صيام يوم عاشوراء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
فإن من فضل الله ورحمته بعباده أن يسر لهم مواسم خير يستكثرون فيها من الأعمال الصالحة، وخصها بمزيد من الفضل، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟" فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ"، فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ[1].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء - رضي الله عنهما - قالت: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ[2].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان، فلما افترض رمضان قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ"[3].
فهذه الأحاديث الشريفة تدل على أن يوم عاشوراء كان معظَّماً عند أهل الجاهلية، وكذلك اليهود والنصارى كما جاء ذلك في الأحاديث الأخرى، وقد دل حديث ابن عمر السابق أن صيامه كان واجباً أول الإسلام، فلما فُرض رمضان صار صومه مستحباً، والصحابةﮋ كانوا يحرصون على صيامه تنفيذاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يُصوِّمون أبناءهم الصغار تعويداً لهم على أداء العبادات منذ الصغر. كما قال الشاعر:
وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا
عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لليهود: "نَحنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنكُم"؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -والذين معه أولى الناس بالأنبياء السابقين، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68].
فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق بموسى من اليهود، لأن اليهود كفروا به وكفروا بعيسى وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -[4].
روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: صَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ"، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ[5].
وقد استدل بهذا الحديث من ذهب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقل صوم عاشوراء من العاشر إلى التاسع، وأن فضائل صيام عاشوراء صارت لتاسوعاء، كما استدل به جماهير العلماء على استحباب صوم التاسع مع العاشر لتحصل المخالفة لليهود والنصارى بذلك.
ومما ورد في فضل صيامه، ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة- رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ"[6].
وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، وَلَا شَهْرًا إِلَّا هَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي رَمَضَانَ[7].
وينبغي التنبه لأمرين:
الأول: أنه يُسن الإكثار من صيام شهر الله المحرم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ"[8].
الثاني: أنَّ فضل عاشوراء يكون بصيامه للنصوص الواردة في ذلك، وأما ما ذكره بعضهم من فضل التوسعة على الأهل في يوم عاشوراء، واحتجوا على ذلك بحديث "مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَومَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِ سَائِرَ السَّنَةِ". فهذا الحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
سُئل الإمام أحمد بن حنبل عنه فلم يره شيئاً، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وَرَوَوا في حديث موضوع مكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم - "أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَومَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِ سَائِرَ السَّنَةِ". ورواية هذا كله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذب.
ولم يسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشوراء شيئاً من شعائر السرور والفرح أو الحزن والترح، فأهل البدع يوسعون النفقات على العيال ويطبخون الأطعمة الخارجة عن العادة ويتخذونه عيداً، والرافضة يتخذونه مأتماً يقيمون فيه الأحزان والأتراح، وكلا الطائفتين جانبت الصواب، وكذلك لا يُستحب تخصيصه بأي عبادة غير الصيام[9]. اهـ.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_______________________________
[1] برقم 2004 وصحيح مسلم برقم 1130 واللفظ لمسلم.
[2] برقم 1960 وصحيح مسلم برقم 1136.
[3] برقم 1893 وصحيح مسلم برقم 1126.
[4] رياض الصالحين بشرح الشيخ ابن عثيمين (5/305).
[5] برقم 1134.
[6] برقم 1162.
[7] برقم 1132.
[8] برقم 1163.
[9] الفتاوى (25/300-301) بتصرف.