أسباب الفتن الواقعة
من المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به في كتابه: أن المعاصي سبب المصائب، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال، وأن الطاعة سبب النعمة، فإحسان العمل سبب لإحسان الله قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]. وقال تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79] ـ
وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكارا منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديما وحديثا، إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر
ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها، ومن تبعهم من العامة من الفتن: هذا أصلها، يدخل في ذلك
أسباب الضلال والغي: التي هي الأهواء الدينية والشهوانية، وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا، وذلك أن أسباب الضلال والغي البدع في الدين، والفجور في الدنيا، وهي مشتركة: تعم بني آدم، لما فيهم من الظلم والجهل، فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره، كالزنى بلواط وغيره، أو شرب خمر، أو ظلم في المال بخيانة أو سرقة أو غصب، أو نحو ذلك
ومعلوم أن هذه المعاصي وإن كانت مستقبحة مذمومة في العقل والدين فهي مشتهاة أيضا، ومن شأن النفوس أنها لا تحب اختصاص غيرها بها، لكن تريد أن يحصل لها ما حصل له، وهذا هو الغبطة التي هي أدنى نوعي الحسد، فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه، أو تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه وإن لم يحصل، ففيها من إرادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه
أنها تختص عن غيرها بالشهوات؛ فكيف إذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك واختص بها دونها؟
فالمعتدل منهم في ذلك الذي يحب الاشتراك والتساوي، وأما الآخر فظلوم حسود
وهذان يقعان في الأمور المباحة والأمور المحرمة لحق الله، فما كان جنسه مباحا من أكل وشرب ونكاح ولباس وركوب وأموال: إذا وقع فيها الاختصاص حصل الظلم، والبخل والحسد، وأصلهما الشح
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم والشح! فإنه أهلك من كان قبلكم: أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا»ـ
فهذا الشح الذي هو شدة حرص النفس يوجب البخل بمنع ما هو عليه، والظلم بأخذ مال الغير، ويوجب قطيعة الرحم، ويوجب الحسد، وهو كراهة ما اختص به الغير، والحسد فيه بخل وظلم، فإنه بخل بما أعطيه غيره، وظلمه بطلب زوال ذلك عنه. فإذا كان هذا في جنس الشهوات المباحة، فكيف بالمحرمة، كالزنى وشرب الخمر ونحو ذلك؛ وإذا وقع فيها اختصاص فإنه يصير فيها نوعان
أحدهما: بغضها لما في ذلك من الاختصاص والظلم، كما يقع في الأمور المباحة الجنس. والثاني: بغضها لما في ذلك من حق الله
ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام: أحدها: ما فيها ظلم للناس، كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق، والحسد ونحو ذلك. والثاني: ما فيه ظلم للنفس فقط، كشرب الخمر والزنى، إذا لم يتعد ضررهما. والثالث: ما يجتمع فيه الأمران، مثل أن يأخذ المتولي أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر، ومثل أن يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرهم. كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان
وقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]. وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم» فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة، فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له، والتعدي عليه في حقه
وداعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنى وأكل الخبائث، فهي قد تظلم من لا يظلمها، وتؤثر هذه الشهوات وإن لم تفعلها، فإذا رأت نظراءها قد ظلموا وتناولوا هذه الشهوات صار داعي هذه الشهوات أو الظلم فيها أعظم بكثير، وقد تصبر، ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير عنه ما لم يكن فيها قبل ذلك، ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين، بكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين، وأن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب، والجهاد على ذلك من الدين
والناس هنا ثلاثة أقسام: قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم، فلا يرضون إلا بما يعطونه، ولا يغضبون إلا لما يحرمونه، فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه، وصار الأمر الذي كان عنده منكرا - ينهى عنه ويعاقب عليه، ويذم صاحبه ويغضب عليه - مرضيا عنده، وصار فاعلاً له وشريكاً فيه، ومعاوناً عليه، ومعادياً لمن نهى عنه وينكر عليه، وهذا غالب في بني آدم، يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه
وسببه: أن الإنسان ظلوم جهول، فلذلك لا يعدل، بل ربما كان ظالما في الحالين، يرى قوما ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم، فيرضي أولئك المنكرين ببعض الشيء فينقلبون أعوانا له، وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه، وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي، حتى يدخلوا أحدهم معهم في ذلك، أو يرضوه ببعض ذلك، فتراه قد صار عونا لهم، وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها، وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره
وقوم يقومون ديانة صحيحة، يكونون في ذلك مخلصين لله، مصلحين فيما عملوه، ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم من خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله
وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا، وهم غالب المؤمنين، فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية، وربما غلب هذا تارة وهذا تارة. وهذه القسمة الثلاثية كما قيل: الأنفس ثلاث: أمارة، ومطمئنة، ولوامة، فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمره بالسوء، والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: 27 - 30]ـ
والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، وتتلون: تارة كذا، وتارة كذا، وتخلط عملا صالحا وآخر سيئا
ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» أقرب عهدا بالرسالة وأعظم إيمانا وصلاحا، وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت في الطمأنينة: لم تقع فتنة، إذ كانوا في حكم القسم الوسط
ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة علي كثر القسم الثالث، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين، وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا، ثم كثر ذلك بعد، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين، وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنه مع الحق والعدل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى، ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى
فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله، ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه، ويثبته على الهدى والتقوى، ولا يتبع الهوى
كما قال تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ [الشورى: 15]ـ
وهذا أيضا حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات، وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين، فإنهم يحتاجون إلى شيئين: ـ
إلى دفع الفتنة التي ابتلي بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضي لها، فإن معهم نفوسا وشياطين كما مع غيرهم، فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم، كما هو الواقع، فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانهم، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير، فكم ممن لم يرد خيرا ولا شرا حتى رأى غيره - لا سيما إن كان نظيره - يفعله ففعله! ـ
فإن الناس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض. ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر: له مثل من تبعه من الأجر والوزر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» وذلك لاشتراكهم في الحقيقة، وأن حكم الشيء حكم نظيره، وشبه الشيء منجذب إليه.
فإذا كان هذان داعيين قويين: فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران؟
وذلك أن كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم، ومعاداتهم لمخالفيهم. وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختارون ويؤثرون من يشاركهم
إما للمعاونة على ذلك، كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق ونحوهم، وإما بالموافقة، كما في المجتمعين على شرب الخمر، فإنهم يختارون أن يشرب كل من حضر عندهم، وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير: إما حسدا له على ذلك، لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم، وإما لئلا يكون له عليهم حجة، وإما لخوفهم من معاقبة لهم بنفسه، أو بمن يرفع ذلك إليهم، ولئلا يكونوا تحت منته وخطره ونحو ذلك من الأسباب
قال الله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة: 109]. وقال تعالى في المنافقين: ـ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء: 89]ــ
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ودت الزانية لو زنى النساء كلهن. والمشاركة قد يختارونها في نفس الفجور، كالاشتراك في الشرب والكذب والاعتقاد الفاسد، وقد يختارونها في النوع كالزاني الذي يود أن غيره يزني، والسارق الذي يود أن غيره يسرق أيضا، لكن في غير العين التي زنى بها أو سرقها..وأما الداعي الثاني فقد يأمرون الشخص بمشاركتهم فيما هم عليه من المنكر، فإن شاركهم وإلا عادوه وآذوه على وجه ينتهي إلى حد الإكراه، أو لا ينتهي إلى حد الإكراه، ثم إن هؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم في قبيح فعلهم أو يأمرونه بذلك ويستعينون به على ما يريدونه
متى شاركهم وعاونهم وأطاعهم انتقصوه واستخفوا به، وجعلوا ذلك حجة عليه في أمور أخرى، وإن لم يشاركهم عادوه وآذوه، وهذه حال غالب الظالمين القادرين. وهذا الموجود في المنكر نظيره في المعروف وأبلغ منه
كما قال تعالى: ـ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165]ـ