جعفر البرمكي
توفي 187 هـ
هو أبو الفضل جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك بن جامامش بن بشتاسف البرمكي وزير هارون الرشيد وحامل خاتم السلطة. كان أبوه قد أرسله إلى القاضي أبو يوسف لتعليمه وتفقيهه. اشتهر بمكانته من هارون الرشيد وعلو قدره ونفاذ كلمته. عرف بجوده وسخاؤه وبذل إلى جانب سامحة الخلق طلاقة الوجه. وكان من ذوي الفصاحة والمشهورين باللسن والبلاغة.
وعند تراجع نفوذ البرامكة بعد وفاة الخيزران والدة هارون الرشيد، أصدر الرشيد بعد فترة وجيزة من رحيل الخيزران أمرا يقضي بإعفاء جعفر البرمكي من حمل خاتم السلطة، وموجها بذلك أول ضربة إلى عائلة البرامكة للحد من نفوذها.
ورد في “وفيات الأعيان” لابن خلكان:
” أبو الفضل جعفر بن يحيى بن خال بن برمك بن جاماس بن يشتاسف البرمكي وزير هارون الرشيد؛ كان من علو القدر ونفاذ الأمر وبعد الهمة وعظم المحل وجلالة المنزلة عند هارون الرشيد بحالة انفرد بها، ولم يشارك فيها، وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر، وأما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فكان أشهر من أن يذكر، وكان من ذوي الفصاحة والمشهورين باللسن والبلاغة، ويقال: إنه وقع ليلة بحضرة هارون الرشيد زيادة على ألف توقيع، ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه، وكان أبوه ضمه إلى القاضي أبي يوسف الحنفي حتى علمه وفقهه، وذكره ابن القادسي في كتاب أخبار الوزراء.
واعتذر رجل إليه فقال له جعفر: قد أغناك الله بالعذر منا عن الاعتذار إلينا، وأغنانا بالمودة لك عن سوء الظن بك؛ ووقع إلى بعض عماله وقد شكي منه: قد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت.
ومما ينسب إليه من الفطنة أنه بلغه أن الرشيد مغموم لأن منجماً يهودياً زعم أنه يموت في تلك السنة، يعني الرشيد، وأن اليهودي في يده، فركب جعفر إلى الرشيد فرآه شديد الغم، فقال لليهودي: أنت تزعم أن أمير المؤمنين يموت إلى كذا وكذا يوماً؟ قال: نعم، قال: وأنت كم عمرك؟ قال: كذا وكذا، أمداً طويلاً، فقال الرشيد: اقتله حتى تعلم أنه كذب في أمدك كما كذب في أمده، فقتله وذهب ما كان بالرشيد من الغم، وشكره على ذلك، وأمر بصلب اليهودي، فقال أشجع السلمي في ذلك:
سل الراكب الموفي على الجذع هل رأى
لراكبـه نـجـمـاً بـدا غـير أعـور
ولو كان نجم مـخـبـراً عـن مـنـيةٍ
لأخبـره عـن رأسـه الـمـتـحـير
يعـرفـنـا مـوت الإمـام كـأنـــه
يعرفنا أنـبـاء كـسـرى وقـيصـر
أتخبر عن نحـسٍ لـغـيرك شـؤمـه
ونجمك بادي الشر يا شـر مـخـبـر
ومضى دم المنجم هدراً بحمقه.
وكان جعفر من الكرم وسعة العطايا كما هو مشهور، ويقال: إنه لما حج اجتاز في طريقه بالعقيق، وكانت سنة مجدبة، فاعرضته امرأة من بني كلاب وأنشدته:
إني مررت على العقيق وأهله
يشكون من مطر الربيع نزورا
ما ضرهم إذا جعفر جار لهـم
أن لا يكون ربيعهم ممطـورا
فأجزل لها العطاء.
قلت: والبيت الثاني مأخوذ من قول الضاحك بن عقيل الخفاجي من جملة أبيات:
ولو جاورتنا العام سمراء لم نبل
على جدبنا أن لا يصوب ربيع
لله دره، فما أحلى هذه الحشوة وهي قوله على جدبنا، وأهل البيان يسمون هذا النوع حشو اللوزينج. وحكى ابن الصابىء في كتاب الأماثل والأعيان عن إسحاق النديم الموصلي عن إبراهيم بن المهدي قال: خلا جعفر بن يحيى يوماً في داره، وحضر ندماؤه وكنت فيهم، فلبس الحرير وتضمخ بالخلوق وفعل بنا مثله، وأمر بأن يحجب عنه كل أحد إلا عبد الملك بن يحران قهرمانه، فسمع الحاجب عبد الملك دون ابن بحران، وعرف عبد الملك بن صالح الهاشمي مقام جعفر ابن يحيى في داره، فركب إليه، فأرسل الحاجب أن قد حضر عبد الملك فقال: أدخله، وعنده أنه ابن بحران، فما راعتنا إلا دخول عبد الملك بن صالح في سواده ورصافيته، فأربد وجه جعفر، وكان ابن صالح لا يشرب النبيذ، وكان الرشيد دعاه إليه فامتنع، فلما رأى عبد الملكحالة جعفر دعا غلامه فناوله سواده وقلنسوته ووافى باب المجلس الذي كنا فيه، وسلم وقال: أشركونا في أمركم، وافعلوا بنا فعلكم بأنفسكم، فجاءه خادم فألبسه حريرة واستدعى بطعام فأكل وبنبيذ فأتي برطل منه فشربه ثم قال لجعفر: والله ما شربته قبل اليوم، فليخفف عني، فأمر أن يجعل بين يديه باطية يشرب منها ما يشاء. وتضمخ بالخلوق ونادمنا أحسن منادمة، وكان كلما فعل شيئاً من هذا سري عن جعفر، فلما أراد الانصراف قال له جعفر: اذكر حوائجك فإني ما أستطيع مقابلة ما كان منك، قال: إن في قلب أمير المؤمنين موجودة علي فتخرجها من قلبه وتعيد إلى جميل رأيه في، قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده منك، فقال: وعلي أربعة آلاف ألف درهم ديناً، قال: تقضى عنك، وإنها لحاضرة، ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف بك وأدل على حسن ما عنده لك، قال: وإبراهيم ابني أحب أن أرفع قدره بصهر من ولد الخلافة، قال: قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته، قال: وأوثر التنبيه على موضعه برفع لواء على رأسه، قال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر، وخرج عبد الملك ونحن متعجبون من قول جعفر وإقدامه على مثله من غير استئذان فيه، وركبنا من الغد إلى باب الرشيد، ودخل جعفر وقفنا، فما كان بأسرع من أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، ولم يكن بأسرع من خروج إبراهيم والخلع عليه واللواء بين يديه وقد عقد له على العالية بنت الرشيد وحملت إليه ومعها المال إلى منزل عبد الملك بن صالح، خرج جعفر فتقدم إلينا باتباعه إلى منزله، وصرنا معه، فقال: أظن قلوبكم تعلقت بأول أمر عبد الملك فأحببتم على آخره، قلنا: هو كذلك، قال: وقفت بين يدي أمير المؤمنين وعرفته ما كان من أمر عبد الملك من ابتدائه إلى انتهائه، وهو يقول: أحسن أحسن، ثم قال: فما صنعت معه؟ فعرفته ما كان من قولي له، فاستصوبه وأمضاه، وكان ما رأيتم، ثم قال إبراهيم بن المهدي: فو الله ما أدري أيهم أعجب فعلاً: عبد الملك في شربه النبيذ ولباسه ماليس من لبسه وكان رجلاً ذا جد وتعفف ووقار وناموس، أو إقدام جعفر على الرشيد بما أقدم، أو إمضاء الرشيد ما حكم به جعفر عليه.
وحكي أنه كان عنده أبو عبيد الثقفي فقصدته خنفساء، فأمر جعفر بإزلتها، فقال أبو عبيد: دعوها عسى يأتين بقصدها لي خير، فإنهم يزعمون ذلك، فأمر له جعفر بألف دينار وقال: نحقق زعمهم، وأمر بتنحيتها، ثم قصدته ثانياً فأمر له بألف دينار أخرى.
وحكي ابن القادسي في أخبار الوزراء أن جعفراً اشترى جارية بأربعين ألف دينار، فقالت لبائعها: اذكر ما عاهدتني عليه أنك لا تأكل لي ثمناً فبكى مولاها وقال: اشهدوا أنها حرة وقد تزوجتها، فوهب له جعفر المال ولم يأخذ منه شيئاً، وأخبار كرمه كثيرة، وكان أبلغ أهل بيته.
وأول من وزر من آل برمك خالد بن برمك لأبي العباس عبد الله السفاح بعد قتل أبي سلمة حفص الخلال – كما سيأتي في ترجمته في حرف الحاء إن شاء الله تعالى – ولم يزل خالد على وزارته حتى توفي السفاح يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وتولي أخوه أبو جعفر عبد الله المنصور الخلافة في اليوم المذكور، فأقر خالداً على وزارته، فبقي سنة وشهوراً،. وكان أبو أيوب المرياني قد غلب على المنصور فاحتال على خالد بأن ذكر للمنصور تغلب الأكراد على فارس، وأن لا يكفيه أمرها سوى خالد فندبه إليها، فلما بعد خالد عن الحضرة استبد أبو أيوب بالأمر. وكانت وفاة خالد سنة ثلاث وستين ومائة، ذكره ابن القادسي، وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق: ولد خالد في سنة تسعين للهجرة، وتوفي سنة خمس وستين ومائة، والله أعلم.
وكان جعفر متمكناً عند الرشيد، غالباً على أمره، واصلاً منه، وبلغ من علو المرتبة عنده ما لم يبلغه سواه، حتى إن الرشيد اتخذ ثوباً له زيقان، فكان يلبسه هو وجعفر جملة، ولم يكن للرشيد صبر عنه، وكان الرشيد أيضاً شديد المحبة لأخته ابنة المهدي، وهي من أعز النساء عليه، ولا يقدر على مفارقتها، فكان متى غاب أحد من جعفر والعباسة لا يتم له سرور، فقال: يا جعفر، إنه لا يتم لي سرور إلا بك وبالعباسة، وإني سأزوجها منك ليحل لكما أن تجتمعا، ولكن إياكما أن تجتمعا وأنا دونكما، فتزوجها على هذا الشرط.
ثم تغير الرشيد عليه وعلى البرامكة كلهم آخر الأمر ونكبهم وقتل جعفراً واعتقل أخاه الفضل وأباه يحيى إلى أن ماتا – كما سيأتي في ترجمتها إن شاء الله تعالى -.
وقد اختلف أهل التاريخ في سبب تغير الرشيد عليهم: فمنهم من ذهب إلى أن الرشيد لما زوج أخته العباسة من جعفر على الشرط المذكور بقيا مدة على تلك الحالة، ثم اتفق أن أحبت العباسة جعفراً وراودته، فأبى وخاف، فلما أعيتها الحيلة عدلت إلى الخديعة فبعثت إلى عتابة أم جعفر أن أرسليني إلى جعفر كأني جارية من جواريك اللاتي ترسلين إليه، وكانت أمه ترسل إليه كل يوم جمعة جارية بكر عذراء، وكان لا يطأ الجارية حتى يأخذ شيئاً من النبيذ، فأبت عليها أم جعفر، فقالت: لئن لم تفعلي لأذكرن لأخي خاطبتني بكيت وكيت، ولئن اشتملت من ابنك على ولد ليكونن لكم الشرف، وما عسى أخي يفعل لو علم أمرنا؟ فأجابتها أم جعفر وجعلت تعد ابنها أن ستهدي إليه جارية عندها حسناء من هيئتها ومن صفتها كيت وكيت، وهو يطالبها بالعدة المرة بعد المرة، فلما علمت أنه قد اشتاق إليها أرسلت إلى العباسة أن تهيئي الليلة، ففعلت العباسة وأدخلت على جعفر، وكان لم يتثبت صورتها لأنه لم يكن يراها إلا عند الرشيد، وكان لا يرفع طرفه إليها مخافة، فلما قضى منها وطره قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ فقال: وأي بنت ملك أنت؟ فقالت: أنا مولاتك العباسة، فطار السكر من رأسه، وذهب إلى أمه فقال: يا أماه بعتني والله رخيصاً، واشتملت العباسة منه على ولد، ولما ولدته وكلت به غلاماً اسمه رياش، وحاضنة يقال لها برة، ولما خافت ظهور الأمر بعثتهم إلى مكة.
وكان يحيى بن خالد ينظر إلى قصر الرشيد وحرمه، ويغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح معه، حتى ضيق على حرم الرشيد، فشكته زبيدة إلى الرشيد، فقال له: با أبت – وكان يدعوه كذلك – ما لزبيدة تشكوك؟ فقال: أمتهم أنا في حرمك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، قال: فلا تقبل قولها في، وازداد يحيى عليها غلظة وتشديداً، فقالت زبيدة للرشيد مرة أخرى في شكوى يحيى، فقال الرشيد لها: يحيى عندى غير متهم في حرمي، فقالت: فلم لم يحفظ ابنه مما ارتكبه؟ قال: وما هو؟ فخبرته بخبر العباسة، قال: وهل على هذا دليل؟ قالت: وأي دليل أدل من الولد؟ قال: وأين هو؟ قالت: كان هنا، فلما خافت ظهوره وجهت به إلى مكة، قال: وعلم بذا سواك؟ قالت: ليس بالقصر جارية إلا وعلمت به، فسكت عنها، وأظهر إرادة الحج، فخرج له ومعه جعفر، فكتبت العباسة إلى الخادم والداية بالخروج بالصبي إلى اليمن، ووصل الرشيد مكة، فوكل من يثق به بالبحث عن أمر الصبي حتى وجده صحيحاً، فأضمر السوء للبرامكة.
ذكره ابن بدررون في شرح قصيدة ابن عبدون التي رثى بها بني الأفطس والتي أولها:
الدهر يفجع بعد العين بـالأثـر
فما البكاء على الأشباح والصور
أورده عند شرحه لقول ابن عبدون من جملة هذه القصيدة:
وأشرقت جعفراً والفضل يرمقـه
والشيخ يحيى يريق الصارم الذكر
ولأبي نواس أبيات تدل على طرف من الواقعة التي ذكرها ابن بدرون، والأبيات:
ألا قل لأمـين الـل
ه وابن القادة الساسه
إذا ما ناكـث سـر
ك أن تفقده راسـه
فلا تقتله بالـسـيف
وزوجه بعبـاسـه
وذكر غيره أن الرشيد سلم إليه أبا جعفر يحيى بن عبد الله بن الحسين الخارج عليه، وحبسه عنده، فدعا به يحيى إليه وقال له: أتق الله يا جعفر في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك جدي محمد صلى الله عليه وسلم، فو الله ما أحدثت حدثاً، فرق له جعفر وقال: اذهب حيث شئت من البلاد، فقال: إني أخاف أن أوخذ فأرد، فبعث معه من أوصله إلى مأمنه، وبلغ الخبر الرشيد فدعا به وطاوله الحديث وقال: يا جعفر، ما فعل يحيى؟ قال: بحاله، قال: بحياتي، فوجم وأحجم وقال: لا وحياتك، أطلقته حيث علمت أن لا سوء عنده، فقال: نعم الفعل، وما عدوت ما في نفسي، فلما نهض جعفر أتبعه بصره وقال: قتلني الله إن لم أقتلك.
وقيل: سئل سعيد بن سالم عن جناية البرامكة الموجبه لغضب الرشيد فقال: والله ما كان منهم ما يوجب بعض علم الرشيد بهم، ولكن طالت أيامهم وكل طويل مملول، والله لقد استطال الناس الذين هم خير الناس أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما رأوا مثلها عدلاً وأمنا وسعة أموال وفتوح، وأيام عثمان رضى الله عنه حتى قتلوهما، ورأى الرشيد مع ذلك أنس النعمة بهم، وكثرة حمد الناس لهم، ورميهم بآمالهم دونه، والملوك تتنافس بأقل من هذا، فتعنت عليهم، وتجنى وطلب مساويهم، ووقع منهم بعض الإدلال، خاصة جعفر والفضل، دون يحيى، فإنه كان أحكم خبرة وأكثر ممارسة للأمور، ولاذ من أعدائهم بالرشيد، كالفضل بن الربيع وغيره، فستروا المحاسن وأظهروا القبائح، حتى كان ما كان، وكان الرشيد بعد ذلك إذا ذكروا عنده بسوء أنشد يقول:
أقلوا عـلـيهـم لا أبـا لأبـيكـم
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
وقيل: السبب أنه رفعت إلى الرشيد قصة لم يعرف رافعها فيها:
قل لأمين الله فـي أرضـه
ومن إليه الحل والـعـقـد
هذا ابن يحيى قد غدا مالكـاً
مثلك، ما بينـكـمـا حـد
أمرك مـردود إلـى أمـره
وأمـره لـيس لـــه رد
وقد بنى الدار التي ما بنى ال
فرس لها مثلاً ولا الهـنـد
الدر والياقوت حصبـاؤهـا
وتربها العنـبـر والـنـد
ونحن نخـشـى أنـه وارث
ملكك إن غيبك الـلـحـد
ولن يباهي العبـد أربـابـه
إلا إذا ما بطـر الـعـبـد
فلما وقف الرشيد عليها أضمر له السوء. وكان من الأسباب أيضاً ما تعده العامة سيئاً، وهو أقوى الأسباب، ما سمع من يحيى بن خالد وهو يقول، وقد تعلق بأستار الكعبة في حجته: اللهم إن ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك، اللهم إن كنت تعاقبني لذلك فاجعل عقوبتي في الدنيا وإن احاط ذلك بسمعي وبصري ومالي وولدي حتى تبلغ رضاك، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة، فاستجاب له. وقد رثتهم الشعراء بمرات كثيرة وذكرت أيامهم، فما استحسن من مراثيهم قول اشجع السلمي من أبيات:
كأن أيامهم من حسن بهجتهـا
مواسم الحج والأعياد والجمع.
وحكي ابن بدرون أن عليه بنت المهدي قالت للرشيد بعد إيقاعه بالبرامكة: يا سيدي، ما رأيت لك يوم سرور تام منذ قتلت جعفراً، فلأي شيئ قتلته؟ فقال لها: يا حياتي لو علمت أن قميصي يعلم السبب في ذلك لمزقته.
وكان تقل الرشيد لجعفر بموضع يقال له العمر، من أعمال الأنبار، في يوم السبت سلخ المحرم – وقيل: مستهل صفر – سنة سبع وثمانين ومائة. وذكر الطبري في تارخه أن الرشيد لما حج سنة ست وثمانين ومائة، ومعه البرامكة، وقفل راجها من مكة وافق الحيرة في المحرم سنة سبع وثمانين ومائة فأقام في قصر عون العبادي أياما، ثم شخص في السفن حتى نزل العمر الذي بناحية الأنبار، فلما كان ليلة السبت سلخ المحرم أرسل أبا هاشم مسروراًالخادم وعه أبو عصمة حماد بن سالم في جماعة من الجند فأطافوا بجعفر، ودخل عليه سمرور وعنده ابن بختيشوع الطبيب وأبو زكا المغني الأعمى الكلواذاني وهو في لهوه، فاخرجه إخراجا عنيفاً يقوده، حتى أتى به منزل الرشيد فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد بمجيئه، فأمر الرشيد بضرب عنقه واستوفى حديثه هناك.
وقال الواقدي: نزل الرشيد العمر بناحية الأنبار في سنة سبع وثمانين منصرفاً من مكة، وغضب على البرامكة، وقتل جعفرا فيأول يوم من صفر، وصلبه على الجسر ببغداد، وجعل رأسه على الجسر وفي الجانب الآخر جسده. وقال غيره: صلبه على الجسر مستقبل الصراة، رحمه الله تعالى.
وقال السندي بن شاهك: كنت ليلة نائماً في غرفة الشرطة بالجانب الغربي، فرأيت في منامي جعفر بن يحيى واقفا بإزائي، وعليه ثوب مصبوغ بالعصفر، وهوينشد:
كأن لك يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمـر بـمـكة سـارم
بلى نحن كنا أهلـهـا فـأبـادنـا
صروف الليالي والجدود العواثـر
فانتبهت فزعاً، وقصصتها على أحد خواصي فقال: أضغاث أحلام، وليس كل ما يراه الإنسان يجب أن يفسر، وعاودت مضجعي، فلم تنل عيني غمضاً حتى سمعت صيحة الرابطة والشرط وقعقعة لجم البريد ودق باب الغرفة، فامرت بفتحها، فصعد سلام الأبرش الخادم، وكان الرشيد يوجهه في المهمات، فانزعجت وأرعدت مفاصلي، وظننت أنه أمر في بأمر، فجلس إلى جانبي وأعطاني كتاباً ففضضته، وإذا فيه يا سندي، هذا كتابناً بخطنا مختوم بالخاتم الذي في يدنا، وموصله سلام الأبرش، فماذا قرأته فقبل أن تضعه من يدك فامض إلى دار يحيى بن خالد – لا حاطة الله – وسلام معك حتى تقبض عليه، وتوقره حديداً، وتحمله إلى الحبس في مدينة المنصور المعروف بحبس الزنادقة، وتقدم إلى بادام بن عبد الله خليفتك بالمصير إلى الفضل ابنه مع ركوبك إلى دار يحيى، وقبل انتشار الخبر، وأن تفعل به مثل ما تقدم به إليك في يحيى، وأن تحمله أيضاً إلى حبس الزنادقة، ثم بث بعد فراغك من أمر هذين أصحابك في القبض على أولاد يحيى وأولاد إخوته وقراباته. وسرد صورة الإيقاع بهم ابن بدرون أيضاً سرداً فيه فوائد زائدة على هذا المذكور، فأحببت إيراده مختصرا ههنا؛ قال عقيب كلامه المتقدم: ثم دعا السندي بن شاهك فأمره بالمضي إلى بغداد والتوكل بالبرامكة وكتابهم وقراباتهم، وأن يكون ذلك سراً، ففعل السندي ذلك، وكان الرشيد بالأنبار بموضع يقال له العمر، ومعه جعفر، وكان حعفر بمنزله، وقد دعا أبا زكار وجواريه ونصب ال
ستائر وابو زكار يغنيه:
مايريد الـنــاس مـــنـــا
مات ينـام الـنـاس مـنـــا
إنما همهم أن يظهروا ما قد دفنا
ودعا الرشيد ياسراً غلامه وقال: قد انتخبتك لمر لم أر له محمداً ولا عبد الله ولا القاسم، فحقق ظني، واحذر أن تخالف فتهلك، فقال: لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت، فقال: اذهب إلى جعفر بن يحيى وجئني برأسه الساعة، فوجم لا يحير جواباً، فقال له: مالك ويلك؟ قال: الأمر عظيم، وددت أني مت قبل وقتي هذا، فقال: امضى لأمري، فمضى حتى دخل على جعفر وأبو زكار يغنيه:
فلا تبعد فكل فتى سـيأتـي
عليه الموت يطرق أو يغادي
وكـل ذخـيرة لابـد يومـاً
وإن بقيت تصير إلى نـفـاد
ولو فوديت من حدث الليالـي
فديتك بالطريف وبالـتـلاد