الْخَمْرُ : اسم لكل ما خامر العقل وخالطه فغيره فمنعه من التفكير السليم.
الْمَيْسِرُ : يَسَرَ يَيْسَرُ يَسْراً، القمار - بكسر القاف - وهو فى الأصل مصدر ميمى من يَسَر كالموعد من وعد. وهو مشتق من اليُسر بمعنى السهولة، لأن المال يجىء للكاسب من غير جهد، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزأ، ثم أصبح علماً على كل ما يتقامر عليه. وهو اللَّعِبُ بالقِداح،.
الأَنصَابُ : النَّصْبُ والنُّصُبُ: كلُّ ما عُبِدَ من دون اللّه تعالى، والجمع أَنْصابٌ. الأَوثان. أصنام كانوا في الجاهلية يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها، كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها!.
الأَزْلاَمُ : قداح كانوا يستقسمون بها افعل أو لا تفعل. السهام التي كان أَهل الجاهلية يستقسمون بها. القِداح التي كانت في الجاهلية، كان الرجل منهم يضعها في وعاء له، فإذا أَراد سفراً أَو رَواحاً أَو أَمراً مُهِمّاً أَدخل يده فأَخرج منها زُلَماً، فإن خرج الأَمرُ مضى لشأْنه، وإن خرج النهي كَفَّ عنه ولم يفعله. وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة، فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه. فالذي قدحه ( المعلى ) يأخذ النصيب الأوفر، وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه. وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها!
رِجْسٌ : خبيث. قال الزجاج: اسم لكل ما استقذر من عمل. سخط , و شرٌ , و إثم، وقذر.
مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ : من تزيين الشيطان.
فَاجْتَنِبوهُ : لا تقربوه.
تُفْلِحونَ : تسعدون في الدنيا و الآخرة.
في ظلال النداء[2]
وفي سياق قضية التشريع بالتحريم والتحليل، وفي خط التربية للأمة المسلمة في المدينة، وتخليصها من جو الجاهلية ورواسبها وتقاليدها الشخصية والاجتماعية، يجيء النص القاطع الأخير في تحريم الخمر والميسر مقرونين إلى تحريم الأنصاب والأزلام. أي إلى الشرك بالله . .
لقد كانت الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من معالم الحياة الجاهلية، ومن التقاليد المتغلغلة في
المجتمع الجاهلي . وكانت كلها حزمة واحدة ذات ارتباط عميق في مزاولتها، وفي كونها من سمات ذلك المجتمع وتقاليده . . فلقد كانوا يشربون الخمر في إسراف، ويجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها ويتكاثرون؛ ويديرون عليها فخرهم في الشعر ومدحهم كذلك! وكان يصاحب مجالس الشراب نحر الذبائح واتخاذ الشواء منها للشاربين وللسقاة ولأحلاس هذه المجالس ومن يلوذون بها ويلتفون حولها! وكانت هذه الذبائح تنحر على الأنصاب وهي أصنام لهم كانوا يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها (كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها!) . . وفي ذبائح مجالس الخمر وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تشبهها كان يجري الميسر عن طريق الأزلام . وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة ، فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه. فالذي قدحه (المعلى) يأخذ النصيب الأوفر ، وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه. وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها!
وهكذا يبدو تشابك العادات والتقاليد الاجتماعية؛ ويبدو جريانها كذلك وفق حال الجاهلية وتصوراتها الاعتقادية .
ولم يبدأ المنهج الإسلامي في معالجة هذه التقاليد في أول الأمر، لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة؛ فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها الغائرة جهد ضائع. حاشا للمنهج الرباني أن يفعله! إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى. عقدة العقيدة. بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذوره؛ وإقامة التصور الإسلامي الصحيح. إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة . . بيّن للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق. وحين عرفوا إلهم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبه منهم هذا الإله الحق وما يكرهه. وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا! أو يطيعوا أمراً ولا نهياً؛ وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة . . إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة؛ وما لم تنعقد هذه العقدة أولاً فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي . . إن مفتاح الفطرة البشرية ها هنا. وما لم تفتح بمفتاحها فستظل سراديبها مغلقة ودروبها ملتوية، وكما كشف منها زقاق انبهمت أزقة؛ وكلما ضاء منها جانب أظلمت جوانب، وكلما حلت منها عقدة تعقدت عقد ، وكلما فتح منها درب سدت دروب ومسالك . . إلى ما لا نهاية . .
لذلك لم يبدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها، من هذه الرذائل والانحرافات . . إنما بدأ من العقيدة . . بدأ من شهادة أن لاإله إلا الله . . وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله هذه في الزمن حتى بلغت نحو ثلاثة عشر عاماً، لم يكن فيها غاية إلا هذه الغاية! تعريف الناس بإلههم الحق وتعبيدهم له وتطويعهم لسلطانه . . حتى إذا خلصت نفوسهم لله؛ وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله . . عندئذ بدأت التكاليف - بما فيها الشعائر التعبدية - وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية . . بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال. لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر الله به أو ينهى عنه أياً كان!
أو بتعبير آخر : لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد « الإسلام » . . بعد الاستسلام . . بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء . . بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب أمر الله رأي أو اختيار.
ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمراً مفاجئاً . . فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة، المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها، والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها .
لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي :
كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية:
{ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } النحل67. فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر (وهو المخمر) في مقابل الرزق الحسن . . فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر.
ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } البقرة 219. وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الإثم أكبر من النفع. إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع؛ ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع .
ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب ، وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } النساء43. والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب؛ ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة. وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب - وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين - وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي . وفيه - وهو أمر له وزنه في نفس المسلم - ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدها!
ثم كانت هذة الرابعة الحاسمة والأخيرة، وقد تهيأت النفوس لها تهيؤاً كاملاً فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان:
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء. فنزلت التي في البقرة: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء. فنزلت التي في النساء: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . .} الآية . . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء. فنزلت التي في المائدة: { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون }فدعي عمر فقرئت عليه، فقال : «انتهينا . انتهينا» . . (أخرجه أصحاب السنن). ولما نزلت آيات التحريم هذه، في سنة ثلاث بعد وقعة أحد، لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة: «ألا أيها القوم . إن الخمر قد حرمت» . . فمن كان في يده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها، وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه . . وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر!
والآن ننظر في صياغة النص القرآني؛ والمنهج الذي يتجلى فيه منهج التربية والتوجيه :
إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع : { يا أيها الذين آمنوا }. . لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة؛ ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى . . يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان }. . فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف «الطيبات» التي أحلها الله. وهي من عمل الشيطان. والشيطان عدو الإنسان القديم؛ ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئاً ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه، وتشمئز منه نفسه، ويجفل منه كيانه، ويبعد عنه من خوف ويتقيه!
وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوباً كذلك بالإطماع في الفلاح - وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق: { فاجتنبوه لعلكم تفلحون }. .
هداية وتدبر[3]
1. يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها والميسر الذي تتياسرونه والأنصاب التي تذبحون عندها والأزلام التي تستقسمون بها إثم ونَتْن، سخِطه الله وكرهه لكم – وهو – من تزيين الشيطان لكم، ودعائه إياكم إليه، وتحسينه لكم، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم، بل هو مما يسخطه لكم. فاتركوه وارفضوه، ولا تعملوه. لكي تنجحوا فتدركوا الفلاح عند ربكم، بترككم ذلك.
2. أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " شارب الخمر كعابد الوثن " ومنها أنه جعلهما رجساً، كما قال تعالى: { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَـٰنِ }[الحج: 30] ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت، ومنها أنه أمر بالاجتناب. ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً، كان الارتكاب خيبة ومحقة. ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر والقمر، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلاة.
3. قوله تعالى: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } من أبلغ ما ينهى عنه، كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون. أم أنتم على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟. لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى ٱنتهوا قال: ٱنتهينا. وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألاَ إنّ الخمر قد حُرّمت؛ فكسرت الدِّنان، وأُريقت الخمر حتى جرت في سِكك المدينة.
4. قال الشافعي رحمه الله: كل شراب مسكر فهو خمر، وقال أبو حنيفة: الخمر عبارة عن عصير العنب الشديد الذي قذف بالزبد.
5. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ [4]».
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِى فَيَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَلاَةً أَرْبَعِينَ صَبَاحاً[5] «.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ [6]".
عن عثمان بن عفان قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إن اللّه لا يجمع الخمر والإيمان في إمرىء أبداً ".
6. فَهِمَ الجمهورُ من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرِّجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها. كما ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد. ولم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخلّ حلال. وهو قول عمر بن الخطاب وقَبِيصة وٱبن شهاب وربيعة وأحد قولي الشافعي، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه.
7. قوله تعالى: { فَٱجْتَنِبُوهُ } يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه؛ لا بشرب ولا بيع ولا تخلِيل ولا مداواة ولا غير ذلك. وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الذي حَرّم شربها حَرّم بيعها »[7].
8. والعاقل الذي يتمعن في كل تلك المسائل المحرمة يرى أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام هي أمور لا تستطيبها النفس غير المنزوعة من الشيطان، فكأن قوله الحق: { رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ }يدلنا على أن العاقل لا يمكن أن يصنع هذه الأشياء.
9. قال القرطبي في تفسيره: هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنّرد والشِّطْرَنج قماراً أو غير قمار؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها فقال: { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ }الآية. ثم قال: { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ } الآية. فكل لهوٍ دعا قليله إلى كثير ، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراماً مثله. فإن قيل: إنّ شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنَّرد والشِّطْرَنج هذا المعنى؛ قيل له: قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما جميعاً بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس، ويصدّان عن ذكر الله وعن الصلاة؛ ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله ٱفتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لأجل ما ٱشتركا فيه من المعاني. وأيضاً فإن قليل الخمر لا يسكر كما أن اللعب بالنَّرد والشِّطْرَنج لا يسكر ثم كان حراماً مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنَّرد والشِّطْرَنج حراماً مثل الخمر وإن كان لا يسكر. وأيضاً فإن ٱبتداء اللعب يورث الغَفْلة، فتقوم تلك الغَفْلة المستولية على القلب مكان السكر؛ فإن كانت الخمر إنما حرّمت لأنها تسكر فتصدّ بالإسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنَّرد والشِّطْرَنْج لأنه يُغفِل ويُلهي فيصدّ بذلك عن الصلاة. والله أعلم.
10. التعبير بقوله تعالى: { فَاجْتَنِبُوهُ } أبلغ من التعبير بلفظ حرم لأنه يفيد التحريم وزيادة وهو التنفير والإبعاد عنه بالكلية، كما في قوله تعالى: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور }. وهذا النص الكريم قد جعلنا نبتعد عن الأماكن التي فيها الخمور. فلا نجلس مع من يشربونها، ولا نتاجر فيها حتى لا نقع في المعصية. فإذا رأيت مكاناً فيه خمر فابتعد عنه في الحال. حتى لا يغريك منظر الخمر وشاربها بأن تفعل مثله. والحق جل جلاله يقول في المحرمات: "لا تقربوا "واجتنبوا.. أي لا تحوموا حولها. لأنها إذا كانت غائبة عنك فلا تخطر على بالك فلا تقع فيها. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ والْحَرَامَ بَيِّنٌ وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا وإن لكل مَلَكٍ حِمَى ألا وإِن حمى الله محارمه ".
11. بعض الناس يقولون: ان الخمر غير محرّمة، لأنه لم يقل الله انها حرام صراحةً بل قال: اجتنبوه. وقولهم هذا كلام فيه الهوى والتذرّع بالتلاعب بالالفاظ لتعليل الأمور التي يحبونها، فالقرآن ليس كتاب فقه حتى ينصّ على كل شيء بأنه حرام او حلال، وانما هو قرآن كريم له اسلوب عربي فريد لا يدانيه اسلوب. واكبر دليل على تحريم الخمر تحريما نهائياً أن الله تعالى قرن الخمر بالميسر الذي هو القمار، وبالأزلام والأنصاب، وقد جاء تحريم الأزلام والانصاب صريحاً بقوله تعالى في أول هذه السورة { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ...}الآية ولما نزلت { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ...}الآية .
قال سيدُنا عمر: أُقرِنْتِ بالميسِر والأنصابِ والأزلام، بُعداً لكِ وسحُقا.
فإذا كانت عبادة الأصنام والذبحُ عندها تقرّباً لها حلالاً، فإن الخمر تكون حلالاً، واذا كانت الأزلام والاستقسام بها حلالاً، فإن الخمر تكون كذلك، واذا كان الميسر والمقامرة حلالاً فإن الخمر كذلك تكون حلالاً.. فالذين يقولون بتحليلها أناس يتّبعون أهواءهم، ولا يخشَون الله فيما يقولون.
أ - إن المسكرات لا تروي الظمأ بل تزيده . ب - إنها لا تفيد شيئاً في قضاء الأعمال . ج - إنها توقف النمو العقلي والجسدي في الأولاد . د - إنها تضعف قوة الإرادة فتفضي إلى ارتكاب الموبقات ، وتجر إلى الفقر والشقاء . هـ - هي من المسكنات كالبنج والإيثر . و - إنها تعد للأمراض المعدية . ز - إنها تعد بنوع خاص للتدرن والسل . ح - إنها تضر في ذات الرئة والحمى التيفودية أكثر مما تنفع . ط - إنها تقرب النهاية المحزنة في الأمراض التي تنتهي بالموت ، وتطيل مدة الشفاء في الأمراض التي تنتهي بالصحة . ي - إنها تعد لضربة الشمس والرعن في أيام الحر . ك - إنها تسرع بإنفاق الحرارة في أيام البرد . ل - إنها تغير مادة القلب والأوعية الدموية . م - إنها كثيراً ما تسبب التهاب الأعصاب ، والآلام المبرحة . ن - إنها تسرع بحويصلات الجسم إلى الهدم . س - إن المقدار العظيم الذي يتناوله أصحاب الأعمال الجسدية من أشربتها هو سبب شقائهم وفقرهم وذهاب صحتهم . ع - إن الامتناع عنها مما يقضي إلى صحة وسعادة الجنس البشري .
13. حدث تحريم الخمر في سنة ثلاث بعد الهجرة بعد وقعة أحد التي حدثت في شوال سنة ثلاث من الهجرة، واستظهر ابن حجر أنها حرمت سنة ثمان من الهجرة. وأما حد الخمر فثبت بالسنة النبوية، إما أربعون جلدة وهو رأي الشافعية، وإما ثمانون جلدة وهو رأي الجمهور، روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أنس رضي اللّه عنه قال: «كان النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين». وروى مسلم عن علي رضي اللّه عنه قال: «جلد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلّ سنّة، وهذا أحب إلي» .
الهوامش:
[1] . لسان العرب. في ظلال القرآن. الوسيط في تفسير القرآن الكريم. [2] . في ظلال القرآن. [3] . تفسير الطبري. تفتفسير الكشاف. تفسير القرطبي. خواطر الشعراوي. تيسير التفسير- القطان. الحَاوِى فى تَفْسِيرِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ. [4] . حديث 1985 - الأشربة - سنن الترمذى. وحديث 5625 - الأشربة - سنن النَسائى. و حديث 3517 - الأشربة - سنن ابن ماجه. و حديث 6715 - مسند عبد الله بن عمرو - مسند أحمد. [5] . حديث 7032 - مسند عبد الله بن عمرو - مسند أحمد. [6] . حديث 3676 - الأشربة - سنن أبى داود. [7] . صحيح مسلم - كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر - حديث 4128 . [8] . محاسن التأويل.