القول الثالث: أنها تجوز زيارة النساء للقبور، لحديث المرأة: التي مر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: "اتقي الله واصبري". فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمثل مصيبتي. فانصرف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها، فقيل لها: هذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فجاءت إليه تعتذر، فيم يقبل عذرها، وقال:
(إنما الصبر عند الصدمة الأولى) ، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاهدها عند القبر ولم ينهها عن الزيارة، وإنما أمرها أن تتقي الله وتصبر.
ولما ثبت في "صحيح مسلم" من حديث عائشة الطويل، وفيه: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج إلى أهل البقيع في الليل، واستغفر لها ودعا لهم، وأن جبريل أتاه في الليل وأمره، فخرج ـ صلى الله عليه وسلم ـ مختفيًا عن عائشة، وزار ودعا ورجع، ثم أخبرها الخبر، فقالت: ما أقول لهم يا رسول الله؟ قال: "
قولي: السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين..." إلخ.
قالوا: فعلمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعاء زيارة القبور، وتعليمه هذا دليل على الجواز.
ورأيت قولًا رابعا: أن زيارة النساء للقبور سنة كالرجال، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة) ، وهذا عام للرجال والنساء.
ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها، فقال لها عبدالله بن أبي مليكة، أليس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهى عن زيارة القبور؟ قالت: إنه أمر بها بعد ذلك.
وهذا دليل على أنه منسوخ.
والصحيح القول الأول، ويجاب عن أدلة الأقوال الأخرى: بأن الصريح منها غير صحيح، والصحيح غير صريح، فمن ذلك:
أولًا: دعوى النسخ غير صحيحة، لأنها لا تقبل إلا بشرطين:
1- تعذر الجمع بين النصين، والجمع هنا سهل وليس بمتعذر، لأنه يمكن أن يقال: إن الخطاب في قوله:
(كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) للرجال، والعلماء اختلفوا فيما إذا خوطب الرجال بحكم: هل يدخل النساء أو لا؟ وإذا قلنا بالدخول - وهو الصحيح ـ، فإن دخولهن في هذا الخطاب من باب دخول أفراد العام في العموم، وعلى هذا يجوز أن يخصص بعض أفراد العام بحكم يخالف العام، وهنا نقول قد خص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ النساء من هذا الحكم، فأمره بالزيارة للرجال فقط، لأن النساء أخرجن بالتخصيص من هذا العموم بلعن الزائرات، وأيضًا مما يبطل النسخ قوله:
(لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) ، ومن المعلوم أن قوله: "والمتخذين عليها المساجد والسرج"، لا أحد يدعي أنه منسوخ، والحديث واحد، فادعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم، وعلى هذا يكون الحديث محكمًا غير منسوخ.
2- العلم بالتأريخ، وهنا لم نعلم التأريخ، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل: كنت لعنت من زار القبور: بل قال: "كنت نهيتكم"، والنهي دون اللعن.
وأيضًا قوله: "
كنت نهيتكم" خطاب للرجال، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء، فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء، إذًا، فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ.
وثانيًا: وأما الجواب عن حديث المرأة وحديث عائشة،
أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعًا، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئًا عظيمًا لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند قبره، ولهذا أمرها ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تصبر، لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة، فالحديث ليس صريحًا بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحًا، فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح.
وأما حديث عائشة، فإنها قالت للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ماذا أقول؟ فقال: "قولي: السلام عليكم"، فهل المراد أنها تقول ذلك إذا مرت، أو إذا خرجت زائرة؟ فهو محتمل، فليس فيه تصريح بأنها إذا خرجت زائرة، إذا من الممكن أن يراد به إذا مرت بها من غير خروج للزيارة، وإذا كان ليس صريحًا، فلا يعارض الصريح.
وأما فعلها مع أخيها رضي الله عنهما، فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبدالله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقًا، لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور، لكنا ننظر بماذا ستجيبه.
فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عامًا، ولهذا أجابته بالنسخ العام، وقالت: إنه قد أمر بذلك، ونحن وإن كنا نقول: إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم، فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنه روي عنها، أنها قالت:
(لو شهدتك ما زرتك)، وهذا دليل على أنها رضي الله عنها خرجت لتدعو له، لأنها لم تشهد جنازته، لكن هذه الرواية طعن فيها بعض العلماء، وقال: إنها لا تصح عن عائشة رضي الله عنها، لكننا نبقى على الرواية الأولى الصحيحة، إذا ليس فيها دليل على أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نسخه، وإذا فهمت هي، فلا يعارض بقولها قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
* إشكال وجوابه:
في قوله:
"زوارات القبور" ألا يمكن أن يحمل النهي عن تكرار الزيارة لأن "زوارات" صيغة مبالغة.
الجواب: هذا ممكن، لكننا إذا حملناه على ذلك، فإننا أضعنا دلالة المطلق "زائرات".
والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لأن على كثرة الفعل، فـ "زوارات" يعني: النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيرًا، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية، قال تعالى:
{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} [ص: 50]، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف، إذا الباب لا يفتح إلا مرة واحدة، وأيضًا قراءة {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ} [الزمر: 73]، فهي مثلها.
فالراجح تحريم زيارة النساء للمقابر، وأنها من كبائر الذنوب.
وأنظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (343/24). >> ا . ن .
و إذا كان تشييع الجنائز و اتباعها قد نهي عنه للنساء , فمنع الزيارة من باب أولى وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله << ومطلق الاتباع أعظم من مصلحة الزيارة , لأن في ذلك الصلاة عليه التي هي أعظم من مجرد الدعاء , و لأن المقصود بالاتباع الحمل و الدفن , والصلاة فرض على الكفاية , و ليس شيء من الزيارة فرضا على الكفاية ... فإذا كانت النساء منهيات عما جنسه فرض على الكفاية , و مصلحته أعظم إذا قام به الرجال , فما ليس بفرض على أحد أولى >>_ أي أولى بالنهي وهي الزيارة _
السؤال
توفي والد خالتي ، وقد زارت خالتي قبره مرة وتريد أن تزوره مرة أخرى وسمعت حديثاً معناه تحريم زيارة المرأة للقبور ، فهل هذا الحديث صحيح وإذا كان صحيحاً فهل عليها إثم يستوجب الكفارة ؟.
الجواب
الحمد لله
الصحيح أن زيارة النساء للقبور لا تجوز للحديث المذكور وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لعن زائرات القبور فالواجب على النساء ترك زيارة القبور والتي زارت القبر جهلاً منها فلا حرج عليها وعليها أن لا تعود فإن فعلت فعليها التوبة والاستغفار والتوبة تجب ما قبلها . فالزيارة للرجال خاصة ، قال صلى الله عليه وسلم : (
زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ) وكانت الزيارة في أول الأمر ممنوعة على الرجال والنساء لأن المسلمين حدثاء عهد بعبادة الأموات والتعلق بالأموات فمنعوا من زيارة القبور سداً لذريعة الشر وحسماً لمادة الشرك ، فلما استقر الإسلام وعرفوا الإسلام شرع الله لهم زيارة القبور لما فيها من العظة والذكرى من ذكر الموت والآخرة والدعاء للموتى والترحم عليهم ثم منع الله النساء من ذلك في أصح قولي العلماء لأنهن يفتن الرجال وربما فتن في أنفسهن ولقلة صبرهن وكثرة جزعهن فمن رحمة الله وإحسانه إليهن أن حرم عليهن زيارة القبور ، وفي ذلك أيضاً إحسان للرجال لأن اجتماع الجميع عند القبر قد يسبب فتنة فمن رحمة الله أن منعهن من زيارة القبور .
أما الصلاة فلا بأس ، فتصلي النساء على الميت وإنما النهي عن زيارة القبور فليس للمرأة زيارة القبور في أصح قولي العلماء للأحاديث الدالة على منع ذلك . وليس عليها كفارة وإنما عليها التوبة فقط >>.
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله . م/9 ص / 28.
يتبع