لما كان العقل البشري لا يتمكن من عبادة الله تعالى على الوجه الذي يرضاه ويحبه، وكذلك لا يستطيع التنظيم والتشريع المناسب للأمة على اختلاف طبقاتها؛ إذ لا يحيط بذلك إلا الله وحده؛ كان من حكمة الله ورحمته أن أرسل الرسل وأنزل الكتب لإصلاح الخلق وإقامة الحجة عليهم، قال تعالى: {رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
فحكمة إرسال الرسل تتلخص في..
الأول: إقامة الحجة على الخلق، حتى لا يحتج أحد على الله فيقول {لَوْلا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونَخْزَى} [طه:134]، لقد قطع الله هذه الحجة من أساسها بإرسال الرسل وتأييدهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم، وصحة نبوتهم وسلامة طريقتهم.
الثاني: توجيه الناس وإرشادهم لما فيه الخير والصلاح لهم في دينهم ودنياهم؛ فإن الناس مهما أوتوا من الفهم والعقل والذكاء لا يمكنهم أن تستقل عقولهم بالتنظيم العام المصلح للأمة بأكملها، كأمة متماسكة متكافئة متساوية في إعطاء ذي الحق حقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفَرَاش -وهي الدواب التي تقع في النار- يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها» (رواه البخاري)، فالرسل يذودون الناس عما يضرهم ويدعونهم إلى ما ينفعهم.
الثالث: جمع الأمة على دين واحد ورجل واحد، فإن انقياد الناس لما يشاهدونه من الآيات المؤيدة للأنبياء أسرع وأقوى وأشد تماسكاً؛ فإنهم يجتمعون عليه عن عقيدة راسخة وإيمان ثابت فيحصل الصلاح والإصلاح، تأييد الرسل بالآيات وكوْنها من جنس ما شاع في عصرهم: لو جاء رجل من بيننا وقال إنه نبي يُوحَى إليه، وأن طاعته فرض، وأن من عصاه فله النار، ومن أطاعه فله الجنة، ثم نظم قوانين، وسن سنناً، وقال امشوا على هذه النظم، وإلا فلكم النار؛ ما كان أحد ليقبل منه مهما بلغ في الصدق والأمانة حتى يأتي ببرهان يدل على صدقه، فلو رد أحد دعوة هذا المدعي الذي لم يأتِ ببرهان على صدقه ما كان ملوماً، فالقضية التي تسلم بها العقول أن المدعي عليه البينة وإلا فلا يجب قبول مدَّعاه.
وإتماماً لإقامة الحجة بالرسل على الخلق أيد الله رسله بالآيات المبينات الدالة على صدقهم، وأنهم رسل الله حقاً، فاصطفى الله للرسالة من الناس من يعلم أنه أهل للرسالة وكفؤ لها، ومستطيع للقيام بأعبائها، والصبر على مكائد أعدائها {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75]، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، فاصطفى الرجال الكُمَّل الأقوياء أهل الحضارة واللين والفهم {ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القُرَى} [يوسف:109]، أي: أهل المدن، فإن القرية هي المدينة كما سمى الله مكة قرية {وكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد:13]، وسماها أم القرى {لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى ومَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92].
وما بعث الله رسولاً إلا أيده بالآيات على صدق رسالته وصحة دعواه، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد:25]، أي بالآيات البينات الواضحات التي لا تدع مجالاً للشك في صدق ما جاء به الرسول المرسل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أُعطي من كل الآيات ما آمن على مثله البشر» (رواه البخاري، ومسلم)، وهذا من حكمة الله العليا ورحمته بعباده أن أيد الرسل بالآيات؛ لئلا يبقى أمرهم مشكلاً؛ فيقع الناس في الحيرة والشك ولا يطمئنون إلى ما جاءوا به، وهذه الآيات التي جاء بها الرسل لا بد أن تكون خارجة عن طوق البشر؛ إذ لو كانت في استطاعتهم ما صح أن تكون آية لإمكان البشر أن يدَّعي الرسالة، ويأتي بها إذا كانت تحت قدرته، ولكن آيات الرسل لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها وقد جاءت كبريات الآيات من جنس ما برز به أهل العصر الذي بعث فيه ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قرر ذلك أهل العلم..
واستشهدوا على ذلك بآيات موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فإن عهد موسى ترقَّى فيه السحر حتى بلغ السحرة الغاية في المهارة والحذق؛ فكان من أكبر الآيات التي جاء بها موسى ما يربو على فعل السحرة، وهو يشبه في ظاهره السحر وإن كان يختلف اختلافاً كبيراً؛ لأن ما جاء به موسى حقيقة ما يراه الناظر، بخلاف السحر فإنه يخيَّل للناظر وليست حقيقته كما يراه، فكان من الآيات التي جاء بها موسى عصاه التي يلقيها فتكون حية ثعباناً، ويأخذها فتعود في يده عصاه الأولى، وقد ألقاها عند فرعون حين دعاه إلى الإيمان بالله، وكذلك كان موسى يُدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، أي من غير عيب وبرص، وقد أخرجها كذلك عند فرعون حين دعاه إلى الإيمان بالله، فلما رأى فرعون هاتين الآيتين كابر وقال للملأ حوله: {إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ . يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف:109-110].
وقد ألقى موسى عصاه كذلك عندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم في المجتمع العظيم، الذي قرره موسى حسب طلب فرعون أن يجعل بينه وبينه موعدًا ليغالبه في سحره -كما زعم-، فلما اجتمع السحرة وألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون؛ فجاءوا بسحر عظيم حتى كانت تلك الحبال والعصي يخيل إلى رائيها أنها تسعى؛ ألقى موسى عصاه بأمر الله تعالى فإذا هي تلقف ما يأفكون، فتلْتهم هذه الحبال والعصي عن آخرها، فعلم السحرة وهم أهل السحر وأعلم الناس به أن ما جاء به موسى ليس بسحر، وإنما هو من الأمور التي لا يمكن للبشر معارضتها {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ . قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وهَرُونَ} [الشعراء:46-48]، وكذلك كان لهذه العصا مجال آخر حينما كان موسى يستسقي لقومه، فيضرب بها الحجر فيتفجر منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائل بني إسرائيل، وكان لها مجال آخر أيضاً حينما وصل موسى وقومه إلى البحر وخلفهم فرعون بجنوده، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق اثني عشر طريقًا فسلكه موسى وقومه فنجوا.
وفي زمن عيسى عليه الصلاة والسلام كان علم الطب مترقياً إلى حد كبير؛ فجاءت آياته بشكل ما كان مترقياً في عهده من الطب، إلا أنه أتى بأمر لا يستطيع الطب مثله، فكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فتكون طيراً بإذن الله، والناس يشاهدون ذلك، وكان أيضاً يبرىء الأكمه وهو الذي خُلق أعمى ويبرىء الأبرص بإذن الله تعالى، وهذان المرضان من الأمراض التي لا يستطيع الأطباء في ذلك الوقت، وإلى هذا الوقت فيما أعلم أن يبرئوهما، بل قال بعض العلماء: "إنه إنما سمي المسيح؛ لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برِىء"، وذكر في القرآن أن عيسى يحيي الموتى بإذن الله، وفى آية أخرى يُخرج الموتى، وهذان عملان مختلفان؛ العمل الأول إحياء الموتى قبل دفنهم، والثاني إحياؤهم وإخراجهم من قبورهم بعد الدفن، ولا ريب أن هذه الآيات التي أُعطيها عيسى عليه الصلاة والسلام يعجز عن مثلها البشر؛ فتأييده بها دليل وبرهان على أنه رسول من الله الخالق القادر عليها.
وقد يؤيد الله الرسل بآيات أخرى، ولكن أبرز الآيات وأعظمها يكون من جنس ما شاع في عصر الرسول؛ ولذا أيد الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بآيات كثيرة، أبرزها وأعظمها هذا القرآن الكريم، الذي هو كلام رب العالمين، {لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصلت:42]؛ لأنه شاع في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فن البلاغة والفصاحة، وصار البيان والفصاحة معترك الفخر والسيادة كما يعلم ذلك من تتبع التاريخ.
معجزات الأنبياء:
معجزات الأنبياء هي الآيات التي أعجزوا بها البشر أن يأتوا بمثلها، والله تعالى يسميها آيات، أي علامات دالة على صدق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فيما جاءوا به من الرسالة، والمعجزة في اصطلاح العلماء: "أمر خارق للعادة، -أي جارٍ على خلاف العادة الكونية التي أجراها الله تعالى في الكون-، سالم عن المعارضة، يُظهره الله تعالى على يد الرسول تأييداً له"، مثل انشقاق القمر، ونبع الماء من أصابع يد النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما سيمر بك.
فالأمر الجاري على وفق العادة لا يسمى معجزة، كما لو قال قائل: أريكم معجزة أن لا يمضي ساعة حتى تطلع الشمس، وكان ذلك قبل طلوع الشمس بأقل من ساعة، فإن الشمس إذا طلعت في زمن طلوعها لا يعد طلوعها معجزة لهذا القائل؛ لأن طلوعها في وقته على وفق العادة وليس خارقاً للعادة، وإذا كان الشيء الخارق للعادة غير سالم من المعارضة فلا يسمى معجزة، مثل الأمور التي تقع من السحرة والمشعوذين ونحوهم؛ لأن الأمور التي يأتون بها يمكن معارضتها بفعل ساحر أو مشعوذ آخر، وإذا كان الشيء الخارق للعادة جارياً على يد ولي من الأولياء فلا يسمى معجزة اصطلاحاً، وإنما يسمى كرامة، ولكن هذه الكرامة الحاصلة للولي هي في الواقع معجزة للرسول الذي كان الولي متبعًا له؛ إذ الكرامة دليل على صحة طريقة ذلك الولي.
فوائد آيات الأنبياء ومعجزاتهم:
إن الآيات التي جاء بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذات فوائد كثيرة، نلم منها بما يلي:
1- بيان قدرة الله تعالى: فإن هذه الآيات لا بد أن تكون أمورًا خارقة للعادة، كشاهد دليل على صحة ما جاء به الرسل، وإذا كانت خارقة للعادة كانت دليلاً على قدرة الخالق، وأنه قادر على تغيير مجرى العادة التي كان الناس يألفونها، ولذا تجد المرء يندهش عند هذه الآيات ولا يمكنه إلا أن يصدق برسالة الرسول الذي جاء بها حيث جاء بما لا يقدر عليه أحد سوى الله عز وجل.
2- بيان رحمة الله بعباده: فإن هذه الآيات التي يرونها مؤيدة للرسل تزيد إيمانهم وطُمأنينتهم لصحة الرسالة، ومن ثم يزداد يقينهم وثوابهم ولا يحصل لهم حيرة ولا شك ولا ارتباك.
3- بيان حكمة الله البالغة: حيث لم يرسل رسولاً فيدعه هملاً من غير أن يؤيده بما يدل على صدقه، وإن المرء لو أرسل شخصاً بأمر مهم من غير أن يصحبه بدليل أو أَمارة على صحة إرساله إياه لعُدّ ذلك سفهاً وموقفاً سلبياً من هذا الرسول، فكيف برسالة عظيمة من أحكم الحاكمين؟! إنها لا بد أن تكون مؤيدة بالبراهين والآيات البينات.
4- رحمة الله بالرسول الذي أرسله الخالق: حيث ييسر قبول رسالته بما يجريه على يديه من الآيات؛ ليتسنى إقناع الخلق بطريقة لا يستطيعون معارضتها ولا يمكنهم ردها إلا جحوداً وعناداً؛ قال الله تعالى {..فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ..}، أي لما يرون من الآيات الدالة على صدقك: {ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
5- إقامة الحجة على الخلق: فإن الرسول لو أتى بدون آية دالة على صدقه لكان للناس حجة في رد قوله وعدم الإيمان به، فإذا جاء بالآيات المقنعة الدالة على رسالته لم يكن للناس أي حجة في رد قوله، بيان أن هذا الكون خاضع لقدرة الله وتدبيره، ولو كان مدبراً لنفسه، أو طبيعة تتفاعل مقوماتها وتظهر من ذلك نتائجها وآثارها لما تغيرت فجأة، واختلفت عادة بمجرد دعوى شخص لتؤيده بما ادعاه، فانظرْ إلى الأكوان الفلكية التي لا تتغير بعوامل الزمن إلا بإرادة الله، ولقد أجراها الله تعالى كما قدر لها أن تجري منذ خلقها الله حتى يأذن بانتهائها.
آيات النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح): "والآيات والبراهين الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة، وهى أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويسميها من يسميها من النظار (معجزات)، وتسمى (دلائل النبوة) و(أعلام النبوة) ونحو ذلك، وهذه الألفاظ التي سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على المقصد من لفظ المعجزات؛ ولهذا لم يكن لفظ المعجزات موجوداً في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ الآية والبينة والبرهان".
قال رحمه الله:
"والآيات نوعان: منها ما مضى وصار معلومًا بالخبر، ومنها ما هو باقٍ إلى اليوم كالقرآن والإيمان والعلم اللذيْن في أتباعه، وكشريعته التي جاء بها..".
ومن هذه الآيات:
1- القرآن الكريم وهو أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الآية السابقة الباقية، فمنذ أوحى الله إليه به حتى اليوم وهو آية شاهدة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن كلام الله تعالى لفظاً ومعنى، تكلم الله به نفسه كلاماً حقيقياً؛ فأوحاه إلى جبريل، ثم نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فوعاه وحفظه، وتكفل الله له بحفظه؛ حيث قال: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ . فَإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ . ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:17-19]، وإذا كان الله قد تكفل ببيانه؛ فمعناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيحفظه ويعيه حتى يبلغه للناس ويبينه لهم، قال تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
والقرآن آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدقه من عدة أوجه..
الأول: عجز الخلق كلهم أن يأتوا مجتمعين أو منفردين بمثل هذا القرآن؛ قال الله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ والْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]، يعني لا يمكن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم معيناً لبعض؛ وذلك لأن القرآن كلام الله ولا يمكن أن يماثله شيء من كلام المخلوقين، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، ولا من حيث التأثير، ولا من حيث الثمرة والآثار الحميدة.
الثاني: من حيث اللفظ في قوته ورصانته وتركيبه وأسلوبه ونظمه وبيانه، ووضوحه وشموله للمعاني العديدة الواسعة، التي لا تزال تظهر عند التأمل والتفكير، حتى إنك لتسمع الآية التي ما تزال تقرؤها فينقدح لك منها معنى جديد كأنك لم تسمع الآية من قبل، وكأن الآية نزلت لتوّها من أجله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"نفس نظْم القرآن وأسلوبه عجيب بديع، ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة، ولم يأتِ أحد بنظير هذا الأسلوب، فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الرسائل ولا الخطابة، ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم، ونفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة ليس له نظير في كلام جميع الخلق".
وقال الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه (
الوحي المحمدي): "إن القرآن لو أُنزل بأساليب الكتب المألوفة المعهودة وترتيبها لفقد بهذا الترتيب أخص مراتب إعجازه المقصود بالدرجة الثانية"، وقال: "لو كان القرآن مرتباً مبوباً كما ذكر لكان خالياً من أعظم مزاياه شكلاً وموضوعاً، يعلم هذا وذاك مما نبينه من فوائد نظمه وأسلوبه الذي أنزله به رب العالمين العليم الحكيم الرحيم، وهو مزج تلك المقاصد كلها بعضها ببعض، وتفريقها في سوره الكثيرة الطويلة منها والقصيرة بالمناسبات المختلفة، وتكرارها بالعبارات البليغة المؤثرة في القلوب المحركة للشعور المنافية للسآمة والمَلَل.. -إلى أن قال-: والقابلة لأنواع أخرى من الإلقاء الخطابي في الترغيب والترهيب والتعجب والتعجيب، والتكريه والتحبيب والزجر والتأنيب، واستفهام الإنكار والتقرير، والتهكم والتوبيخ بما لا نظير له في كلام البشر من خطابة ولا شعر، ولا رجز ولا سجع، فبهذا الأسلوب الرفيع في النظم البديع، وبلاغة التعبير الرفيع كان القرآن كما ورد في معنى وصفه، لا تبلى جدته ولا تخلقه كثرة الترديد" (اهـ).
الوجه الثالث من إعجاز القرآن:
من حيث أهدافه العالمية وآدابه الكاملة وتشريعاته المُصلحة، فقد جاء بإصلاح العقيدة من الإيمان بالله وبما له من الأسماء والصفات والأفعال، والإيمان بجميع ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره وما يتعلق بذلك، وجاء بإخلاص العبادة لله وتحرير الفكر والعقل والشعور من عبادة غير الله والتعلق به خوفاً ورجاءً ومحبة وتعظيماً، وجاء بالآداب الكاملة التي يشهد بكمالها وصلاحها وإصلاحها كل عقل سليم أمر بالبر والصلة، والصدق والعدل، والرحمة والإحسان، ونهي عن كل ما يخالف ويناقض من الظلم والبغي والعدوان.
أما تشريعاته فناهيك بها من نظم مصلحة للعباد والبلاد في المعاش والمعاد، وإصلاحاً في العبادة، وإصلاحاً في المعاملة في الأحوال الشخصية والاجتماعية والاقتصادية، والفردية والكمالية، فيما لو اجتمع الخلق كلهم على سنّ نظم تماثلها أو تقاربها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
الوجه الرابع من إعجاز القرآن:
قوة تأثيره في النفوس والقلب؛ فإنه ينفذ إلى القلب نفوذ السهم في الرمية، ويسيطر على العقول سيطرة الشمس على أفق الظلام، كما شهد بذلك المُوالي والمعادي، حتى إن الرجل العادي فضلاً عن المتعلم لَيسمع القرآن فيجد من نفسه جاذبية عظيمة تجذبه إليه قسراً، يعرف أن ليس هذا من كلام البشر، وقصة سماع الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة له معروفة في السيرة، ولقد كان بعض الكبراء من قريش يأتون ليلاً خفية يستمعون إلى تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، كما جرى ذلك لأبي جهل وأبي سفيان وغيرهما..، وهذه القصص وأمثالها تدل دلالة ظاهرة على تأثير القرآن في النفوس، وأخْذه بمجامع القلوب، ولكن هذا التأثير قد لا يظهر لكل أحد، إنما يظهر لمَن كان له ذوق ومعرفة بأساليب الكلام وبلاغة اللسان.
ومن يكُ ذا فم مر مريض *** يجد مُراً به الماء الزُّلالا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بعد أن ذكر أنواعاً من إعجاز القرآن:
"وهذه الأمور مَن ظهرت له من أهل العلم والمعرفة ظهر له إعجازه من هذا الوجه، ومن لم يظهر له ذلك اكتفى بالأمر الظاهر الذي يظهر له ولأمثاله كعجز جميع الخلق عن الإتيان بمثله، مع تحدي النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره بعجزهم فإن هذا أمر ظاهر لكل أحد".
الوجه الخامس من إعجاز القرآن:
تلك الآثار الجليلة التي حصلت لأمة القرآن باتباعه والعمل بأهدافه السامية وتعاليمه الرشيدة، فقد ارتقى بأمة القرآن التي اعتنت به لفظاً وفهماً وتطبيقاً، ارتقى بها إلى أوج العُلى في العبادة والآداب والكرامة والعزة، لقد عرف سلف هذه الأمة قيمة هذا القرآن الكريم فكانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل؛ فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعاً، فسادوا جميع العالم، وصارت لهم العزة والغلبة والظهور والتمكين في الأرض والعلوم النافعة، مع أنهم كانوا قبل ذلك متفرقين ضالين أُميين مغلوبين بين الأمم، ولن يعود لأمة القرآن ذلك العز والظهور والغلبة حتى يرجعوا إلى المَعين الذي روي به أسلافهم، فيأخذوا منه صافيًا من غير كدر، لن يعود لهم ذلك حتى يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتفهموها ويطبقوها، اعتقاداً وقولاً وعملاً فعلاً وكيفاً، مؤمنين بذلك، معتقدين أن هذا هو طريق الصلاح والإصلاح والسلامة.
وإن من المؤسف حقاً أن ترى الكثير من المسلمين اليوم لا يلتفتون إلى الكتاب والسنة ولا يتفهمونها، بل أكثرهم لا يقرأ من القرآن في عامه كله إلا ما يقرؤه في صلاته، هذا مع قلة تفهم في اللغة العربية وآدابها وأساليبها، وليس عندهم ذوق لُغوي شرعي لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنا لنرجو من الله تعالى أن يهيئ لأمة القرآن من أمرها رشداً، وأن يبعث لها قادة فكر وسياسة لما فيه الخير والصلاح والرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح؛ فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
2- ومن آيات النبي صلى الله عليه وسلم ما أظهره الله شاهداً على صدقه من الآيات الأفقية؛ كما قال تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، ولذلك أمثلة، المثال الأول: (
انشقاق القمر) فقد انشق القمر وصار فرقتين، وشاهد الناس ذلك وقد أشار الله إلى ذلك في القرآن؛ قال الله تعالى: {
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ القَمَرُ . وإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ . وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} [القمر:1-3]، وقد أجمع العلماء على وقوع ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وقد رآه الناس بمكة وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه:
«اشهدوا اشهدوا»، وقدِم المسافرون من كل وجه فأخبروا أنهم رأوه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وجعل الآية في انشقاق القمر دون الشمس وسائر الكواكب؛ لأنه أقرب إلى الأرض من الشمس والنجوم، وكان الانشقاق فيه دون سائر أجزاء الفلك؛ إذ هو للجسم المستنير الذي يظهر الانشقاق فيه لكل من يراه ظهوراً لا يُتمارى فيه، وأنه إذا قبِل الانشقاق فقبول محله أَوْلى بذلك، وقد عاينه الناس وشاهدوه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة في المجامع الكبار مثل صلاة العيدين، كل الناس يقر بذلك ولا ينكره ولو لم يكن قد انشق لأسرع الناس إلى تكذيب ذلك" (اهـ).
وقد استبعد أُناس وقوع انشقاق القمر وحاولوا تحريف معنى القرآن في ذلك، وقد أخطأوا خطًأ كبيرًا في هذا الإنكار؛ فالقرآن لا يتحمل المعنى الذي حرفوه إليه، والنصوص الثابتة الكثيرة من الأحاديث صريحة في انشقاقه انشقاقاً حسياً مشهودًا، ولا يقدح في ذلك ما زعمه بعضهم من كونه لم يُنقل في تاريخ غير التاريخ الإسلامي، فإن نقله في التاريخ الإسلامي كافٍ في ذلك، وقد جاء به القرآن الكريم، ولعل الناس الذين لم ينقلوه لم يشاهدوه، لعله وقع وهم نيام أو كانوا في النهار ولم يشعروا به، أو كان في تلك الساعة مانع من سحاب أو غيره، وقد أخبر المسافرون الذين قدموا مكة بمشاهدته وهو لم يستمر فيما يظهر وإنما كان آية شاهدها الناس ثم عاد إلى حاله الأولى.
المثال الثاني:
(المعراج) فإنه من أكبر الآيات؛ فلقد أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة إلى بيت المقدس، واجتمع هناك بالأنبياء، وصلى بهم، ثم عرج به جبريل حتى بلغ سدرة المنتهى فوق سبع سموات، وأوحى الله تعالى إليه ما أوحى، وشاهد صلى الله عليه وسلم من آيات الله الكبرى ما شاهد ومر بالأنبياء في كل سماء، ورجع إلى مكة، كل ذلك في ليلة واحدة، مع بُعد المسافة الأرضية بين مكة وبين بيت المقدس، ثم البعد العظيم بين السماء والأرض، وبين السماء الدنيا وما فوقها إلى سدرة المنتهى، وقد أخبر الله تعالى في القرآن عن الإسراء في سورة الإسراء، وعن المعراج في سورة النجم إذا هوى.
المثال الثالث:
(نزول المطر) باستسقائه مباشرة و(
إقلاع المطر) باستصحائه مباشرة، ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أصابت سنة أي جدب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله! هلك المال وجاع العيال، فادعُ الله لنا؛ فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة أي قطعة سحاب فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحاور على لحيته، فمُطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد، حتى الجمعة الأخرى"، وتام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: "يا رسول الله! تهدَّم البناء وغرق المال فادعُ الله لنا، فرفع يديه وقال:
«اللهم حوالينا ولا علينا»، فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت فأقلع المطر وخرجنا نمشي في الشمس".
ومن آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ما رواه البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه قال:
"عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة -إناء للماء- فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ به ونشرب إلا ما في الركوة التي عندك، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا! كنا ألفاً وخمسمائة!".
ومن آيات النبي صلى الله عليه وسلم (
تكثير الطعام) كما جرى ذلك يوم الخندق وجرى ذلك لأبي هريرة مع أهل الصفة.
ومن آيات النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع مطابقاً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب التي وقعت في عهده وبعده، ولذلك أمثلة أيضاً: المثال الأول: ما رواه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا مصارع أهل بدر قبل ابتداء القتال، يقول:
«هذا: مصرع فلان غداً إن شاء الله، هذا مصرع فلان»، فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
المثال الثاني:
إخباره صلى الله عليه وسلم عن ظهور نار في أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببُصرَى، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى»، فقد خرجت هذه النار في جُمادَى الآخرة سنة 654 شرق المدينة، فأقامت نحواً من شهر، وملأت الأودية وشاهد الناس أعناق الإبل ببصرى -وهى بلدة بالشام-، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وهذه النار كانت تحرق الحجر!".
ومن أمثلة ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما سيكون من الفتن وتغير أحوال الناس وغير ذلك، وآياته صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً وقد ذكر أهل العلم من ذلك الشيء الكثير ومن أوسع ما رأيت في ذلك تاريخ ابن كثير رحمه الله، حيث كتب في آيات النبي مجلداً كبيراً، وذكر أن جميع آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جرى مثلها للنبي صلى الله عليه وسلم أو ما هو أعظم منها، وهذه الآيات التي يجريها الله على أيدي أنبيائه وأوليائه كلها شاهدة بما له تعالى من كمال العلم والقدرة والرحمة، وأن الأمور كلها بيده يجريها كما يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
فلله الحمد والمنة، سبحانه لا نحصي ثناءًا عليه هو كما أثنى على نفسه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
المرجع
طريق الاسلام