مصعب بن عمير
ابن هاشم بن عبد مناف العبدري القرشي
إذا مشيت في دروب مكة الحبيبة وتنشقت نسيماً يحمل عطراً وطيباً .. فاعلم أن أعطر أهل مكة من أصحاب رسول الله - مصعب بن عمير -
رضي الله عنه قد مر يوماً من هنا , كان أنعم الفتيان وأكثرهم ترفاً ودلالاً على أبويه , وأحسن الشباب حلة وثوباً , لم يكن ينقصه من متاع
الدنيا شيء , وقد جمع إلى ذلك العقل الراجح رغم حداثة سنه .
لقد اختار مصعب لنفسه طريقاً واحداً هو طريق دار الأرقم ليمنح نفسه فرصة الاستماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأسلم على يديه
راغباً طائعاً . ومضت أيام ومصعب يتردد إلى دار الأرقم يكتم إسلامه عن أمه خاصة , أمه خناس بنت مالك التي عرفت بشدة البأس والتعلق
بدين الآباء .. لقد كان مصعب يهابها ويخشى غضبها إن علمت بهجره للآلهة التي تعبدها .. ولكن الله آبى إلا أن يواجه مصعب أمه بالحق
الذي عرف , فقد رآه عثمان بن طلحة يوماً يتسلل خفية إلى دار الأرقم فغضب أشد الغضب , وتذكر أمه وكرهها لمحمد , فطار إلها بالخبر,
فهي أقدر من يمنعه ويثني عزيمته عن المضي في الدين الجديد . حاول مصعب أن يلين قلبها ويدعوها إلى الحق .. فازداد غضبها .. وحبسته
مكبلاً بالحدبد وأجاعته وجردته من عطائها . استغفل العيون الحارسة وكسر الأغلال وتجاوز القضبان وهرب من قبضة أمه ليهاجر مع
أصحابه الكرام من مكة إلى الحبشة نجاة بدينهم .ولم يهاجر مصعب رضي الله عنه هجرة واحدة إلى الحبشة بل هجرتين .
وفي السفر تنكشف أخلاق الرجال .. فظهرت أخلاق مصعب النبيلة ورقة طبعه وحسن معاملته لصحبه من المهاجرين معه إلى الحبشة
فأعجبوا به وأحبوه . قال عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه : كان مصعب بن عمير خدناً وصاحباً منذ يوم أسلم إلى أن قتل رحمه
الله بأحد , خرج معنا إلى الهجرتين جميعاُ بأرض الحبشة , وكان رفيقي من بين القوم , فلم أرى رجلاً قط كان أحسن خلقاً ولاأقل خلافاً
منه ..رجع مصعب إلى مكة وقد تبدلت حاله كثيراً .خرج يوماً يمشي في الطرقات وعليه بردة غليظة مرقوعة , فلما رآه رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذرفت عيناه , وقال لأصحابه حوله :انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه , لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب ولقد
رأيت عليه حلة شراها أو شريت له بمئتي درهم فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون .
ضحى مصعب بجاهه في المجتمع الجاهلي , لكنه ربح جاه الانتساب لرسول الله .. ثم اختاره عليه الصلاة والسلام لأشرف مهمة .. اختاره
سفيراً إلى يثرب . لبى مصعب بن عمير نداء الله ورسوله . هاجر رضي الله عنه إلى المدينة ونزل ضيفاً عند أسعد بن زرارة رضي الله عنه
أحد أشرافها الذين أسلموا بين يدي رسول الله وراح مصعب يدعو الناس إلى الإسلام . لم تبق دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها رجل أو
إمرأة .. ثم أسلم الأشراف وكسرت الأصنام ولقب مصعب هناك بالمقرئ .وكان مما علم بأمره وأراد مقاومته وإخراجه من المدينة : سيدا
بني عبد الأشهل .. سعد بن معاذ وأسيد بن حضير , فعرض عليها مصعب الإسلام بالحكمة والمنطق . قال مصعب لسعد :أوتجلس فتسمع
فإن رضيت أمراً قبلته , وإن كرهته كف عنك ماتكره .. فسمع سعد ورضي بالإسلام ثم انطلق إلى قومه بغير الوجه الذي ذهب به فوقف
عليهم وقال : يابني عبد الأشهل ! فكيف تعلمون أمري فيكم ! قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً .. قال فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى
تؤمنوا بالله ورسوله .. فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا إمراة إلا مسلماً أو مسلمة فكانت هذه أول دار من دور الأنصار يسلم
أهلها جميعاً .. المدينة غدت موكب نور و راحت تنتظر بلهفة قدوم الحبيب صلى الله عليه وسلم .فما فرح أهل المدينة في حياتهم كلها
بشيء مثل فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم .لقد آن للمدينة أن تفتح أبوابها لتؤي رسول الهدى على أرضها , فيقيم الدين
والشريعة الجديدة .
في غزوة بدر .. وكان فيها مصعب حامل لواء المسلمين وممن أبلوا البلاء الحسن حتى علت رايات المسلمين مؤذنة بالنصر المبين .
ومضى عام بعد بدر .. وخرجت قريش لقتال المسلمين ثأراً لقتلاها في بدر .. وهناك على أرض أحد عبأ النبي صلى الله عليه وسلم جيشه
وأعطى اللواء لمصعب بن عمير رضي الله عنه .. حميت الحرب واشتد القتال .. ولاحت تباشير النصر للمسلمين حين فر المشركون من
ساحة الوغى .. فظن الرماة أن المعركة قد انتهت , فوضع أكثرهم السلاح , ونزلوا عن الجبل .. ومن بعيد كان يرقبهم خالد بن الوليد - وكان
يومئذ مشركاً - فكر عليهم بالخيل , وقتل الرماة الباقون على الجبل , وتجددت المعركة , وطوق المشركون المسلمين وأحاطوا بهم .. فثبت
الصحابة وثبت حامل اللواء - مصعب بن عمير - وراح يقاتل دون رسول الله بيد ويحمل اللواء باليد الأخرى .. فأقبل رجل مشرك يدعى
(ابن قمئة ) على فرسه فضرب يد مصعب اليمنى فقطعها وسقط اللواء ..وهرع مصعب إلى اللواء الملقى على أرض المعركة .. لم تشغله
يده المقطوعة , ولم يصرخ ألماً أو يطلب نجدة وغوثاً .. بل حمله بيسراه وهو يقول
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ... )
وراح ابن قمئة يصرخ بأعلى صوته : قتلت محمداً - للشبه الذي بين رسول الله وبين مصعب - ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
على ابن قمئة فقال :" أقمأك الله عزو وجل ".. فاستجاب الله دعوة نبيه ..فقد انصرف ابن قمئة من ذلك اليوم إلى أهله فخرج على غنمه
يتفقدها فسلط الله عليه تيساً .. فلم يزل ينطحه حتى قطعه إرباً .
وعندما انتهت المعركة الأليمة ووضعت أوزارها .. أقبل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يتفقدون الشهداء .. ويدفنون أجسادهم الطاهرة
في أرض أحد , وجاء الصحابة بأكفان مصعب رضي الله عنه وماهي إلا بردة إذا غطوا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطوا رجليه خرج رأسه ,
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" غطوا بها رأسه , واجعلوا على رجله الإذخر " فلما انتهوا وقف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة
حوله يودعون مصعباً , فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيتك بمكة ومابها من أحد أرق حلة ولاأحسن لمة منك , ثم أنت شعث الرأس في بردة "
ثم تلا قوله تعالى : ( من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدلوا تبديلاً )
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أصحابي كالنجوم بإيهم اقتديتم اهتديتم " .