كان الأرستقراطيون يتوقعون المديح والشكر والتبجيل
والانحناءات من الفنانين الذين يتلقون منهم المساعدات..
ولكن بتهوفن كان على النقيض من ذلك فلم يقبل أن يلتقي بأحد منهم
إلاَّ كندٍّ مساو على أقل تقدير..
وكانت حياته الأولى قد خلقت منه شخصية قوية الارادة،
عاطفية، مندفعة ثائرة. وقد غمره أهل فينا، لذوقهم الموسيقي الراقي،
بكل وسائل التكريم والرعاية
وعاش أجمل وأسعد أيام حياته.
فكانت موسيقاه تحقق له دخلاً كبيرا مكنه من تشغيل خادم خاص
وشراء حصان وملابس أنيقة.
كما حاول أن يتعلم الرقص الذي كان من ضرورات مجتمع القصور
الذي كان قد أصبح بتهوفن أهم مرتاديه،
بعد أن تأكدت شهرته كأعظم موسيقي في المدينة،
بعد هايدن..
كان يحب إنجلترا،
وفكر كثيراً في السفر للإقامة الدائمة بباريس ..
ولكن جاذبية فينا كانت أقوى،
لما لاقاه فيها من استقرار وسعادة ونجاح..
كانوا يلقبونه بـ "عملاق عازفي البيانو"..
وقام بجولات ناجحة وساحقة ببراج وبرلين ودرسدن ونورنبرج،
ولكنه عاد إلى فينا حيث مركز الإشعاع الفني،
وقمة الحضارة الموسيقية،
وكان أصدقاؤه المقربون في تلك الفترة هم
عائلتا الكونت "لشنوفسكي" و "البرونزفيك".
لازمته عادة المشي طوال حياته فكانت رياضته البدنية
والعقلية على السواء.
وفي جيب معطفه،
كان يحتفظ بورق الموسيقى الذي كان يدون عليه أفكاره أثناء المشي،
وكثيراً ما كان يتوغل في غابات فينا ويجلس إلى جوار جذع شجرة لتدوين أفكاره.
وقد أصبحت تسويداته هذه المرجع الرئيسي لأعظم أعماله،
كما أن دراسة ما دون بها،
أثبت أنها تضمنت أضعاف ما خلفه من تراث موسيقي نادر..
قادته عاطفته وحساسيته المفرطة إلى الوقوع الدائم في الحب،
وكان يحن إلى الزواج والاستقرار ليتخلص من حياة التشرد.
ولم تتحقق له تلك الأمنية ربما لأن أغلب السيدات اللائي تقدم اليهن
كن من طبقة اجتماعية أعلى من طبقته،
ولكن هيمل Hummel عازف البيانو الشهير قال في ذلك:
"إنه يوجد أكثر من مئة سيدة تتمكن من عزف البيانو أحسن مني،
وكل هذا العدد من الفنانات يَتُقْن إلى الاستمتاع بعزف بتهوفن
والتصفيق له بجنون وإعجاب..
ولكن أي واحدة منهن لا يمكن أن تقبل أن تطارحه الغرام..
لأنه لا توجد من تستطيع أن تطارح الغرام لإله خاصة إذا كان هذا الإله أصم..".
في عام 1798 بدأ بتهوفن يشعر بالصمم -
وهو التاريخ الذي حدده بنفسه لبداية الكارثة -
ولم يأخذ هذه الأعراض مأخذ الجد في بادىء الأمر لأنه
ربط بين هذا المرض وما كان يعاني منه من ضعف المعدة والدوزنتاريا.
وبعد ذلك بعامين بدأت الحقيقة تتأكد له..
فأخفى المرض عن جميع الناس،
لأنه شعر بالمهانة والعذاب مع ما كان يشوِّه وجهه
من مرض لازمه منذ طفولته..
وهو آثار لمرض الجدري ..
كتب لصديقه الدكتور فيجلريبون :
"إن أذني تصفر وتؤلمني بشكل دائم ليل نهار،
وإن الله وحده ليعلم ماذا سيصير إليه أمري".
بدأ ينسحب من المجتمعات حتى لا يفتضح أمره .
لم يكن قادراً على الإفصاح للناس
"إنني أصم". وأضاف: "بالنسبة لي،
لا يوجد ترفيه ولا تسلية في المجتمعات الإنسانية،
ولا أستطيع أن أستمتع بحوار شيق أو أن أتبادل أفكاري
وأحاسيسي مع الآخرين..
لا مفر من أن أعيش في منفى..
وبعد قليل،
يتعين علي أن أضع نهاية لحياتي
".. إنه في هذه المرحلة من حياته كتب وصيته الشهيرة التي تفصح
عن أقصى درجات المرارة التي أحس بها والعذاب النفسي الذي عاناه.
إن صراع بتهوفن مع القدر قد بدأ لحظات اليأس هذه ..
وبدلاً من الانتحار..
صارع القدر وأبدع أعظم إنتاجه..
وكان كلما اشتد عليه الصمم..
زاد إمكانية على سماع الأصوات الإلهية التي دونها في موسيقاه.
ولذلك عندما وصل صممه إلى منتهاه..
أبدع أعظم أعمال البشرية على الإطلاق..
إن صراعه مع القدر هذا مر بمراحل متعددة..
حتى وصل إلى مرحلة السكينة والهدوء..
لا إذعانا واستسلاما،
ولكن انتصارا على قوى الضعف البشري والمرض والمهانة..
لقد وصل في انتصاره على القدر إلى حد كتابة نشيد السلام..
الذي دعا فيه إلى قمة الوحدة والحب والإخاء بين البشر.
في سيمفونيته الأولى،
كان كلاسيكيا رشيقا ولم يسمح لآلام أذنيه ولا أوجاعه العاطفية
أن تتدخل في تشكيل وجدان اللحن أو مضمونه.
ولكن سمفونية "البطولة" الثالثة
أصبحت مجالاً رومنتيكيا
خصبا للتعبير الشخصي..
ولتدخل أحاسيسه بغير موضوعية مجردة-
لقد وجد فيها متنفساً للإفصاح عن إعجابه ببطل كان يراه
يعمل لخلاص البشرية ومعاداة الملكية المستبدة..
فأهداها لنابليون،
وعندما كان يهم بإرسالها إليه بباريس،
جاءته الأنباء التي أعلنت خيانة نابليون لمبادئه
وتنصيب نفسه إمبراطورا..
ثار بتهوفن ومزق صفحة الإهداء وكتب بدلا منها
"سيمفونية البطولة.. في ذكرى رجل عظيم"..
وأفصح أن هذا الرجل لا يزال يحيا بجسده، أما روحه فقد ماتت..
إن مبادئه هذه تبلورت في كثير من المواقف منها خطابه إلى صديقه
الأمير "ليشنوفسكي": "أيها الأمير..
إن مكانتك وإمكانياتك، ترجع إلى الحظ .. وإلى الوراثة،
ولكن أنا أختلف، لأن مجدي ينبع من نفسي،
ولا يوجد سوى بتهوفن واحد".
إن سيمفونيته الخامسة هي أول إفصاح عن عبقريته الناضجة.
إنها الرجل الجديد أمام قدره منتصراً بقوة الخير وقوة الإله.
إنها ملحمة تصور رحلة الإنسان من العذاب والمعاناة إلى الحكمة والمعرفة،
ومن الحكمة إلى الشجاعة إلى الأمل..
ثم إلى الحياة الأبدية الخالدة.
كان عام 1808 هو الحد الفاصل الذي أنهى فيه مهنته
كعازف تاريخي نادر للبيانو..
فقد حال صممه،
الذي كان قد وصل إلى مرحلة متأخرة،
دون استمراره في العزف، رغم أنه سراً،
كان قد طلب إضافة وتر لأوتار البيانو ذات الطبقة الموسيقية
الواحدة حتى تزداد القوة،
فيساعده ذلك على سماع نفسه وهو يعزف..
ولكنه واصل عمله كقائد للأوركسترا لتقديم العروض الأولى
لأعماله العظيمة..
التي توجها بالسيمفونية التاسعة (الكورالية).. وقد قال عنها فاجنر:
"إننا ننظر إلى هذا العمل كعلامة تاريخية تحدد عهداً جديداً
في هذا الفن العالمي..
فمن خلاله عاش العالم ظاهرة نادرة قلما يجود التاريخ بمثلها..
في أي زمان أو مكان"..
وقال ناقد آخر هو "سنتيانا":
"إن الله قد خلق العالم حتى يكتب بتهوفن سمفونيته التاسعة"..
إنها وصية الحب والسلام..
(ليحتويكم الحب يا ملايين البشر .. ها هي قبلة لكل العالم)..
يقسم الكثير من النقاد حياة بتهوفن إلى ثلاث مراحل ..
رغم أن ذلك لا يقره آخرون..
فإن المرحلة الأولى
هي التي تتسم فيها أعماله بالطابع الكلاسيكي لهايدن
وموتسرت وهي تبدأ بعام 1795 وتنتهي عام 1803..
وتشهد هذه الفترة ما يقرب من خمسين عملاً موسيقيا تتضمن
العديد من سوناتات البيانو وأهمها "ضوء القمر" و "المؤثرة"
والسيمفونيتان الأولى والثانية..
أما المرحلة الثانية
فتبدأ بعام 1804 حتى 1816 ..
وتتسم بالشاعرية والثورية وبشخصيته الرومنتيكية..
وخلالها كتب سيمفونيته الخامسة وأوبرا
"فيديليو" وافتتاحيات "كوريولان" و"اجمونت"..
أما المرحلة الأخيرة
والتي شملت السنوات العشر الأخيرة من حياته،
فقد تضمنت سيمفونيته التاسعة "والقداس الكبير"
وسوناتاته ورباعياته الوترية الأخيرة.
وهو في هذه المرحلة يرتفع على صراعه الشخصي مع القدر..
وتعبيره عن فرديته وشاعريته وفلسفته.
إنه يتخطى نفسه ويجتازها إلى شعور أعم وأعمق..
إلى وحدة مع الإنسانية ..
وصفاء وسلام وتعانق بين كل البشر..
وعندما رقد بتهوفن على فراش الموت ..
التف حوله "شندلر" و "برويننج" و أخوه "يوهان"..
وكان يقرأ لـ "سكوت" و "أوفيد"..
كما كان في منتهى السعادة من مجلد وصله من أحد أصدقائه
الإنجليز عن مؤلفات لهيندل ..
وفي الثالث والعشرين من مارس عام 1827..
أصبح واضحاً أن النهاية قريبة لا محالة،
فوقع وصيته،
ووافق أصدقاؤه على أن يصلي له قسيس الصلاة الأخيرة..
كان قد مرض بالصفراء في عام 1821 ولكن المرض عندما عاوده هذه المرة..
كان قاتلا..
وفي يوم 24 مارس / آذار وصلته هدية من نبيذ الراين،
علق عليهـــا بقوله: "واأسفاه، لقد وصلت متأخرة "..
ثم قال :"هللوا أيها الأصدقاء، فقد انتهت المهزلة"..
وفقد الوعي حتى يوم 26 مارس / آذار
عندما دوى الرعد ولمع البرق في عاصفة عارمة
. فرفع رأسه وفتح عينيه..
ثم أغمضهما إلى الأبد
..