يوم دنشواي
كريم رمضان
في يوم الأربعاء 13 يونيو من عام 1906 وصلت كتيبة الميجور كوفين –إحدى كتائب الجيش الإنجليزي- الى منوف قادمة من القاهرة، وكان الميجور كوفين قومندان الكتيبة قد اعتاد ان يمارس هواية صيد الطيور وكان قد علم من زملائه ان قرية دنشواي القريبة من منوف تزدحم بأسراب هائلة من الحمام ولما زار كوفين القرية أذهلته وفره أسراب الحمام بها، وفي صباح ذلك اليوم وجد كوفين نفسه قريبا من دنشواي
لذا فقد أغرى أربعة من ضباط كتيبة بأن يتوقفوا بالقرب منها لتستريح الدواب ويستريح الجنود بينما يتسلل هو وضباطه الأربعة (الكابتن بول – والملازمين بورثر وسميث والطبيب البيطري الملازم بوستك ) لصيد الحمام.
وفور وصولهم الى مشارف القرية اخذزا يختبرون بنادقهم بينما احتشد حولهم لفيف من أطفال القرية وصبيانها وسرعان ما انقسموا الى قسمين اختار اولاهما وكان يضم الميجور كوفين والكابتن بول والملازم سميث ان يصطادوا الحمام من بين اغصان الاشجار على جانبى الطريق الزراعي بينما ابتعد الآخران قليلا حتى وصلا الى اجران القمح وكان الجرن لمؤذن القرية (محمد عبد النبي)، وما ان شاهد الاثنين حمامتين تقفان على كوم القمح حتى اطلق عليهما بورثر تسع طلقات متتاليه اشتعلت على اثرها النيران فى الجرن فصرخت (ام محمد) زوجة المؤذن تستغيث بالرجال لإطفاء النيران، في ذلك الوقت اجتمع حشد كبير من الفلاحين حول الضابطين وحاول بعضهم انتزاع البنادق منهما فانطلقت دفعة آخرى من الخرطوش أصاب احد اعيرتها زوجة المؤذن ومع ان الطلقة لم تكن رصاصا حيا الا ان الفلاحة انزعجت فسقطت مغشيا عليها فتبادر الى اذهان الجميع ان الانجليز قد حرقوا جرن القمح وقتلوا زوجة المؤذن.
وفي ذلك الوقت كان الميجور كوفين وزميليه يعدوان للحاق بزملائهم فى محاولة لفض المشاجرة لكن الموقف ازداد تدهورا اذ انطلقت رصاصتان حيتان من بندقية احد الضباط اصابت واحدة منهما شيخ الخفراء في فخذه واصيب اثنان آخران من الخفراء فرفع الفلاحون عصيهم بينما قذف الصبيان الجنود بالطين والحجارة.
وحاول الضباط استعطاف اهل القرية باستخدام الاشارات اذ لم يكن احد من الطرفين يعرف لغة الآخر وعلى سبيل الترضيه تظاهر الميجور كوفين بالقبض على الملازم بورثر وتجريده من سلاحه كما قدم ساعته وخاتمه وما كان يحمله من نقود على سبيل التعويض وكادت تلك المحاولة تمر بنجاح وتوجه الضباط نحو العربات لكن الاهالي ثاروا وتمسكوا بعدم مغادرتهم قبل ان تصل الحكومة لتثبت التهمة عليهم.
واذ ادرك الضباط ان الموقف اصبح ميئوسا منه اتفقوا على ان يحاول بعضهم الهرب طلبا للنجده بينما يحاول الاخرون التخلص بلباقة من الحصار وبالفعل انطلق الكابتن بول والدكتور بوستك هاربين على الطريق الزراعي وجرى خلفهم بعض الفلاحون، وجذب الفلاحين الضباط الثلاثه الباقين الى جرن القمح واشاروا الى المرأة الجريحة معبرين بالاشارة عن انهم يستحقون قطع رقابهم جزاء قتلهم لها واخذوا يركلونهم بالاقدام، وحين انتهى الامر كانت المعركة قد اسفرت عن كسر عظمة من عظام الذراع الايسر للميجور كوفين واصابات سطحية بالضباط الاخرين .
اما الكابت بول والدكتور بوستك فقد قطعا الطريق الزراعي عدوا، وعندما التفت بوستك الذى كان فى المقدمة خلفه لم يجد زميله ولم يعرف – الا فيما بعد – انه سقط مغشيا عليه، وقطع بوستك ثمانية كيلومترات تحت الشمس الحارقة حتى وصل الى معسكره الذى كان في (كمشيش) وفي كلمات لاهثه متقطعه اخبر زملائه بما وقع في دنشواي.
وخلال دقائق معدودة تحركت طلائع الكتيبة نحو دنشواى وفى طريقهم وجدوا عددا من الفلاحين يحيطون بالكابتن بول فى المكان الذى سقط فيه فحمله البعض الى المعسكر لاسعافه فى حين طار الباقون للقبض على الفلاحين ظنا منهم انهم الذين اعتدوا عليف ففر الفلاحين وفى اعقابهم الجنود الذين استطاعوا القبض على خمسه منهم ولكن احدهم وهو (سيد احمد سعيد) فر منهم مختبا ولكن الجنود ادركوه وانهالوا عليه بالسونكي حتى اصبحت اكبر قطعة فى رأسه –كما ذكرت مجلة “المجلات العربية” التى صدرت بعد الحادث مباشرة – في حجم عمله النقود الصغيرة التى كانت تسمى بالقرش تعريفة !!
وفى خلال دقائق كانت الامور قد تعقدت ووصلت الاخبار الى القاهرة ومع ان الاشارة التليفونية الرسمية الاولى عن الحادث كانت تقول ان معركة وقعت بين الاهالي والضباط تبادل فيها “الطرفان” اطلاق النار الا ان البحث منذ اللحظة الاولى كان فى اتجاه واحد : لم يبحث احد عن قتلة (سيد احمد سعيد) الفلاح المصري الذى اصبحت اكبر قطعة فى رأسه فى حجم القرش تعريفه ولم يبحث احد عن الذين اصابوا زوجة المؤذن وغيرها وانما كان البحث جاريا عن هؤلاء الذين تجرئوا على رفع عصيهم وقذف احجارهم على جنود جيش الاحتلال البريطاني.
وفي الحقيقة لم يكن هناك جناة اذ لم تكن هناك جناية من الاصل فما حدث كان مشاجرة عادية اما الكابتن بول فقد مات فى السابعة من مساء اليوم نفسه وقال زميله الدكتور بوستك انه كشف عليه طبيا وتبين له انه اصيب بإحتقان في المخ من أثر ضربة الشمس التى تعرض لها بسبب مسيرته الطويلة تحت الشمس الحارقة ناهيك عن استحالة ان يتعرف الضباط الانجليز على اشخاص ممن تشاجروا معهم او رفعوا عليهم العصي بين زحام الفلاحين المتشابهي الوجوه والملابس، الا ان الانجليز لم يعدموا وسيله فباتوا يجوسون أزقه القريه ويفتشون بيوتها بحثا عن الاعداء الذين حاربوا بريطانيا العظمى وتم “اختيار” اثنى عشر متهما اعتقلوا جميعا بمسجد القرية!
وكان فى مقدمتهم مؤذنها وصاحب الجرن المحروق، وأسفرت تلك العملية فى النهاية على القبض على عشرات الفلاحين قدم منهم 60 للمحاكمة وكان منهم 8 هاربين.
إبراهيم الهلباوي .. جلاد دنشواي
هو شيخ المحامين في ذلك الوقت وأكثرهم شهره وعقب أحداث دنشواي وتقرير الانجليز بان تقوم محكمة مخصوصة بمحاكمة المتهمين فقد قام المستشار ميتشل سكرتير الداخلية الانجليزي بسؤال الهلباوي عما اذا كان قد وُكل من قِبل احد من المتهمين فى دنشواى فلما نفى ذلك اخبره بأن الحكومة قد اختارته ليمثلها فى “اثبات” التهمة ضد المتهمين ذلك لان نظام المحكمة المخصوصة يقضى بان يمثل الاتهام شيخ من شيوخ المحاماة.
وتواضع الهلباوى فى تحديد اتعابه فمع انه – كما قال فيما بعد – كان يتقاضى 500 جنيه فى القضايا الكبرى الا انه خفض اتعابه فى هذة القضية فقبل ان يترافع فيها بـ 300 جنيها فقط!!
وفى خلال المحكمة الهزليه وقف الهلباوى يترافع عن الاحتلال ضد وطنه وعن الصيادين ضد ضحاياهم ولم يخطئ مرة واحدة فيلتمس العذر للبؤساء من اهل دنشواي فيما فعلوه فالقضية كما صورها هى صراع بين ضباط إنجليز خيرين طيبين شجعان وبين فريق من الهمج المتوحشين، ضباط ينتمون لجيش الاحتلال الانجليزي الذى “حرر” المصري وبين هؤلاء السفله من فلاحى دنشواى .. هكذا ترافع الهلباوي.
ووفق جلاد دنشواي فى لعبته وخان بنى جلدته وصدر الحكم فى اليوم التالي كالأتي ..
- إعدام أربعة
- جلد اثنى عشر
- اشغال شاقة للباقين
لقد قتل الهلباوي شعبه كله.
وما أن وصلت انباء هذة المحاكمة الهزلية الى الصحف حتى انطلقت كالنار فى الهشيم داخل مصر وخارجها حتى ان الكاتب الايرلندي الشهير “برنارد شو” لم يجد سوى السخرية من عدل سلطات الاحتلال التى اجهدت نفسها بحثا عن “بروجرام” تشغل به المتفرجين على حفل الاعدام وتحول بينهم وبين الملل خلال النصف ساعة التى كان من مفروضا ان ان يظل فيها جسد المشنوق معلقا للتأكد من وفاته ولإتاحة وقت كاف لاسرته كى تشاهده وهو يدور حول نفسه، وقد حلت المحكمة هذه المشكله فقضت على ثمانية من المتهمين بالجلد لتتيح لفرقة التنفيذ ملء فراغ البروجرام بجلد اثنين بين كل مشنوقين حتى يكتمل الطابع الاحتفالي والاستعراضي لعدل المحتلين ..!!!
وفى ذلك التوقيت كانت مصر تضم رجلا وطنيا من الطراز الاول، عشق ترابها وهام فيها حبا هو الزعيم مصطفى كامل الذى انتابته حالة من العصبية لوطنه لم تصبه من قبل تلك الحادثه لان ذلك الظلم الذى وقع على المصريين فاق الحد، فجاب مصطفى كامل اوربا يندد بالاحتلال ويكتب مقالا فى كل صحيفة ويخاطب كل ذو شأن ويخطب فى الناس وعيناه تزرفان الدموع على المصريين الذين كتب عليهم الهوان، فضح الحضارة الانجليزية واثار اشمئزاز البشرية منها حتى اضطرت الحكومة البريطانية الى نقل اللورد كرومر من مصر بعد ان ظل بها فى منصبه ربع قرن من الزمان.
مصير الجلادين
بخلاف اللورد كرومر كان هناك ثلاثة اشتركوا في هذة الجريمة:
بطرس غالي؛ الذي رأس المحكمة.
أحمد فتحي زغلول (شقيق سعد زغلول) ؛ وكان عضوا بالمحكمة وكتب حيثيات الحكم بيده.
والهلباوي؛ ممثل الإدعاء.
فأما أحمد فتحي زغلول، فإن شيئا لم يغفر له ما فعله يوم دنشواي حتى كونه شقيق سعد زغلول، وحدث انه رُقي لمنصب وكيل وزارة الحقانية (العدل) عام 1907 واقيم له حفل تكريم بهذة المناسبة بفندق “شبرد” وطلب منظمو الحفل من أمير الشعراء أحمد شوقي بالاشتراك فى الحفل بقصيدة فوعدهم بلإرسالها لتلاوتها – وكان لا يتلو شعره بنفسه – وفي الميعاد المحدد وصل رسول شوقي بمظروف الى فندق شبرد وفتحته لجنة الاحتفال فوجدت به ابياتا تقول :
اذا ما جمعتم أمركم وهممتموا * بتقديم شئ للوكيل ثمين
خذوا حبل مشنوق بغير جريرة * وسروال مجلود وقيد سجين
ولا تعرضوا شعري عليه فحسبه * من الشعر حكم قد خطه بيمين
ولا تقرأوه في شبرد بل أقرءوه * على ملأ من دنشواي حزين.
وكانت لطمة…
وأنقذ أحمد فتحى زغلول نفسه فغادر الدنيا كلها بعد ذلك بسنوات قليلة عام 1914 غير مأسوف عليه من أحد.
أما بطرس غالي رئيس المحكمة أو المهزلة فقد لقى مصرعه قتيلا بعدها بسنوات قليلة جزاء لما قدمت يداه وكان قاتله احد رجال الحزب الوطني ويدعى ابراهيم الورداني ، ومن الطريف ان ابراهيم الهلباوي تطوع للدفاع عن الورداني قاتل بطرس غالي!
أما ابراهيم الهلباوي فلقد عمر طويلا بعد الحادث لأكثر من ثلاثين عاما ذاق خلالها الذل والهوان من المصريين الذين قابلوه بالكراهية فى كل مكان.
يقول الأديب يحى حقي: “حضرته –أي الهلباوي- يخطب في سرادق ضخم أزدحم فيه أنصار حزب الأحرار الدستوريين من أجل تخليص البلاد من يد المحتلين وقوبل خطابه بالهتاف والتصفيق وامتلأ الرجل ثقة وزهوا وظن ان الدنيا قد صالحته ولكنه لم يكد يفرغ من خطابه حتى أرتفع صوت في آخر السرادق يهتف:
- يسقط جلاد دنشواي.
.. كنا واثقين انها دسيسة بعث بها حزب الوفد لافساد الحفل بدليل ان المبعوث اتخذ مكانه بجانب الباب ليسهل عليه الهرب ومع ذلك فكأني بالحاضرين وقد مستهم الكهرباء فجأة واذا بهم كلهم – وهم أنصار الهلباوي – يقفون وقفة رجل واحد ويهتفون بصوت واحد يجلجل كالرعد:
- ليسقط جلاد دنشواي.
انه كان صوت مصر ينطلق من حلوقهم على الرغم إرادتهم”
وفي عام 1940 مات الهلباوي وهو فى الثالثة والثمانين وخلف جنازته كان الرجال يتذكرون ابياتا من قصيدة حافظ ابراهيم التى يقول فيها:
لا جرى النيل فى نواحيك يا مصر * ولا جادك الحيا حيث جادا
انت انبت ذلك النبت يا مصر * فأضحى عليك شوقا قتادا
أيه يا مدرة القضاء .. ويا من * ساد في غفله من الزمان وشادا
أنت جلادنا فلا تنس انا قد * لبسنا على يديك الحدادا
ويهيل النسيان التراب على كل شئ.
ان الذكرى الوحيدة الباقية للهلباوي – كما يرصد الأديب يحي حقي – تسمعها من كمساري الأتوبيس في خط المنيل بالقاهرة وهو يعدد المحطات فيقول .
- محطة الجراج .. محطة الهلباوي!!
ذلك ان المصري ليس مغفلا ولا ساذجا .. ولا قادرا على نسيان الجراح الكبيرة.
كم انت طيب ايها المصري، لكنك قاسي كذلك.