هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة
يعتبر الحج ركنا خامسا من أركان الإسلام ، وهو من العبادات العينية التي يجب القيام بها على كل فرد مسلم بالغ لديه القدرة والاستطاعة، البدنية منها والمادية يقول الله (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) /آل عمران : 97/.
وقد جاء الأمر بالحج بالنص القرآني مطلقا ثم جاءت السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم بالشرح والامتثال الفعلي، والسنة هي الهدي المستقيم الذي أُمرنا باتباعه، واقتفاء أثره، وخير الهدي هدي محمد ! وتكمن حقيقة التعبد في الامتثال والاقتفاء، فكان الأولى شرح هذا الهدي في خطوات عملية، وسياقات مختصرة.
خروجه للحج والعمرة
– اعتمر صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة أربع عمر كلهن في ذي القعدة، أولاهن : عمرة الحديبية، سنة ست، فصده المشركون عن البيت، وحل من إحرامه، ورجع إلى المدينة. الثانية: عمرة القضية في العام المقبل، لأنه قاضى أهل مكة عليها. الثالثة : عمرته من الجعرانة عام الفتح، لما خرج إلى حنين ثم رجع إلى مكة، فاعتمر من الجعرانة داخلا إليها. والرابعة : عمرته التي قرنها مع حجته. ولم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قط في العام أكثر من مرة واحدة.
اللهم زد بيتك هذا تشريفا، وتعظيما، وتكريما، ومهابة
– وحين فرض الحج، بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر.
– ولما عزم على الحج أعلم الناس حوله، وخرج عامدا إلى مكة عام حجة الوداع، وهي حجته الوحيدة في عمره، لست بقين من ذي القعدة سنة عشر نهارا بعد أن ترجل وادهن، ولبس إزاره ورداءه. ثم نزل بذي الحليفة وهو موضع ميقات أهل المدينة ومن حولها، ومن أتى عليها من غير أهلها.
– اغتسل لإحرامه صلى الله عليه وسلم واستخدم فيه أشنان – بمثابة الصابون أو شامبو- وتطيب بالمسك، حتى ظهر أثره على مفارقه ولحيته، ثم صلى الظهر ركعتين قصرا، ولم يرد أنه صلى للإحرام ، وفي هذا دليل على جواز استعمال الطيب عند الإحرام ولا يجوز بعده.
إحرامه صلى الله عليه وسلم ودخوله مكة المكرمة
أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج قارنا، أهل بالحج والعمرة معا، وساق الهدي وهو البدن وقلدها. وأمر الصحابة الذين لم يسق الهدي ممن كان معه بالتمتع بالعمرة مفردة إلى الحج. وخير رسول الله أصحابه بين الانساك الثلاثة: القران – والتمتع – والإفراد.
– وحين أحرم كان رفع صوته بالتلبية حتى سمعها أصحابه، وأمرهم أن يرفعوا أصواتهم بها، ونص تلبيته: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك،”. وسار نحو مكة ولزم تلبيته المذكورة، والناس معه يزيدون فيها وينقصون، وهو يقرهم ولا ينكر عليهم.
– وأكل من صيد الحلال، حمار وحشي جاءه هدية فأكل منه هو وأصحابه، ولم يأكل من صيد المحرم لأنه كالميتة بالنسبة للمحرم.
خطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة، قرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها
– وتوجه في حجه صلى الله عليه وسلم مع جميع زوجاته، وفي هذا جواز حج الزوج بامرأته حج الإسلام بل يستحب ذلك ولا يجب .
– نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى وبات بها، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل من يومه، ونهض إلى مكة، فدخلها نهارا ثم سار حتى دخل المسجد وذلك ضحى. وثبت أنه كان إذا نظر إلى البيت قال: اللهم زد بيتك هذا تشريفا، وتعظيما، وتكريما، ومهابة، وجاءت رواية أخرى بالزيادة.
طوافه صلى الله عليه وسلم حول الكعبة
فلما دخل المسجد عمد إلى البيت، ولم يركع تحية المسجد، فإن تحية المسجد الحرام الطواف، فلما حاذى الحجر الأسود، استلمه ولم يزاحم عليه، ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني، ولم يرفع يديه، ولم يقل نويت بطوافي هذا الأسبوع كذا وكذا، ولا افتتحه بالتكبير.
– واستقبل الحجر الأسود في طوافه، واستلمه، ثم أخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره، ولم يدع عند الباب بدعاء ولا تحت الميزاب، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها، ولا وقت للطواف ذِكرا معينا، لا بفعله ولا بتعليمه بل حفظ عنه بين الركنين: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201]، ورمل في طوافه هذا الثلاثة الأشواط الأول، وكان يسرع في مشيه، ويقارب بين خطاه، واضطبع بردائه، فجعل طرفيه على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود، أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبل المحجن، وهو عصا.
– فلما فرغ من طوافه، جاء إلى خلف المقام فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125]، فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي الكافرون والإخلاص، فلما فرغ من صلاته أقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله، فلما قرب منه. قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] [البقرة 159] أبدأ بما بدأ الله به. وكان – صلى الله عليه وسلم – إذا وصل إلى المروة، رقى عليها، واستقبل البيت، وكبر الله، ووحده، وفعل كما فعل على الصفا، فلما أكمل سعيه عند المروة، أمر كل من لا هدي معه أن يحل حتما.
– وكان يصلي مدة مقامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة، فأقام بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة.
وقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفات
– ففي اليوم الخامس توجه بمن معه من المسلمين إلى منى، فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم، ولم يدخلوا إلى المسجد فأحرموا منه، بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم، فلما وصل إلى منى نزل بها، وصلى بها الظهر والعصر وبات بها، وكان ليلة الجمعة.
يكفن في ثوبيه، ولا يمس بطيب، وأن يغسل بماء، وسدر، ولا يغطى رأسه ولا وجهه
– فلما طلعت الشمس اليوم الثاني سار من منى إلى عرفة وكان من أصحابه الملبي، ومنهم المكبر، وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة بأمره، ثم سار منها حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنة، فخطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة، قرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها، وهي الدماء، والأموال، والأعراض، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه.
– كانت خطبته بعرنة – وعرنة ليست من المواقف – خطبة واحدة فقط ليست فيها جلسة، فلما أتمها أمر بلالا فأذن، ثم أقام الصلاة، فصلى الظهر ركعتين، أسر فيهما بالقراءة، وكان يوم الجمعة، فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة، ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضا، ومعه أهل مكة، وصلوا بصلاته قصرا وجمعا بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع.
– فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقف، فوقف في ذيل الجبل عند الصخرات، واستقبل القبلة، ، وكان على بعيره فأخذ في الدعاء، والتضرع، والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عرنة، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: ” وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف”. واجتهد في دعائه رافعا يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أن خير الدعاء دعاء يوم عرفة.
– وذكر من دعائه – صلى الله عليه وسلم – في الموقف: «اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، وإليك مآبي، ولك ربي تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح» ” ذكره الترمذي.
ومما ذكر أنه كان أكثر دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم عرفة: ” «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير» “.
– وسقط رجل من المسلمين عن راحلته، وهو محرم، فمات، فأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يكفن في ثوبيه، ولا يمس بطيب، وأن يغسل بماء، وسدر، ولا يغطى رأسه ولا وجهه، وأخبر أن الله تعالى يبعثه يوم القيامة يلبي.
– فلما غربت الشمس، أفاض من عرفة، وأردف أسامة بن زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وهو يقول: ” «أيها الناس عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع» ” أي: ليس بالإسراع. وكان يلبي في مسيره ذلك، لم يقطع التلبية.
خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا
– ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصلاة، ثم أمر بالأذان، فأذن ثم أقام فصلى المغرب ثم صلى عشاء الآخرة بإقامة بلا أذان، ولم يصل بينهما شيئا. ثم نام حتى أصبح، ولم يحي تلك الليلة، ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء. وأذن في تلك الليلة لضعفة أهله أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر، وكان ذلك عند غيبوبة القمر، وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس.
يوم الحج الأكير، يوم العيد
فلما طلع الفجر، صلاها في أول الوقت لا قبله قطعا بأذان وإقامة يوم النحر، وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله، من كل مشرك.
– ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، وأخذ في الدعاء والتضرع، والتكبير، والتهليل، والذكر حتى أسفر جدا، وذلك قبل طلوع الشمس.
– ثم رجع إلى منى، فخطب الناس خطبة بليغة أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر، وتحريمه، وفضله عند الله، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمرهم بالسمع، والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه، وقال: ” «لعلي لا أحج بعد عامي هذا» “. وودع حينئذ الناس، فقالوا: حجة الوداع.
– ثم أتى جمرة العقبة، وفي طريقه ذلك أمر ابن عباس أن يلقط له حصى الجمار، سبع حصيات، مثل حصى الخذف ، ولم يكسرها من الجبل، ولا التقطها بالليل، واستقبل الجمرة، وهو على راحلته فرماها راكبا بعد طلوع الشمس، واحدة بعد واحدة، يكبر مع كل حصاة، وحينئذ قطع التلبية. وكان في مسيره ذلك يلبي حتى شرع في الرمي.
نحر الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بدنة بيده، وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى. وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره
– ثم انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى. وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره ثم أمسك وأمر عليا أن ينحر ما غبر من المائة، ثم أمر عليا – رضي الله عنه – بالتصدق بها. فلما أكمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نحره استدعى بالحلاق فحلق رأسه، ودعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثا، وللمقصرين مرة، وحلق كثير من الصحابة، بل أكثرهم وقصر بعضهم.
– ثم أفاض – صلى الله عليه وسلم – إلى مكة قبل الظهر راكبا، فطاف طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة وهو طواف الصدر، ولم يطف غيره، ولم يسع معه، وهو ما رجحه ابن القيم.
ثم أتى زمزم بعد أن قضى طوافه وهم يسقون فقال: ” «لولا أن يغلبكم الناس لنزلت فسقيت معكم» “، ثم ناولوه الدلو فشرب وهو قائم.
مبيته صلى الله عليه وسلم بمنى أيام التشريق
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى من يومه ذلك، فبات بها، فلما أصبح انتظر زوال الشمس، فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، فرماها بسبع حصيات، واحدة بعد واحدة، يكبر مع كل حصاة، ثم تقدم على الجمرة أمامها حتى أسهل، فقام مستقبل القبلة، ثم رفع يديه ودعا دعاء طويلا بقدر سورة البقرة. ثم أتى إلى الجمرة الوسطى، فرماها كذلك، ثم وقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو قريبا من وقوفه الأول.
– ثم أتى الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة، فاستبطن الوادي واستعرض الجمرة، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، فرماها بسبع حصيات كذلك. فلما أكمل الرمي رجع من فوره، ولم يقف عندها.
– ولم يتعجل صلى الله عليه وسلم في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، وأفاض يوم الثلاثاء بعد الظهر ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلا سحرا، ولم يرمل في هذا الطواف.