من بدائع الأسلوب القرآني المعجز ضرب الأمثال للناس، بقصد إيصال الأفكار المجردة بصورة حسية مرئية، يكون لها من الأثر في النفوس، والتأثير في العقول، ما لا يكون للفكرة المجردة من ذلك.
ومن قبيل هذا الأسلوب المثل القرآني الذي ضربه سبحانه لبيان حقيقة ما يُعبد من دونه، مهما كان هذا المعبود إنساً أو جنًّا، شجراً أو حجراً، صنماً أو وثناً، قوله عز وجل: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} (الحج:73). إنه نداء عام، ونفير بعيد الصدى، يتوجه به سبحانه إلى الناس -كل الناس- مقرراً حقيقة مهمة في هذا الوجود، لا يستقيم أمره إلا بالتسليم لها، ولا تكون سعادته إلا بالأخذ بمستلزماتها، وهي أنه لا معبود ينبغي أن يفرد بالعبادة إلا هو سبحانه، أما ما سواه من الآلهة المدعاة، فهي ليست أكثر من آلهة مزيفة، لا تملك من أمرها شيئاً، فضلاً عن أن تملك لغيرها نفعاً أو ضراً. ثم إن هذا المثل يقرر حقيقة أخرى مفادها: أن هذه الآلهة المزيفة، هي أحقر من أن تقدر على أقل ما خلقه الله وأذله وأصغره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا وتعاضدوا. وليس أدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم: أن هذا الخلق الأقل الأذل (الذباب)، لو اختطف منهم شيئاً، فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه، لم يقدروا على شيء من ذلك، مهما توسلوا من الأسباب، ومهما ملكوا من الوسائل.
شُبِّه عجز الآلهة المعبودة من غير الله بهيئة ناس تعذر عليهم خلق أضعف المخلوقات، وهو الذباب. وإذا عجزت هذه الآلهة المزيفة عن إيجاد أضعف الخلق، وعن دفع أضعف المخلوقات عنها، فكيف تُوسم بالإلهية؟ وكيف يُتوجه إليها بالعبودية؟ وهي -في الحقيقة- لا تملك من أمرها شيئاً، فضلاً عن أن تملك لغيرها نفعاً أو ضراً.
وهذا المثل يعلن على الملأ ضعف الآلهة المدعاة، التي يتخذها الناس من دون الله أوثاناً مودة بينهم. ومن بينها تلك الآلهة التي يستنصر بها أولئك الظالمون، ويركن إليها أولئك الطاغون.
ومن بلاغة هذا المثل القرآني، أنه شبه ضعف هذه الآلهة وهوان أمرها بالذباب، وهو من أضعف المخلوقات بنية، ومن أحقرها شأناً، ومع ذلك فإن خلق الذباب مستحيل، كخلق الجمل والفيل؛ لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة، فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل. ولكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير؛ لأن العجز عن خلقه -كما يقول سيد قطب رحمه الله- يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل! دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير.
ثم إن الآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه، سواء كانت أصناماً أو أوثاناً أو أشخاصاً! وقد اختير الذباب بالذات، وهو ضعيف حقير، وهو في الوقت ذاته يحمل أخطر الأمراض، ويسلب أغلى النفائس: يسلب العيون، والجوارح، وقد يسلب الحياة والأرواح؛ لما يحمله من جراثيم قاتلة. وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز. ولو قال: وإن تسلبهم السباع شيئاً لا يستنقذوه منها، لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف، والسباع لا تسلب شيئاً أعظم مما يسلبه الذباب! ولكنه الأسلوب القرآني العجيب.
ويختتم المثل القرآني ما قرره من حقائق بتقرير خاتمة الحقائق، وهي أن ما سوى الخالق سبحانه ضعيف حقير، لا يملك لنفسه -فضلاً عن غيره- نفعاً ولا ضراً، ولا خلقاً، ولا حياة، ولا نشوراً، {ضعف الطالب والمطلوب}.
وقد تكلم ابن القيم حول هذا المثل بكلام من المناسب ذكره هنا، قال رحمه الله: "حقيق بكل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل؛ فإنه يقطع موارد الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده، وإعدام ما يضره، والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق ذباب، ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه؟ ولا يقدرون على الانتصار من الذباب، إذا سلبهم شيئاً مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذونه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب، الذي هو من أضعف الحيوان، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله تعالى؟".
والمقصد الرئيس الذي يريد أن يقرره هذا المثل القرآني، هو بطلان الشرك بالله، وتجهيل أهله، وتقبيح عقولهم، والشهادة على أن الأمر -بداية ونهاية- إلى الله وحده، وأن جميع المخلوقين لا يملكون لا نفسهم ضراً ولا نفعاً، وبالتالي فلا ينبغي للعاقل أن يعتمد على أحد سوى الله وحده، فهو المقدِّم والمؤخر، والمبدئ والمعيد، والمحيي والمميت، {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} (الأعراف:54).