ولا يدع لي شاردة ولا واردة إلا وأودع فيها وساوسه … ، ورغم صفاء نفسي حينها إلا أني ظللت ساهماً شارداً حتى عاد أبي .. ، ولم يكن بعودته مبعداً لقلقي .. لأني قرأت من وجهه حزنا … كات تعباً جداً .. رجلاه بالكاد تتحملان ثقل جسمه وصوته خرج ضعيفاً واهناً وهو يردد .. القارب .. القارب ..
حينما وصل لمسمعي ما ردد اسودت الدنيا بوجهي ..، فوالدي صياد ، والقارب هو مصدر رزقنا الوحيد .. . قمت من فوري استفسره عن ما حل به .. وبصعوبة استطاع أن يلم شتات فكره ليقول بحزن خانق .. القارب تحطم .. ، تنهد ثم استطرد .. خرجت للصيد كعادتي ، ولما اقتربت من البحر لم أجد القارب .. فبحثت عنه هنا وهناك .. ولكني وجدته حطاما .. ، لم أصدق عيني واستنكرت كونه قاربي ، ولكني عرفت أن بعض الصيادين الذين يحملون الحقد علينا مع سوء حالنا يريدون احتكار بيع السمك والتحكم بأسعاره فكان هذا السبيل لتحقيق أطماعهم وما باليد حيلة سوى قولي حسبي الله ونعم الوكيل .
لم يخفى عن بالي حينها ما فعله والدي مع هؤلاء الصيادين والمساعدات التي قدمها لهم والقروض التي أعطاهم ولم يردوها له يوم كانوا فقراء كحالنا .. ثم الجزاء الذي لقاه منهم بعد ذاك .. ، أحسست بألم يعصرني ولكن مشاعر التأثر بدت أكبر عندي حينها ..، فوالدي المسكين رغم شدة الألم والحزن الذي يعانيه من فعلتهم .. توجه للمسجد راجياً وداعياً المولى عزوجل أن يغفر لهم عملهم فلقد عظمت ذنوبهم فكيف سيلاقون الله وهم يحملون هذه الأثقال .
لم يكن حالنا يسمح بشراء قارب جديد .. ولكن أبي كان يوفر بعض النقود .. حتى استطاع أن يشتري بهم قارباً صغيراً وقدريم .. ودعا الله التوفيق.
خرج أبي للصيد يومها كعادته كل صباح ولكنه رجع مرهقاً ولم يكن يحمل سوى بضع سمكات صغار بالكاد ترى .. لم تكن أمي تعلم ما حصل لذا أثار ذلك استغرابها فلقد بدا جلياً هيئة والدي المرهق جداً ، ومع ذلك لم يكن يحمل شيئاً يذكر ، ولكن أبي علل ذلك بقوله .. قَدَرُ الله شاء أن لا أصطاد اليوم شيئاً .. وبات الليل يدعو الله الفرج.
سائت أحوالنا كثيراً فكل يوم يمضي أسوأ من سابقه ، وأبي صار كالطائر بلا أجنحة ..، لم يكن يستطيع أن يعمل شيئاً بدون قاربه المعهود ، وكلما عظم عليه الأمر توجه لله فهو خير معين.
رجع أبي يوماً وطلب مني التهيأ لعيادة أحد المرضى ..، وعرفت منه أنه أحد الذين تسببوا لنا بالأذى ..، ونظرت لأبي باستنكار شديد ..، فقرأ أبي ما يدور ببالي وقال .. توكل على الله وانس ما مضى .
عندما اجتمعنا بدا عليه العجب والاستغراب .. كان متردداً وكأنه يريد أن يقول شيئاً ولكنه أظهر لنا عدم المبالاة . لم نطل الجلوس عنده .. إذ ودعه أبي راجياً له الصحة والعافية .
لم أستطع النوم يومها من كثرة ما يدور ببالي ، فحالنا مثير للشفقة .. وأبي المسكين يحمل كل هذا العبء على كاهله ..، والقدر مُصِرٌّ على ما رسمه لنا من شقاء .. أحسست أن قواي قد خارت .. فلم أكن لأتحمل كل هذا لولا تذكري قول والدي في مِحَنِهِ .. ( اصبر وتوكل على الله ، فإن الصبر من سيماء المؤمنين ، والصبر مفتاح الفرج ) ، فَهَدَأتُ وَقَرَأتُ المعوذتين ونمت.
تسللت أشعة الشمس لي صباحاً فَفِقْتُ من نومي وأخذت أنظر للسماء الممتدة التي ترسم بامتدادها المستقبل المجهول ..، قطع تأملي بضع خطوات التفَتُّ لمصدرها فإذا به والدي يبدو ساهماً شارداً .. ركَّزَ نظره بنظري وقال .. نويت اقتراض المال من أحد الأصحاب .
صُعِقْتُ عندما سمعت ما قال ..، فأنا أعرف والدي .. أقوى من أن يستسلم للظروف .. كان مؤمناً بأن لكل محنة نهاية وأن الله لا ينسى عبده المؤمن ..، والتفسير الوحيد لهذا أن أحوالنا ساءت وتَرَدَّتْ كثيراً بحيث أننا لا نستطيع تَدَبُّرَ أمورنا ..
كان أبي كبيراً بحيث أني لم أستطع أن أَرُدَّ على والدي واكتفيت النظر إليه بانكسار شديد .. ولكني أذعنت لرغبته ..، وقصدت ووالدي منزل صاحبه الطوَّاش .
عانق أبي صاحبه وأخذ يساله عن أخباره وأحواله .. ثم عرض أبي على صاحبه رغبته في اقتراض المال نظراً لسوء ما آل إليه حالنا .. لكنه تنهّد وقال بحزن جليّ .. سامحني .. كنت أتمنى مساعدتك .. لكن في الوقت الراهن لا أستطيع تلبية طلبك .. فأنا مُقبل على سفر وأموالي كلها في هذه الرحلة ولكن انشاء الله بعد عودتي أستطيع مساعدتك .. شكره أبي داعياً له التوفيق وخرجنا من عنده .
هنا شعرت بانكسار بِعَيْنَي والدي فلقد تحطم آخر أمل له .. فأحسست بأن الأبواب قد اصطكت في وجهي .. وبطول الطريق كان أبي رافعاً رأسه لسماء مكرراً رجائه ودعائه بالفرج.
لم يخْفَ عليّ أن والدي لم يستطع النوم ليلها من شدة الأعباء التي يحملها وظلَّ ساهراً يحاول إيجاد مخرج لنا .
ولما انبلج الليل ، وهلَّ الصباح ، كان أبي قد اتخذ قراراً بالرحيل عن قريتنا لقرية مجاورة ، لعل وعسى أن تتبدل حالنا من الأسوأ للأفضل بتوفيق من الله .. لم أصدق قرار رحيلنا رغم أن والدي قد همَّ بتجهيز حاجياته.أحسست بألم كبير ينهشني فأخذ والدي يهدّئني قائلاً .. إن رزقنا في هذه القرية منقطع وسنرحل لقرية أخرى عسى الله أن يكتب لنا رزقاً فالله لا ينسى عبده المؤمن.
بعد أن انتهيت من حزم أمتعتي كانت السماء قد لبِسَت السَّواد .. حاولت النوم ولكني لم استطع .. فهذه هي قريتي التي حضنتني منذ نعومة أظفاري وتآلفت مع أهلها وصادقت أكثر شبَّانها والآن أنا مفارقهم إلى قدر مجهول ..
لا أدري كم مضى من الوقت وأنا على ذلك الحال ..، فلم اعِ إلا وقد أغلق الليل فمه .. وانفتح فم الصباح ..، حينها كان أبي قد نقل أمتعتنا للعربة واستعدَّينا للرحيل ..، منظر أهل القرية الأَخْيَار وهو يُوَدِّعُونَ والدي كان مؤثراً جداً ولكنهم لا يملكون خياراً آخر ..، فهم يعيشون حياة الفقر مثلنا وما بيدهم حيلة.
لم يمض وقت طويل حتى استقَلَّينا العربة ..، لم أتمالك نفسي وأنا أودِّع بنظري أهل القرية .. منازلها .. بَحْرَها بشواطئه .. فخَرَجَتِ الدُّموعُ مِن مُقلَتَيْهَا مُعَبِّرَةً بِصَمْتٍ عن شدَّة تأثُّري ومَدَى تَأَلُّمي..
قطع صمتَنا صدى صوت ينادينا .. توقفنا فإذا بشبح رجل جاء يركض مسرعاً نحونا .. ولما اقترب أثار عَجَبَنَا أن كان ذلك الرجل هو نفس الرجل المريض .. جاء يلهث وشحوب المرض بادياً على أمارات وجهه .. أخذ يسترجع أنفاسه ثم قال .. اعذرني .. لم استطع الهروب من عذاب الضمير .. ولم استطع النوم البارحة .. أحسست أن الله بعثك منقذاً لي من الظلام .. فسهرت الليل داعياً الله الغفران ..
عانق أبي عناقاً حاراً وأخذ يجهش بالبكاء .. ثم أعطى أبي صُرَّة نقود قائلاً .. واشترِ به معداتِ صيدٍ جديدة ..، وأَعِدُكَ مع باقي أصحابي أن نكون جنبك ونشكرك على طيبتك ..، فلقد نزعت من داخلنا السوء بإيمانك وصبرك وحكمتك .. ورجائي أن تقبلني أخاً لك ..
صافَحَهُ أبي بشدة ..، فقرأت من عينيه معانٍ كبيرة ..
التفتَ ناحيتي وقال .. إِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ..
النهاية.صلوا على الحبيب المصطفى