ن الأساليب السخيفة التي يبثها بعض الغربيين هي أن الذين دخلوا قديمًا الإسلام إنما دخلوا كرهًا واضطهادًا وخوفًا من السيف، ولم يدخلوا طوعًا واختيارًا، ومنهم من أسلم من أجل الدنيا.
وقد تصدىٰ لقمع مثل هذه الشبه علماء أهل السنة والجماعة منهم شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله؛ فإنه في «هداية الحيارىٰ» بيَّن أن محمدًا صلي الله عليه وسلم لم يكره أحدًا علىٰ الدخول في الإسلام، وأن من أسلموا أسلموا طوعًا واختيارًا، وإنما كان صلي الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، أما من سالمه وهادنه فإنه لم يقاتله ما دام مقيمًا علىٰ هدنته ولم ينقض عهده أو يمتنع عن دفع الجزية.
وبرهن على ذلك بأمور؛ منها:
1- إسلام ملك النصارىٰ علىٰ إقليم الحبشة في زمنه صلي الله عليه وسلم لمَّا تبين له أنه رسولالله صلي الله عليه وسلم ، فدخل في دينه وآوىٰ أصحابه ومنعهم من أعدائهم، ولا شك أن من كان ذا ملكٍ لا يكون مُضْطَهَدًا ولا مُكْرَهًا، بل دخل الإسلام طوعًا واختيارًا، وبيَّن أن الذين هم دون هذا المَلِكِ ممن هداهالله من النصارىٰ هم أكثر بأضعاف مضاعفة ممن أَقام علىٰ النصرانية.
2- إسلام مَنْ هو أعلم النصارىٰ بدينهم ممن كان قد تيقن خروج النبي صلي الله عليه وسلم، فقدم المدينة قبل مبعثه، فلما رآه عرف أنه النَّبي الذي بَشَّرَ به المسيحُ، وهذا هو سلمان الفارسي، وذكر ابن القيم قصته بطولها كاملة، ولا شك أن من بلغ في العلم مثل ما بلغ سلمان الفارسي فإنه لا يترك دينه الذي كان عليه وينتقل إلىٰ غيره إلا لأنه الحق، وأن ما عداه باطل.
3- عَزْمُ أحدِ ملوك وعلماء النصارىٰ علىٰ الدخول في الإسلام، وهو «هِرَقْل»؛ فإنه قد عرف واعترف بنبوَّة محمدٍ صلي الله عليه وسلم ، وعزم علىٰ الدخول في الإسلام، فأبىٰ عليه عباد الصليب، وخشي علىٰ ملكه.
4- إسلامُ سيدِ وعالمِ اليهودِ علىٰ الإطلاق وابنِ سيِّدهم باعترافهم وشهادتهم أنفسهم، له بذلك، وهو عبدالله بن سلام، ومن كان في هذه المنزلة والرفعة عند قومه فإنه لا يترك تلكم المكانة التي نالها إلا لما لديه من علمٍ بأن ما جاء به محمد صلي الله عليه وسلم هو الحق، علم ذلك من كتبهم وعلمائهم، وذكر ابن القيم قصة إسلامه، وبيَّن رحمه الله أن مثل هؤلاء وغيرهم ممن أسلموا لم يسلموا رغبة في الدنيا، بل أسلموا في حال حاجة المسلمين وكثرة أعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم، بل إنهم تحملوا معاداة أقربائهم وحرمانهم نفعهم بالمال والبدن، مع قلة ذات أيديهم وضعف شوكة المسلمين، فكان أحدهم يخرج من الدنيا ورغدِ العيش رغبةً في الإسلام لا لرياسةٍ ولا مالٍ، بل ينخلع من الرياسة والمال ويتحمل أذىٰ الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه.
[اعتراف هرقل بنبوة محمد ﷺ]
وكان مَلِكُ الشَّام أحد أكابر علمائهم بالنصرانية (هِرَقْل) قد عرف أنَّه رسولُالله ﷺ حقًّا، وعزم علىٰ الإسلام، فأبىٰ عليه عُبَّادُ الصَّليب، فخافهم علىٰ نفسه، وضنَّ بِمُلْكِهِ مع علمه بأنَّه سَيُنْقَلُ عنه إلىٰ رسولالله ﷺ وأمَّتِهِ، ونحن نسوقُ قصِّتَه.
ففي «الصحيحين» من حديث عبدِاللهبنِ عبَّاسٍ أنَّ أبا سفيان أخبره مِنْ فِيه إلىٰ فِيهِ، قال: انطلقتُ في المُدَّةِ التي كانت بيني وبين رسولالله([1]) ﷺ، قال: فَبَيْنَا أنا بالشَّام إذْ جِيءَ بكتابِ رسولِالله ﷺ إلىٰ هِرَقْلَ، وقد كان دِحْيَةُبنُ خَلِيفَةَ جاء به، فدفعه إلىٰ عظيم بُصْرَىٰ([2])، فدفعه عظيم بُصْرىٰ إلىٰ هِرَقْلَ، فقال هِرَقْلُ: هل هَاهُنَا أحدٌ مِنْ قومِ هذا الرَّجُل([3]) الذي يزعُم أنَّه نبيٌّ؟ قالوا: نعم. قال: فَدُعِيتُ في نَفَرٍ من قريشٍ، فدَخلنا علىٰ هِرَقْل، فأجْلَسَنَا بين يديه، وأجلسوا أصحابي خَلْفِي([4])، فدعا بِتَرْجُمَانِهِ، فقال: قلْ لهم: إني سائلٌ هذا عن الرَّجل الذي يَزْعُمُ أنَّه نبيٌّ، فإنْ كَذَبَنِي فكذِّبوه، فقال أبو سفيان: وَايْمُاللهِ، لولا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عليَّ الكَذِبُ لَكَذَبْتُ([5]).
ثم قال لتَرْجُمَانِه: سَلْهُ كيف حَسَبُه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حَسَبٍ. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكَذِب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: ومَنِ اتَّبعَه؟ أشرافُ الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: لا، بل يزيدون، قال: فهل يرتدُّ أحدٌ منهم عن دينه بعد أن يدخل في سَخْطَةً له؟ قلت: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قلتُ: نعم، قال: فكيف كان قتالُكم إيَّاهُ؟ قال: قلت: تكونُ الحربُ بيننا وبينه سِجَالًا، يُصِيب منَّا ونُصِيب منه، قال: فهل يَغْدِرُ؟ قلت: لا، ونحن منه في مُدَّةٍ ما ندري ما هو صَانِعٌ فيها.
قال: فوالله ما أمْكَنَنِي من كلمة أُدْخِلُ فيها شيئًا غيرَ هذه.
قال: فهل قال هذا القولَ أحدٌ قَبْلَه؟ قلت: لا.
قال لترجمانه: قل له: إنِّي سألتُك عن حَسَبِهِ، فزعمتَ أنَّه فيكم ذو حَسَبٍ، وكذلك الرُّسُل تُبْعَثُ في أحساب قومها([6]).
وسألتك: هل كان في آبائه مَلِكٌ؟ فزعمتَ أنْ لا، فقلتُ: لو كانَ في آبائه مَلِكٌ لقلتُ: رجلٌ يطلب مُلْكَ آبائه.
وسألتُك عن أتْبَاعه أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرُّسل([7]).
وسألتُك: هل كنتم تَتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقد عرفتُ أنَّه لم يكن لِيَدَعَ الكَذِبَ علىٰ النَّاس ثم يذهبَ فيكذبَ علىٰالله Q.
وسألتُك: هل يرتدُّ أحدٌ منهم عن دينه بعد أن يدخله سَخْطَةً له؟ فزعمتَ أن لا، وكذلك الإيمانُ إذا خالطتْ بشاشَتُه القلوبَ([8]).
وسألتُك: هل يزيدونَ أم ينقصونَ؟ فزعمتَ أنَّهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتىٰ يَتِمَّ.
وسألتُك: هل قَاتَلْتُمُوه؟ فزعمتَ أَنكم قاتلتموه فتكون الحربُ بينكم وبينه سِجَالًا([9]) ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرُّسل تُبْتَلَىٰ، ثم تكونُ لها العاقبةُ.
وسألتُك: هل يَغْدِرُ؟ فزعمت أنه لا يَغْدِر، وكذلك الرُّسل لا تَغْدِرُ([10]).
]وسألتُك: هل قال هذا القولَ أحدٌ قبله؟ فزعمت أنْ لا، فقلتُ: لو قال هذا القولَ أحدٌ مِنْ قبله قلتُ: رجل ائتمَّ بقولٍ قيل قَبْلَه.
ثم قال: فَبِمَ يأمرُكم؟
قلتُ: يأمرنا بالصَّلاةِ والزكاةِ والصِّلَة والعَفافِ.
قال: إنْ يكن ما تقولُ حَقًّا إنَّه لنبيٌّ، وقد كنتُ أعلم أنَّه خارجٌ، ولكن لم أكنْ أظنُّه منكم، ولو أعلم أنّي أَخْلُصُ إليه لأَحْبَبْتُ لقاءَه، ولو كنتُ عنده لغَسَلْتُ عن قَدَمَيْهِ، ولَيَبْلُغَنَّ مُلْكُه ما تحتَ قَدَمَيَّ.
ثم دعا بكتاب رسولِالله ﷺ فقرأه، فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ (رسولالله) إلىٰ هِرَقْلَ عظيم الرُّوم([11])، سلامٌ علىٰ من اتَّبَعَ الهدىٰ، أما بعد؛ فإنِّي أدعوك بِدِعَايةِ الإسلام، أسْلِمْ تَسْلَمْ، أَسلمْ يُؤْتِكالله أجرَك مَرَّتَيْنِ، وإن تولَّيْتَ فإنَّ عليك إثم الأَرِيسِيِّيْنَ([12])، و﴿[( ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( 64 ) ) ﴾([13]).
فلما فَرَغَ من قراءة الكتاب ارتفعتِ الأصواتُ عنده، وكَثُرَ اللَّغَطُ، وأُمِرَبنا فَأُخْرِجْنَا... ثم أَذِن هِرَقْلُ لعظماء الرُّوم في دَسْكَرَةٍ له بحِمْصَ، ثم أمر بأبوابها فَغُلِّقت، ثم اطَّلعَ فقال: يا مَعْشَرَ الرُّوم، هل لكم في الفلاح والرُّشْد، وأنْ تَثْبُتَ مملكتُكم([14])، فتُبَايِعُوا هذا النبيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ([15]) إلىٰ الأبواب، فوجدوها قد غُلِّقَتْ، فلما رأىٰ هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وأَيِسَ من الإيمان قال: رُدُّوهم عليَّ، فقال: إنِّي قلتُ مقالتي آنِفًا أختبرُ بها شِدَّتكم علىٰ دينكم، فقد رأيتُ، فسجدوا له ورَضُوا عنه([16]).
فهذا ملك الروم، وكان من علمائهم أيضًا، عرف وأقرَّ أنَّه نبيٌّ، وأنَّه سيملك ما تحت قدميه، وأحبَّ الدُّخولَ في الإسلام، فدعَا قومَه إليه، فولَّوا عنه معرضين، كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرةٌ فَرَّتْ من قَسْوَرَةٍ، فمنعه من الإسلام الخوفُ علىٰ مُلْكِه ورياسته، ومَنَعَ أشْبَاهَ الحمير ما منع الأُممَ قبلَهم.
õõõ
([1])يريد مصالحته مع أهل مكة سنة الحديبية عشرة أعوام إلىٰ أن نقضوا عليه فكان سبب غزوة الفتح.
([2])بُصرىٰ: بضم أوله وإسكان ثانيه وفتح الراء المهملة: مدينة حَوْران بالشام من أعمال دمشق. «معجم ما استعجم» (1/253) «معجم البلدان» (1/522).
([3])دليل علىٰ أن قوم الرجل أعلم به وبما يشينه ويلحق به؛ لقربه منهم.
([4])قيل: إنما أجلسهم خلفه لئلا يستحيوه بالمواجهة إن كَذبَ، وفيه أن خبر الجماعة أوقع في النفوس من خبر الواحد.
([5])دليل علىٰ أن الكذب مذموم مهجور في الجاهلية والإسلام.
([6])لأن ذوي الأحساب أحفظ علىٰ تدنيس أحسابهم بما لا يليق بهم.
([7])الضعفاء هم أتباع الرسل دون أشرافهم؛ لأن صاحب الرياسة والشرف يأبىٰ من انحطاطه لغيره وتسويد غيره عليه برياسة، وأنفسهم تأنف من الاتباع، إلا من هداه الله سبحانه لرشده، والضعفاء ليس عليهم معنىٰ للشيطان من ذلك، فكانوا أقبلَ للاتباع وأطوع للهدىٰ من أولئك، وأعدم لأسباب الأنفة والحسد في الظهور منهم.
([8])أصل البشاشة: اللطف بالرجل وتأنيسه، يقال: بش وبشبش، وهذه الرواية أصح من رواية «بشاشة القلوب». قاله القاضي عياض.
([9])أي مرة لنا ومرة علينا، وأصله أن المُسْتَقِين بالسَّجل يكون لكل واحد منهم سَجل، والسَّجل الدَّلو الملأىٰ ماءً، ويُجمع علىٰ سجال. «النهاية» (1/756- 757) مادة «سجل».
([10]) لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر، بخلاف من طلب الآخرة.
([11])أي الذي تُعَظِّمه الروم، ولم يقل له: إلىٰ ملك الروم، لما تحت هذه الكلمة من المعاني التي لا يستحقها إلا من أوجبها له الإسلام، ولما فيه من التسليم له بالملك لهم، لكنه لم يُخْلِهِ من المَبَرَّة والتكريم بما تقدم من مخاطبته بعظيم الروم تأليفًا وحسن أدب وتليينًا وتأنيسًا علىٰ الإسلام.
([12])اختلفوا علىٰ أقوال؛ أصحها وأشهرها أنهم الفلاحون والزراعون، ومعناه أن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك، ونبه بهؤلاء علىٰ جميع الرعايا؛ لأنهم الأغلب، ولأنهم الأسرع انقيادًا، فإذا أسلم أسلموا، وإذا امتنع امتنعوا.
([13])آل عمران، آية: (64).
([14])لأنهم إن تمادوا علىٰ الكفر كان سببًا لذهاب ملكهم كما عرف هو ذلك من الأخبار السابقة.
([15])حاصوا: أي نفروا، وشبههم بالوحوش لأن نفرتها أشد من نفرة البهائم الإنسية، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لِمُناسبةِ الجهل وعدم الفطنة، بل هم أضل.
([16])رواه البخاري برقم (7) و(2940)، ومسلم برقم (1773)، والتعليقات علىٰ الحديث التي لا إحالة عليها مستفادة من «إكمال المعلم» (6/117- 124) لعياض و«شرح النووي» (12/103 - 111)، و«فتح الباري» (1/45- 60).