إن حلول العام الهجري لَيذكِّرُنا بحادثةِ الهجرة، وهي أعظم ذكرانا الخالدة المجيدة المباركة، تلك الهجرة التي كانتْ مَوْلِد الدولة الإسلامية العظيمة، التي أقامت حضارةً خيِّرة وَارِفَة الظلال، وأنهتْ عهد الظلم والشرك، وأقامت عهد العدالة والتوحيد، وحديث الهجرة حديثٌ يطول، وفيه عظات بالغات، ودروس نافعات.
كانت الهجرة في الثاني عشر من ربيع الأول - على أرجح الأقوال - ولكن الصحابة - رضي الله عنهم - ابتدؤوا العام بالمحرَّم؛ لأنه هو بداية السنة القمرية عندهم؛ ففي السنة السادسة عشرة من الهجرة اختار الخليفة العظيم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الهجرة ليؤرِّخ المسلمون عن قيامها تاريخَهم، لقد كان - رضي الله عنه - الإمام المُلْهَم، والعبقري الفذ، وتَذكُر كتب التاريخ[1] أنه طُرِحَت أمام سيدنا عمر أمير المؤمنين - رضي الله عنه - اقتراحاتٌ متعدِّدة:
• منها أن يؤرِّخوا بتاريخ الفرس.
• ومنها أن يؤرِّخوا بتاريخ الرومان
• ومنها أن يؤرِّخوا من مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم.
• ومنها أن يؤرِّخوا من مبعثه - صلى الله عليه وسلم.
• ومنها أن يؤرِّخوا من وفاته - صلى الله عليه وسلم.
ولكن عمر العظيم استحسن أن يؤرِّخ المسلمون من هجرته - صلى الله عليه وسلم - لعِظَم شأن الهجرة، ووافقه الصحابة - فرضي الله عنه وأرضاه - وارتبط حادث الهجرة بشخصيتنا، وفي نهاية كل عام وبدايته نذكر الهجرة.
ومعلومٌ أن من أبرز مقوِّمات الهُوِيَّة الذاتية للأمة: التقويمَ، أو اللباس وطراز العمران، والتوقيت، وقد ظلَّت أمتُنا محافظةً على هذه المقوِّمات حتى داهمنا الغَزْو الفكري، والاستعمار المعنوي المدمِّر، فبدأ ينتقص من تلك المقوِّمات، يريد أن نذوب في الآخرين، وأن نكون ذيلاً لهم وأتباعًا، ويريد ألاَّ تكون لنا شخصية متميزة.
هذا، وإن الله - تعالى - أراد لنا أن نتميَّزَ عن الآخرين؛ فنهانا عن تقليدهم، وأمَرَنا أن ندْعوَه أن يهدينا طريقًا غير طريق المنحرفين: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6، 7].
ويُؤْلِمُني واقعُ كثيرٍ من المسلمين، الذين تنازلوا في الحقبة الأخيرة عن التأريخ بالتاريخ الهجري، وأصبحوا يؤرِّخون قضاياهم الاجتماعية والسياسية ومعاملاتهم الرسمية بالتاريخ الميلادي.
إن ذكرياتِنا وأمجادَنا كلَّها مسجَّلة بالتقويم الهجري، وإن كثيرًا من أحكام ديننا مرتبطٌ بالتقويم القمري، الذي هو الأساس في التاريخ - كالصيام والحج - ومن الواجب على أهل العلم والرأي بيانُ أهميتِه، والتنبيهُ إلى ضرورة الاعتزاز به؛ لأنه يدل على الأصالة، ويُعِينُ على التميز، وعلى أهل العلم أن يبيِّنوا للناس وجوبَ الاستمرار في المحافظة عليه.
نقل الإمام السخاوي عن العماد الأصبهاني قولَه:
"فليست أمةٌ أو دولة إلا ولها تاريخٌ يرجعون إليه، ويعولون عليه، ينقله خَلَفُها عن سَلَفِها، وحاضرُها عن غابرِها، ولولا ذلك لانقطعت الوصل، وجهلت الدول... وإن التاريخ بالهجرة نسخ كل تاريخ متقدِّم".
والحمد لله رب العالمين