رد: القران الكريم حقوق القران الكريم
م جاءت الصيحة الأخيرة، واهتز كياني كله من التبكيت، {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون} [النجم: 60-66]، فلما سمعت {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62] كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقاً إلى أوصالي، واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي لم أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة"[5].
ومما لا شك فيه أن العبد لا يمكن أن يؤدي حق الإيمان بالقرآن ما لم ينفِ الأقوالَ الباطلة والعقائد الفاسدة من القول بخلق القرآن ونحوه، قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا،ً وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: {سأصليه سقر} [المدثر: 26]
فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إن هذا إلا قول البشر} [المدثر: 25]، علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر"[6].
حق تلاوته:
تلاوة القرآن من الحقوق الجليلة التي أمر الله بها نبيه والأمةَ بعده؛ فقال تعالى لنبيه: {ورتل القرآن ترتيلاً} [المزمل: 4]، وأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدلنا على هذا الحق بطريقة فريدة في القرآن، إذ قال: {قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن} [النمل: 91-92]
وقد مدح الله تعالى الذين يتلون القرآن حق التلاوة فقال: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} [البقرة: 121]، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الماهر بالقرآن في معيَّة الملائكة الكرام فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران"[7].
وأي فضل أجل وأعظم من بذل الجهد في قراءة القرآن وإمتاع النظر بآياته، وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - ثواب التلاوة؛ فعن عبد الله بن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (آلم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"[8].
ويومَ يقوم الناس لرب العالمين يأتي القرآنُ شفيعاً لأصحابه؛ فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيامُ: أيْ ربِّ منعتُه الطعامَ والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان"[9].
وعن أبي أمامة الباهلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعًا يوم القيامة لصاحبه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو كأنهما غمامتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما"[10].
ومما يعين على أداء حق التلاوة ما يلى:
تعلم اللغة العربية، وإذا كان المسلم من الأعاجم فإن عليه أن يعرف من اللغة العربية ما يؤهله للقيام بحق التلاوة.
طلب علم التجويد، وهو العلم الذي موضوعُه كيفية قراءة القرآن الكريم على الوجه الصحيح.
الورد، فإن المسلم ينبغي أن يكون له ورد من القرآن يداوم عليه كل يوم، ويرجى لمن يقرأ كل يوم جزءاً من القرآن ألا يكون مفرطاً، ولكن لا يختمه في أقل من ثلاث لحديث عبد الله بن عمرو أنه قال: "يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟
قال: في شهر، قال: إني أقوى من ذلك،" ردد الكلام أبو موسى وتناقصه حتى قال: "اقرأه في سبع"، قال: إني أقوى من ذلك، قال: "لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث"[11].
حق حفظه:
وحافظ القرآن أولى بهذا الفضل المذكور في حق التلاوة؛ لأن الحفظ يشمل التلاوة، ولما في الحفظ من مشقة ولما يتميز به الحافظ من كون الوحي في صدره يقرأه متى شاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتَقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها"[12].
فتخيل أخي نفسك في الجنة تقرأ الآية فتعلو بها درجة، واسأل نفسك الآن كم درجة تريد أن ترتقي؟ وليكن جوابك عملاً فالدرجة في الجنة بآية من القرآن، الثمن معروف والجزاء كذلك.
تنبيه:
وعلى المسلم أن يعلم أن الله تعالى لم يكلفه حفظ القرآن كاملاً، وأن الواجب عليه من ذلك ما يؤدي به صلاته، ويستشفي به إذا مرض، والصحابة لم يكن جميعهم يحفظ القرآن كاملاً، وكذلك لم يكن منهم من لا يحفظ منه شيئا.
على المسلم أن يعلم كذلك أن حق الحفظ يشمل التعهد والمراجعة، وقد روي مرفوعا: "عرضت علي أجورُ أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها"[13].
أما طريقة حفظ القرآن فالطريقة التي تناقلها المسلمون جيلاً جيلاً؛ حفظ الجديد، ومراجعة القديم.
حق التدبر:
قال الله تعالى: {ولقد ويسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17]
قال ابن كثير: "أي سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس"[14]، فهو كتاب سهل الله ألفاظه فهي سهلة عذبة تدعو قارئها للتأمل والتدبر والاعتبار والاتعاظ، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر ألو الألباب} [ص: 29]
قال الطبري: "يعني ليتدبر هذا القرآن من أرسلناك إليه من قومك يا محمد"[15].
وقد جاء التوبيخ والتبكيت لمن غفل عن التدبر؛ فقال الله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82]، قال الشوكاني: "دلت هذه الآية على وجوب التدبر للقرآن ليعرف معناه"[16].
وقوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}، قال الشوكاني: "المعنى: أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفاً غير مختلف، صحيح المعاني قوي المباني بالغاً في البلاغة إلى أعلى درجاتها (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) أي: تفاوتاً وتناقضاً"[17].
فالله تعالى كما سهل ألفاظه للقارئين فقد سهل معناه للمتدبرين، فلا اختلاف في أحكامه، ولا تضارب في أخباره، بل يصدق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً.
وقد بين الله عز وجل سبب إعراض المعرضين عن تدبر كتابه الكريم فقال: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}[محمد: 24]، فسبب انصراف المنصرفين عن كتاب رب العالمين ما في قلوبهم من الأقفال، فمن وجد في نفسه انصرافاً عن تدبر القرآن، فليعلم أنه مبتلى ابتلاءً عظيماً وليستعن بفالق الإصباح ليزيل ما بقلبه من غشاوة لينعم بضياء القرآن.
ولقد حفظ ابن عمر سورة البقرة في سنين ذوات عدد، إذ كان يقف عند كل آية منها متدبرًا متفكرًا، قال مجاهد بن جبر :"عرضت المصحف علي ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلي خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها"[18] وقال ابن أبي مليكة: "رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، ويقول له ابن عباس: اكتب حتى سأله عن التفسير كله"[19].
وقد كان اهتمام السلف بالقرآن تدبراً وتفسيراً اقتداء منهم بالنبي صلي الله عليه وسلم، الذي كان لا يمر على القرآن إلا متفهماً متدبراً، وقد سمع عليه الصلاة والسلام امرأة ذات ليلة تقرأ {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1]، فقام يستمع ويقول: "نعم قد جاءني"[20].
وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام "كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ"[21].
وقد نبغ في معرفة معاني القرآن من الصحابة جماعةٌ منهم ابنُ عباس، قال الأعمش عن أبي وائل: "استخلف عليٌ عبدَ الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية سورة النور، ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا"[22].
أقسام تدبر القرآن:
1- تدبر مُفصّل؛ بمعنى أن يفهم القاري أو السامع معاني ما يقرأ، ويقف مع عظات القرآن وأحكامه، قال الألوسي في روح المعاني عند قوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب}[ق: 37]، (لذكرى) لتذكرة وعظة لمن كان له قلب واعٍ يدرك الحقائق، فإن الذي لا يعي ولا يفهم بمنزلة العدم[23].
2- تدبر مُجمَل؛ بمعنى استحضار القلب أن ما يقرأ أو يسمع هو كلام الله تعالى العظيم، فلا ينصرف الذهن حينئذ إلى غيره، قال تعالى: {أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق: 37]، قال الألوسي: "أو ألقى السمع وهو شهيد أي أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحي وهو شهيد أي حاضر، على أنه من الشهود بمعني الحضور، والمراد به المتفطن؛ لأن غير المتفطن بمنزلة الغائب"[24].
حق العمل:
والعمل بالقرآن من أهم غايات إنزاله، والحقوق الأخرى تبع لهذا الحق، إذ لا يمكن أن يعمل بالقرآن إلا من تلاه وتدبره وعظّمه، وقد كان السلف يقرؤون القرآن قراءة من وطن نفسه على العمل به، والقيام بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت قول الله تعالى (يا أيها الذين امنوا) فأرعها سمعك، فإنها خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"[25].
ولما نزلت آية الحجاب بادر نساء الصحابة إلى الالتزام بها، ولما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]، قال عمر رضي الله عنه: "انتهينا انتهينا"[26].
ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى حرم الخمر؛ فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع"[27].
فلبث المسلمون زماناً يجدون ريحها في طرق المدينة لكثرة ما أهرقوا منها.
فانظر إلى سرعة استجابتهم للعمل بكتاب الله تعالى، وكذا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، كيف تلقوا الأمر بالقبول؟ وما كان تحويل القبلة إلا امتحانا لهم قال سبحانه: {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبية} [البقرة: 143]
فنجحوا في ذلك الامتحان، فمن حديث البراء: "كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده -أو قال أخواله- من الأنصار، وأنه صلى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلتُه قِبَل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت"[28].
تنبيه:
- حق العمل يعني العمل بالأوامر واجتناب النواهي كذلك، فما عمل بالقرآن من لم يجتنب نواهيه.
- العمل بالقرآن معنى شامل، فالقرآن جاءنا بالعقيدة التي لا يصح اعتقاد غيرها، والشريعة التي لا يصح الاحتكام لسواها، فالعمل بالقرآن ينبغي أن يكون عقيدة وسلوكاً.
- حق العمل بالقرآن إنما يؤدى شيئاً فشيئاً، ويسدد المسلم فيه ويقارب، فالقرآن شامل للحياة كلها عقيدة وعبادة وأخلاقاً ومعاملات وآداباً، وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يعمل به في ذلك كله، قالت عنه عائشة رضي الله عنها :"كان خلقه القرآن"[29] أي يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ويتخلق بأخلاقه، ويتأدب بآدابه.
حق التحاكم إلى القرآن:
وهو ضرب من ضروب العمل بالقرآن، وإنما خُص هنا بالذكر لأهميته ولما تواتر فيه من نصوص دالة على عظمه ومكانته؛ قال الله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة: 50].
فالعجب كل العجب ممن قرأ هذا القرآن وعرَف ما فيه من صدق الأخبار وعدل الأحكام ثم يسعى لغير هذا المنهج المعصوم المحفوظ من التبديل والتحريف المنزل من اللطيف الخبير إلى غيره من المناهج التي وضعها القاصرون عن معرفة أسرار التشريع التي اختص بها الرب جل وعلا؟! فما أكثرَ ما يتناقض هؤلاء فيُحلون اليوم ما حرّموه بالأمس.
والله هو خالق الإنسان، العالم بما يصلحه وما يضره؛ قال الله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14].
ولما كان الله تعالى هو الخالق وحده فهو كذلك الحاكم وحده، ولذا يعرف علماء الأصول الحكم بأنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبًا أو وضعًا، فحكم غير الله تعالى لا يعد في الحقيقة حكمًا؛ قال الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54].
ولقد جاءت الشريعة جامعة لما فيه الخير، قائمة بما يحتاجه الناس في دنياهم وأخراهم، فما أحرى بالمسلم أن يجعل الشريعة إمامه وقائده، ليسعد في الدنيا وينجو في الآخرة؛ قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} [الجاثية: 18].
حق التعظيم والإجلال:
لا أحد ينازع في أن الكلام يشرُف بشرف قائله، فكلما كان القائلُ عظيم القدر كانت كلماته كذلك، ولذا قيل في منثور الأدب: كلامُ الملوك ملوكُ الكلام، فإن كان هذا في حق البشر (ولله المثل الأعلى) فكيف بكلام خالق البشر؟ وإن تعظيم القرآن من تعظيم الله تعالى؛ فمن كان يرجو لله وقارًا عظم كتابه وأجلّه ومجّده، ولقد كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يأخذ المصحف فيضعه في وجهه ويقبله ويبكي ويقول: "كلام ربي كلام ربي"[30].
من صور تعظيم القرآن:
الإنصات عند تلاوته، لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف: 204].