نافذة .. باب .. سرير .. طاولة صغيرة .. كرسي .. دولاب صغير .. اناء يحتوي على قطرات ماء ..
هذه مكونات تلك الغرفة التي تقع ضمن منزل تتالت عليه السنون ورسم الزمان عليه طابع الفقر والحاجة,يسكن في تلك الغرفة فتىً وسيم شعره أسود وطويل,, جسمه نحيف جداً,اسمه أحمد تنم هيئته على شدة فقره يسكن هذا الفتى مع عجوز كبير في السن تصله بالفتى قرابة بعيدة,فهو خال ام الفتى ربما ذلك العجوز هو من اهتم في تربية احمد بعد وفاة أهله,عمره يتراوح ما بين العشر سنوات والإحدى عشرة سنة ..
تميز هذا الصبي بالهدوء والغموض بعض الشيء وكان يقضي معظم وقته في حجرته بمفردة..كان احمد يضع اناء على طاولة صغيرة تقع بجانب النافذة وكان شديد الحرص على الحفاظ عليه ربما ما يحويه هذا الاناء هو السبب الرئيسي لاهتمام احمد به..فمن شدة خوفه وحرصه عليه كان يضع فوقه قطعة قماش ويلفها عليه جيدا حتى لا يشوب ما بداخله من اثر حبات الرمل التي قد تدخل مع النافذة..كان العجوز دائما يسال احمد عن سر خوفه على الاناء وكان جواب احمد :سر اهتمامي بالاناء هو ان هذا الاناء يحتوي على قطرات ماء..جوابه لم يكن منطقياً او حتى معقول في نظر العجوز فقد كان دائما يضحك على احمد ويدعي انه طفل لا يفهم شيئا لكن احمد كان متمسك بجوابه ومتمسك بالاناء وما يحويه من قطرات ماااء..
مرت السنون وكبر احمد وكبر في قلبه مقدار حبه وحرصة على الاناء..لدرجة انه يقفل الباب والنافذة جيدا عندما يود الخروج من الغرفة..ولكنه في الغالب كان لا يخرج من غرفته الا للضرورة..وفي ليلة من ليالي الشتاء والبرد القارس..مرض العجوز مرضا شديدا وكان يحتاج الى طبيب فذهب احمد لإحضار الطبيب وبعد ان انتهى الطبيب من الكشف على العجوز اعطى احمد الدواء الذي يحتاجه العجوز ثم انصرف الطبيب وقام احمد بإعطاء الدواء للعجوز ثم اتجه الى غرفته وقلبه ملهوف على الإناء..وعندما فتح الباب راى ما لم يكن بالحسبان فقد نسي النافذة مفتوحة ودخلت قطة صغيرة واسقطت الإناء على الأرض وانسكبت قطرات الماء التي لطالما حرص احمد على بقائها في الإناء..انهار احمد من هول المنظر وفي لحظة خسر أغلى ما يمكن فما كان منه الا أن جلس يمسح القطرات من الأرض بيديه ويبكي وبعد ساعات من الصدمة التي واجهها..شعر انه محتاج إلى الجلوس مع شخص يفهمه ويواسيه فخطر في ذهنه أن يذهب الى الرجل العجوز فاتجه الى غرفته فوجده في حالٍ أفضل مما كان عليه..
جلس احمد بجواره وأخذ شيئا فشيئا يخبره بسر الإناء والقطرات..
قال احمد: قررت اليوم ان أُخبرك سر الإناء الذي كان يدهشك اهتمامي به لسنين طويلة.
الرجل العجوز(يضحك): هل ما زلت تفكر بسطحية الأطفال يا فتى.
احمد: انتظر يا جدي اسمعني اولا ثم احكم على مدى تفكيري.
الرجل العجوز: هيا تحدث اسمعك.
احمد: عشت طفولتي مختلفاً عن باقي الأطفال..كان الأطفال في الحارة يتحدثون عن الأم والأب والأجواء العائلية وأنا كنت انظر اليهم نظرة الاندهاش والاستغراب لان المصطلحات التي كانوا يلفظونها لم الفظها البته..وعندما أصبحت واعياً لوضعي فالحياة وأدركت أنّي سأعيش يتيماً ومحروما من حنان وعطف الوالدين..قررت أن أضع لنفسي هدفا يدفعني لمواصلة الحياة فكلما أتى الشتاء القارس يصاحبه أمطار غزيرة كنت افتح نافذة غرفتي وأمد بالإناء الى الخارج فإذا دخلت قطرة واحدة ارجعت الإناء الى مكانه وانتظرت حتى يعود شتاء السنة المقبلة وأُعيد الكرة .
ففي كل سنه أُضيف قطرة الى هذا الإناء فعدد القطرات يدل على عدد سنين حياتي التي أعيشها بمفردي .. ربما تستغرب لماذا افعل ذلك أو ما الحكمة مما فعلته لكن ما افعله كان يزرع في قلبي الامل والتطلع لقدوم سنه جديدة فكنت انتظر السنة المقبلة بفارغ الصبر حتى تضاف قطرة الى باقي القطرات وكان هدفي أن كل قطرة تصاحب القطرة التي وضعت قبلها ولا تبقى القطرة الأولى يتيمة فالإناء ففي كل سنة تضاف لها قطرة جديدة تؤنس وحدتها وكان هدفي من تغطيتها بقماش هو منع وصول شوائب الهواء الذي يدخل مع النافذة الى قطرات الماء في الإناء حتى لا تعكر صفو الإخاء بين القطرات..كنت اشعر بالسعادة ربما لأنني كنت انسج واصنع الحياة التي لطالما تمنيت ان أعيشها في هذه القطرات..فكنت كلما شعرت بالوحدة جلست مع الإناء وتذكرت أول قطرة وضعتها فيه كيف كانت يتيمة سنة كاملة ثم أتت قطرة تؤنس وحدتها وتلتها قطرات ..فكان يحيا بداخلي أمل أن يأتي من يؤنس وحدتي في العام المقبل..
الآن بعد أن فقدت الإناء اشعر أنني فقدت سنين عمري التي مضت واشعر أنني قتلت القطرات وجعلت كل قطرة تعيش معاناتي بمفردها بعد أن خرجت من الإناء وفارقت باقي القطرات..
بقلم:فهد بن صالح الحارثي