رد: تاريخ الإسلام في القوقاز
واعتباراً من القرن التاسع عشر الميلادي، تعرض العالم الإسلامي عموماً، والدولة العثمانية على وجه الخصوص، وروسيا وأوربا وإيران، لمتغيرات هائلة، كان لها أثرها المباشر على علاقات الدولة العثمانية مع مناطق آسيا الوسطى بعد سقوط القرم وقفقاسيا حتى بحر قزوين في يد الروس. ويأتي على رأس هذه المتغيرات ضعـف الدولة العثمانيـة، وتقسيم أملاكها إلى مناطق حماية بين الدول الاستعمارية ـ سقوط الممالك الإسلامية في القرم والقوقاز، وانفتاح الطريق أمام الروس لاحتلال ممالك آسيا الوسطى الإسلامية (مصطفى دسوقي كسبه، المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، هدية مجلة الأزهر، جمادى الآخرة 1414 هــ، ص. 128 ـ 129.)
ومنذ ذلك الحين، بدأ الروس يعدون العدة لتثبيت دولتهم وبسط سلطتهم، فتوجهت جيوشهم بوحشية بربرية زاحفة نحو الشرق لإخضاع تلك البلاد الإسلامية الشاسعة والقضاء على سكانها الآمنين المطمئنين. وفعلاً، وصلت الجيوش حتى أقصى حدود تركستان الكبيرة بعد أن استولوا على كل مدن هذه المملكة، التي كان قد تفشى فيها التفكك والانشقاق وقيام دويلات تشبه ملوك الطوائف. وكانت تركستان إذَّاك مقسمة إلى ست دول: دولة بني أوزبك في ما وراء النهر، ودولة بني بادكار في خوارزم، ودولة بني قوندي في الشمال الغربي لسيبيريا، ودولة أمراء مانفيت ـ نوغاي في غربي ولاية قازقستان، ودولة سلاطين قازان في الشمال الشرقي لقازاقستان، ودولة بني جغتاي (روغلات) في تركستان الشرقية. ثم تجزأت تركستان فيما بعد إلى ثلاث إمارات: إمارة فرغانة وإمارة خيوة وإمارة بخارى، استولى عليها الروس القيصريون عام 1875 م، ثم عام 1885 م، ثم عام 1886 م، وجعلوها تحت الانتداب. ولم تفد مقاومة التركستانيين لهذا الغزو الذي دام قرابة أربعين عاماً (نصر الله مبشر الطرازي، »الجمهوريـات الإسلاميـة في رابطة الـدول المستقلة«، المرجع السابق، مج 4، ص. 14.)
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر، ركز القيصر نيقولا الأول (1825 ـ 1855 م) جهوده للسيطرة على منطقة القوقاز؛ ولتحقيق هذا الغرض، تم بناء خط من الحصون لمحاصرة هذه القبائل والقضاء على مقاومتها. وبانتهاء حرب القرم عام 1856 م، تم تكثيف الحملات العسكرية ضد الشيخ شامل حتى اضطر إلى الاستسلام في 25 أغسطس 1859 م .
(Raymand Beazley, Russia from the Varangians to Balsheviks, Great Britain, 1918, p ) ،
ونجح الأمير الروسي بارياننسكي في الاستيلاء على حوانيت العاصمة. وكان القضاء على ثورة الشيخ شامل في القوقاز معناه تأمين الوضع العسكري في المنطقة، فبدأ التقدم الروسي في خانات آسيا الوسطى والتي كانت مناطق مجهولة تماماً للدول الأوربية والعالم الغربي حتى أطلق عليها »الأرض المجهولة
(W. Morfill, The Story of Russia, London, 1904, p. 322 )
( وانظر: إلهام محمد علي ذهني، »التوسع الروسي في خانات آسيا الوسطى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر«، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، مج 2، ص. 148 وما بعدها ).
هذا، في الوقت الذي أدرك فيه قياصرة روسيا خطر الإسلام عليهم؛ حيث اعتبروا أنفسهم الورثة الحقيقيين للإمبراطورية البيزنطية وأنهم حماة المذهب الأرثوذكسي، وأن عليهم العمل على نشره بزعزعة العقيدة الإسلامية من نفوس المسلمين. وهذا ما حدث فعلاً بعد إتمام التوسع في منطقة آسيا الوسطى
(Frederic Bondensted, Les peuples du Caucase et leur lutte d’indépendance contre la Russie, Paris, 1859, pp. 1-5).
ومهما يكن من أمر، فقد كانت هذه المتغيرات سبباً في وقوع كل من الدولة العثمانية وممالك آسيا الوسطى تحت النفوذ الاستعماري المباشر، بحيث بدأت تتعالى في الآفاق صيحات من هنا وهناك للعودة لرابطة الجامعة الإسلامية من جديد (المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، المرجع السابق، ص. 129) .
القوقاز تحت نير الشيوعية:
دخلت روسيا وما كانت تسيطر عليه من أراض عهداً جديداً في أعقاب نجاح البلاشفة بزعامة لينين في الاستيلاء على الحكم في نوفمبر 1917 م، ثم أطلقوا على أنفسهم: »الحزب الشيوعي الروسي«.
وقد خاضت روسيا غمار حرب أهلية (1918 ـ 1920 م) أسفرت عن منح روسيا الحكم الذاتي لجمهوريات، وأقاليم بداخلها، كان أولها بشكيريا في مارس 1919 م، وبعد ذلك تتاريا وغيرها... ثم جمهوريات وأقاليم إسلامية، وغير إسلامية، حصلت كلها على الحكم الذاتي.
وكانت جمهوريات القوقاز قد ظهرت أمراً واقعاً بالفعل منذ عام 1920 م. ومنذ ذلك التاريخ، تم ضم أربعة أقاليم إلى أرمينيا هي: أروزوم، وترابزون، وفان، وتبليس.
وفي آخر عام 1922 م، أقطع إقليم نخشيفان من أرمينيا، وتم ضمُّه إلى آذربيجان ليصبح سبباً مستديماً للتوتر بينهما.
وبموت لينين عام 1924 م، شهد الاتحاد السوفييتي صراعاً حول السلطة، حسبه ستالين لصالحه، ومن ثم أعلن عام 1929 م ضرورة الإسراع بالتحول إلى الشيوعيـة التي كان قد اعتبرهـا بمثابـة عقديـة (Creed)، وأطلق عليها »الماركسية ـ اللينينية«.
ومنذ عام 1936 م، تم تقسيم القوقاز إلى جمهوريات مستقلة هي: أرمينيا، وأذربيجان، وجورجيا؛ وأصبحت أبخازيا، والإظهار، وأوسيت أقاليم ذات حكم ذاتي.
وقد شهدت فترة حكم ستالين، التي دامت حتى عام 1953 م، ألواناً من القهر والسخرة في العمل؛ فقتل عشرات الملايين، أو طردوا، أو سجنوا، أو شردوا، وتم القضاء على الملكية الفردية، كما شنق مئات الآلاف ممن أطلق عليهم: (أعداء الشعب)
(Almond Gabriel and R. Bingham, Comparative Politics Today, 3rd ed., 1984, p. 302)
وقد تعرض المسلمون خلال تلك الفترة إلى صنوف القهر والتعذيب والتشريد والتهجير الإجبار، وإلى تقسيم أراضيهم والاقتطاع منها، وتهجير الروس والأوكرانيين إليها، بهدف تغيير التكوين »الديموغرافي«، والعرقي، والديني لهذه الأقاليم (المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، المرجع السابق، نقلاً عن د. فوزي طايل، ص. 153. ) .
ومن ناحية أخرى، فرضت على المسلمين اللغة الروسية لغةً رسميةً، ولغةً للتعامل في كل نواحي الحياة؛ فانفصل معظم المسلمين عن كتاب الله وسنة رسوله r، وعن كتب الفقه، التي لم تكن مكتوبة باللغة الروسية... وصار من بقي من علماء المسلمين المسنين يعلمون الإسلام لمن يتيسر له ذلك سراً(دائرة المعارف البريطانية، ص. 1089.) ! !
وزاد الطين بلة، عندما مارس الروس نشر الأيديولوجية الإلحادية بين صفوف المسلمين، مع تجذير الثقافة الشيوعية، بالإضافة إلى تحطيم نظام الأسرة القوي المتماثل لدى المسلمين، وإطالة وقت عمل المرأة بين الرفاق، ومنع الدراسة الدينية وتدريس اللغة العربية منعاً باتاً، ومنع الكتابة بالحرف العربي؛ وقد حول الحرف أولاً إلى اللاتيني، ثم حول بعد ذلك إلى الحرف الروسي.
وقد أوجد الروس الثغرة القوية بين مسلمي روسيا، مع أن الفكر الشيوعي يصطدم أساساً مع القوميات. ولهذا قسم الروس المناطق الإسلامية إلى ست جمهوريات، وجميعها محكومة بالمستعمر الروسي المتمثل في سكرتير الحزب الشيوعي في كل منطقة من هذه المناطق.
واسم »جمهورية« ليس إلا مجرد اسم. والواقع المر أنها مستعمرات روسية يدير شؤونها موظفون من موسكو. ولهذا، فإن سياسة روسيا تعتمد على أن يكون السكرتير الأول والثاني في كل جمهورية من هذه الجمهوريات الإسلامية روسيّاً وليس محلياً مهما تظاهر بالشيوعية.
وكان تولي المسلمين للمناصب العامة أدنى كثيراً من نسبتهم الحقيقية إلى كل الشعوب السوفييتية (محمد عبده يماني، »مسلمو آسيا الوسطى بين محنة الحاضر وتحديات المستقبل«، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، مج 2، ص. 9. ) .
وقد ساعد على تمكن السلطات السوفييتية من السيطرة على بلاد المسلمين في وسط آسيا والقوقاز انضمامُ بعض المسلمين ممن تأثروا بالثقافة الروسية، وتعلموا في مدارسهم وجامعاتهم، لأكثر من ثلاثين عاماً، انضمامهم إلى الحزب الشيوعي. ومن ثم تولوا مناصب هامة في بلادهم، وأصبح ولاؤهم للسلطات السوفييتية (دائرة المعارف البريطانية، ص. 1089) .
هذا، وبعد أن حاصر الألمان الروس في أوربا أيام الحرب العالمية الثانية ووصلوا إلى 150 كلم قرب موسكو وحاصروا لننكَراد (بطرسبورغ الحالية) وقطعوا طريق الوصول إلى جمهوريات القوقاز، نقل الروس مصانعهم الضخمة التي تنتج الصناعات الثقيلة والحربية إلى أراضي جمهوريات آسيا الوسطى السوفييتية. وبما أنهم كانوا بحاجة إلى مزيد من الجنود للدفاع عن الاتحاد السوفييتي المهدد بالألمان، فقد منحوا نوعاً من الحرية الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وسمحوا بفتح مسجد في كل مدينة كبيرة كثيفة السكان. وفي عام 1944 م، أسست في مدينة باكو الإدارة الدينية لمسلمي ما وراء القوقاز، وهي تدير شؤون المسلمين من الشيعة والسنة في آذربيجان وجورجيا.
وكان رؤساء مثل هذه الإدارات الدينية من دعاة الإسلام المستضعفين المضطرين إلى طاعة أوامر موسكو (نصر الله مبشر الطرازي، »الجمهوريات الإسلامية في رابطة الدول المستقلَّة. ماضيها وحاضرها«، المرجع السابق، مج 4، ص. 19) .
وحدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ أخذت قوة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية تتجه إلى الهبوط حتى وصل الأمر إلى انهيار الاتحاد السوفييتي.
وفي الثامن من ديسمبر 1991 م، أعلن رؤساء ثلاث جمهوريات سوفييتية، في خطوة غير مسبوقة، إنشاء كومنولث جديد ونهاية الاتحاد السوفييتي.
{ يريدون ان يطفؤوا نور الله بافواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون(32) }(التوبة).