السنة التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم هي اعتكاف عشرة أيام في كل رمضان وهي العشر الأواخر منه ولكن قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه زاد عليها فقد اعتكف مرة الشهر كله روى ذلك مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخضري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه فقال : إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة ثم اعتكفت العشر الأوسط ثم أتيت فقيل لي إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف فاعتكف الناس معه وثبت عنه أيضاً أنه اعتكف عشرين كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً فبان بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف الشهر كله وعشرين منه وكان مواظباً على اعتكاف العشر الأواخر فمن اعتكف في سنة من السنين الشهر كله ثم اعتكف في أخرى عشرين منه وكان مواظباً على اعتكاف العشر الأواخر في غير ذلك من السنين يكون قد أصاب السنة إصابة تامة من جميع الوجوه
فقه السنة فى إعتكاف رمضان
قوله : ( إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفة ) احتج به من يقول : يبدأ بالاعتكاف من أول النهار وبه قال الأوزاعي والثوري والليث في أحد قوليه وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد يدخل فيه قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر أو اعتكاف عشر وأولوا الحديث على أنه دخل المعتكف وانقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاته الصبح لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف بل كان من قبل المغرب معتكفا لابثا في جملة المسجد فلما صلى الصبح انفرد قوله : ( وإنه أمر بخبائه فضرب ) قالوا : فيه دليل على جواز اتخاذ المعتكف لنفسه موضعا من المسجد ينفرد فيه مدة اعتكافه ما لم يضيق على الناس وإذا اتخذوه يكون في آخر المسجد ورحابه لئلا يضيق على غيره وليكون أخلى له وأكمل في انفراده قوله : ( نظر فإذا الأخبية فقال : البر يردن ؟
فأمر بخبائه فقوض ) ( قوض ) بالقاف المضمومة والضاد المعجمة أي : أزيل وقوله : ( البر ) أي : الطاعة قال القاضي : قال صلى الله عليه وسلم هذا الكلام إنكارا لفعلهن وقد كان صلى الله عليه وسلم أذن لبعضهن في ذلك كما رواه البخاري قال : وسبب إنكاره أنه خاف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه ; لغيرتهن عليه أو لغيرته عليهن فكره ملازمتهن المسجد مع أنه يجمع الناس ويحضره الأعراب والمنافقون وهن محتاجات إلى الخروج والدخول لما يعرض لهن فيبتذلن بذلك أو لأنه صلى الله عليه وسلم رآهن عنده في المسجد وهو في المسجد فصار كأنه في منزله بحضوره مع أزواجه وذهب المهم من مقصود الاعتكاف وهو التخلي عن الأزواج ومتعلقات الدنيا وشبه ذلك أو لأنهن ضيقن المسجد بأبنيتهن وفي هذا الحديث دليل لصحة اعتكاف النساء ;
لأنه صلى الله عليه وسلم كان أذن لهن , وإنما منعهن بعد ذلك لعارض وفيه أن للرجل منع زوجته من الاعتكاف بغير إذنه وبه قال العلماء كافة فلو أذن لها فهل له منعها بعد ذلك ؟ فيه خلاف للعلماء فعند الشافعي وأحمد وداود له منع زوجته ومملوكه وإخراجهما من اعتكاف التطوع ومنعهما مالك وجوز أبو حنيفة إخراج المملوك دون الزوجة قولها : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر ) وفي رواية : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهد في غيره ) اختلف العلماء في معنى ( شد المئزر ) فقيل : هو الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره ومعناه : التشمير في العبادات يقال : شددت لهذا الأمر مئزري , أي : تشمرت له وتفرغت , وقيل : هو كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات وقولها : ( أحيا الليل ) أي : استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها وقولها : ( وأيقظ أهله ) أي : أيقظهم للصلاة في الليل وجد في العبادة زيادة على العادة ففي هذا الحديث : أنه يستحب أن يزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان واستحباب إحياء لياليه بالعبادات وأما قول أصحابنا : يكره قيام الليل كله فمعناة : الدوام عليه ولم يقولوا بكراهة ليلة وليلتين والعشر ولهذا اتفقوا على استحباب إحياء ليلتي العيدين وغير ذلك ( والمئزر ) بكسر الميم مهموز وهو الإزار والله أعلم
اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم بين الأحكام الفقهية، والقيم التربوية
صفة اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم
من أهم دواعي الاطمئنان على صحة العمل ورجاء قبوله عند الله تعالى أن يكون هذا العمل موافقاً للشريعة الشريفة لأن الجد والسعي مهما عظم إن عرى عن موافقة الشرع عرى عن قبول الله له ومن ثمة كان السلف يقولون اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة ومن ثمة كان العون من الله تعالى على تعقب الطريقة المحمدية في العبادة والسلوك والمعاملة وتحري السنة النبوية في جوانب الأعمال الإيمانية المختلفة نقول كان العون من الله في ذلك مطلب العابدين وبغية العاملين الأمر الذي يشجع مثلي على تلخيص أهم جوانب الاتباع في عبادة النبي صلى الله عليه وسلم تشرفاً بالانتماء إليه وتزلفاً إلى الله تعالى باتباع هديه ولما كان الاعتكاف سنَّة من أطيب السنن العبادية وطريقة من أمتع الطرق السلوكية والتربوية كان من الحسن التعرف إلى الهدي النبوي الكريم فيها تسهيلاً لطريق الاتباع وسداً لمسارب الابتداع عسى أن يكتبنا الله في الذين عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله إن الله وملائكته ليصلون على معلمي الناس الخير فريضة قديمة يصح أن نقول إن اعتكاف النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو من قبيل إحياء السنن القديمة التي ترجع إلى ما قبل سيدنا إبراهيم عليه السلام يلفتنا إلى ذلك لفتاً شديداً قوله تعالى في سورة البقرة في الآية 125 وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود فالعاكفون المذكورون في الآية هم المعتكفون سواء عبر عنها ابن عباس بأنهم الجالسون أو عطاء بأنهم المجاورون بمكة أو ابن عمر بأنهم الذين ينامون في البيت الحرام ولذلك رجح الرازي أنهم من يقيم هناك ويجاور وهو المفهوم من اختيار أبي طالب القيسي قال أبو محمد عبدالحق بن عطية الغرناطي فمعناه لملازمي البيت إرادة وجه الله وكان من دأب النبي صلى الله عليه وسلم إحياء سنن الأنبياء السابقين خصوصاً أباهم إبراهيم عليه السلام صاحب الملة القويمة والدعوة الكريمة من ثم كان الاعتكاف في المسجد هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته التي واظب عليها إلا أنه اختار لها أياما هي من أعظم الأيام عند الله وموسماً هو من خير المواسم إن لم يكن خيرها على الإطلاق وهو العشر الأواخر من رمضان تخبر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله
وهذا من منطلق التشمير للطاعات في مواعيد القرب والاغتراف من معين البركات حين تتفسح الطرقات وتتكشف الأغطية وهو من فنون العبادة التي يؤتاها الصادقون في مودتهم مع الله جل وعلا ومن فقه الطاعة الذي يمنحه الموفقون في سلوكهم إليه تعالى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رائدهم وفرطهم ومقدمهم به الاقتداء ومنه الاهتداء ولعل السيد الجرجاني التفت إلى معنى تربوي للاعتكاف حين عرفه بقوله الاعتكاف : تفريغ القلب عن شغل الدنيا وتسلم النفس إلى المولى وقيل : الاعتكاف والعكوف الإقامة معناه : لا أبرح عن بابك حتى تغفر لي
أين اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم
ولو شئت أن تعرف الموضع الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيه فقد قال نافع مولى ابن عمر : وقد أراني عبدالله بن عمر المكان الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيه من المسجد
نعم! هذا هو اتباع الأثر وتعقب السنَّة واقتفاء السبيل وهذا هو طريق الهدي وأصل الفلاح
وهذا المكان تحدده رواية ابن ماجه عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه أو يوضع له سريره وراء إسطوانة التوبة وهذا حديث حسن جداً قال عنه البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله موثوقون واسطوانة التوبة هي التي تاب عندها أبو لباية وهو رفاعة بن عبدالمنذر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حليفاً لبني قريظة فأشار إليهم بما أفهمهم حكم النبي فيهم وهو الذبح فأراد أن يتوب فانطلق إلى المسجد وربط نفسه باسطوانة من أساطينه بضع عشرة ليلة حتى تاب الله عنه وأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم
وهذه الاسطوانة هي الرابعة من ناحية المنبر فهي تلي اسطوانة عائشة من جهة المشرق بلا فاصل وهي الثانية من ناحية القبر والثالثة من ناحية القبلة وشرقي هذه الاسطوانة تقع اسطوانة أخرى اسمها اسطوانة السرير ذكر أن سرير النبي صلى الله عليه وسلم كان يوضع عندها حتى ظن ابن فرحون أن هذه الاسطوانة هي عينها اسطوانة التوبة لكن يبدو أن السرير كان يوضع بين الاسطوانتين لأنه كان يوضع وراء اسطوانة التوبة يعني أمام الاسطوانة الشرقية وهذا يجمع بين الاسمين وقد يكون ما أورده صاحب الذخائر القدسية من أن النبي كان يعتكف وراء اسطوانة التوبة من ناحية القبلة يساعد على هذا الجمع بين التسميات
الخباء والخلوة الصحيحة
ومعروف من خلال كتب الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف ضرب له خباء، وهو قبة تشبه الخيمة وهذا أعون على الخلوة والانصراف إلى الله، والانقطاع عن الشواغل الخارجية، وفي هذا تمام السكينة بمناجاة الحق سبحانه ونستعير من الإمام ابن القيم هذه الكلمات التي يتحدث فيهن عن خلوة المعتكف بأن الله تعالى: شرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولي عليها بدلها ويصير الهم به كله والخطرات كلها بذكره والفكرة في تحصيل مراضيه فيصير أنسه بالله بدلاً من أنسه بالخلق فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم
ويقول القرطبي في المفهم: في قبة تركية: هي قبة صغيرة من لبد
ولا شك أن اختيار الخوص والحصير واللباد مع وجود أنواع القماش يوحي بالتقشف والتقلل من المتاع وهذا مناسب للخلوة بالجليل سبحانه
فأما خباء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يتخذه فهو قبة تركية على سدتها قطعة حصير على حد تعبير أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في صحيح ابن خزيمة ويفسر لنا الرواة ذلك بأنها قبة خوص بابها من حصير
وقت اعتكافه صلى الله عليه وسلم
أما عن زمان اعتكافه صلى الله عليه وسلم فالثابت الذي لا ريب فيه ولا اختلاف أنه اعتكف في رمضان، وأنه قضى الاعتكاف مرة في شوال وكذلك الثابت أن آخر الأمر هو اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان وهو المستفاد من حديث عائشة الآنف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى
إلا أن الأمر الذي تتداوله الرواة هو أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف أولاً في العشر الأوائل ثم في العشر الأوسط، يدل على ذلك حديث أبي سعيد عند ابن خزيمة والطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر والأوسط وذلك التماساً لليلة القدر فلما أوحى إليه أنها في العشر الأواخر مكث العشر الأواخر ثم ظل على اعتكاف هؤلاء العشر حتى توفاه الله ومثل هذا روي عن أم سلمة عند الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف أول سنة العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط ثم اعتكف العشر الأواخر وقال: إني رأيت ليلة القدر فيها فأنسيتها فلم يزل يعتكف فيهن حتى قبض صلى الله عليه وسلم
وفي هذه الأحاديث ما يشعر بجد النبي وصحابته في طلب ليلة القدر وفيه ملمح تربوي يلفت إلى جدية طلب الخيرات وعدم اليأس من البحث عن الهدى وتحري الفضائل، وقد يستنتج منها حكم فقهي وهو اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف وهو مذهب جماهير السلف وأكثر الصحابة وبه أخذ أبوحنيفة ومالك وهي الرواية المعتمدة عند المتأخرين من الحنابلة وهو الصواب الذي نميل إليه
متى يدخل المعتكف؟ ومتى يخرج؟
ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه
وهذا لفظ صريح في أنه كان يدخل المعتكف بعد صلاة الفجر لا قبلها، وفي وعند البخاري: فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله
ومن ثمة ذهب الأوزاعي والليث وسفيان الثوري إلى الجزم بأن أول وقت دخول المعتكف هو بعد صلاة الصبح وعبارة ابن حجر تميل إليه، ولفظ الحديث يسنده، بل يستدعيه وذهب الأئمة الأربعة إلى أنه يدخل المعتكف قبيل غروب الشمس وأوَّلوا هذا الحديث على أنه أوان بدء الخلوة بالنفس لا دخول الاعتكاف ومنهم من فرَّق بين من نوى اعتكاف الأيام فيدخل بعد صلاة الصبح ومن نوى اعتكاف الليالي فيدخل قبل المغرب وهذا هو المبثوث في أكثر كتب الفقه
وشروح الحديث
إلا أن المتأمل لا يجد اضطراراً لذلك التأول والمخالفة للظاهر، فالاعتكاف عبادة ومدار العبادة على الاتباع للظاهر أو المفهوم وليس لاستدامة النظر مجال بحيث يؤول الحديث لمجرد الافتراض وقد بحثت عن حديث صحيح أو حسن أو ضعيف يصلح معه تأويل الحديث الصريح السابق فلم أجد إلا افتراض وجوب دخول النبي صلى الله عليه وسلم قبل الغروب وإلا لما كان معتكفاً العشر بتمامه على حد تعبير المباركفوري في شرحه للترمذي
أقول : قد قنع السلف بظاهر الحديث وعبَّر الخطابي في شرح الحديث عن ذلك بقوله: فيه من الفقه أن المعتكف يبتدئ أول النهار ويدخل في معتكفه بعد أن يصلي الفجر وإليه ذهب الأوزاعي وبه قال أبو ثور
وقال مالك والشافعي وأحمد يدخل في الاعتكاف قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر بعينه، وهو مذهب أصحاب الرأي
وتمسك بهذا الظاهر بعض المتأخرين وأحسنوا قال العلامة الصنعاني في سبل السلامبعد ذكر الحديث: فيه دليل على أن وقت الاعتكاف بعد صلاة الفجر وهو ظاهر في ذلك، وقد خالف فيه من قال إنه يدخل المسجد قبل طلوع الفجر إذا كان معتكفاً نهاراً وقبل غروب الشمس إذا كان معتكفاً ليلاً وأول الحديث بأنه كان يطلع الفجر وهو في المسجد ومن بعد صلاته الفجر يخلو بنفسه في المحل الذي أعده لاعتكافه قلت : ولا يخفى بعده فإنها كانت عادته، ألا يخرج من منزله إلا عند الإقامة انتهى كلام الصنعاني والحاصل أن تأول الحديث، وتكلف فهمه على مقتضى النظر المجرد دون أن تسنده الرواية ليس من الصواب• والله أعلم
وأما خروج النبي صلى الله عليه وسلم من معتكفه فلم أقف على شيء صحيح صريح في التوقيت إلا أنه يبدو أن السنَّة كانت الخروج من المعتكف إلى الصلاة يعني
صلاة العيد قال إبراهيم : كانوا يحبون لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد ثم يغدو من المسجد إلى المسجد
الهدي النبوي في المعتكف
وإذا ما علمنا القيمة التربوية للاعتكاف والمتعة الروحية في المعتكف فلا تسل عن السيرة النبوية في معتكفه إنه التعبير عن الشوق إلى الله واللجوء إلى حماه سبحانه والاشتغال به عمن سواه لا يخلو وقته عن عرض القرآن ومدارسته مع جبريل عليه السلام أو الصلاة وقراءة القرآن وألوان العبادة الروحية يشغله ذلك عن عيادة المريض وشهود الجنائز لأن السنَّة على المعتكف ألا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأته ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه فإذا كان لابد له من عيادة مريض عاده ماراً عليه دون أن يعرج عليه وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، حتى إنه كان إذا أراد أن يمتشط أخرج رأسه من المعتكف إلى حجرة عائشة فمشطته، ولا يخرج بدنه
لذلك نقل ابن المنذر وغيره إجماع العلماء على جواز خروج المعتكف للبول والغائط وهي حاجة الإنسان وفي حكمه الطعام والشراب، إن لم يتمكن من أن يكلف غيره بذلك أو من اصطحابه في المسجد إن لم يؤذ المسجد أو المصلين بذلك
إلا أن هذا العكوف المبارك لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من بعض المباحات التي فعلها تشريعاً لأمته وبياناً لجوازها، مثل السمر مع ضيوفه ساعة بالنهار أو بالليل وبخاصة زوجاته، فهو قد استقبل زوجه أم المؤمنين صفية بنت حيي فسمرا معاً ساعة، ثم قال لها: لا تعجلي حتى انصرف معك فمشى معها حتى بلغا باب المسجد
هذا على الأصح من الروايات، وقد وهم جماعة فظنوا أنه خرج معها من المسجد، وإنما توهموا ذلك لأن في الحديث وكان بيتها دار أسامة فخرج معها النبي صلى الله عليه وسلم فلقيهما رجل من الأنصار
ففهموا من السياق أنهما خرجا معاً إلى دار أسامة بعيداً عن المسجد وأن الأنصاريين لقياهما خارج المسجد لكن قال الحافظ ولكن لا دلالة فيه لأنه لم يثبت أن منزل صفية كان بينه وبين المسجد فاصل زائد
والظاهر أن المراد بقوله: دار أسامة أنها الدار التي أصبحت بعد ذلك لأسامة بن زيد، لأن أسامة لم يكن له في هذا الوقت دار مستقلة
ثم وجدت الحافظ ابن خزيمة يترجم بابا من أبواب كتابه قائلاً: باب ذكر الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بلغ مع صفية حين أراد قلبها إلى منزلها باب المسجد لا أنه خرج من المسجد فردها إلى منزلها
وذكر فيه حديثاً لفظه عن البخاري أيضاً وفيه : حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند باب أم سلمة مر بها رجلان من الأنصار
ولذلك ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله : باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد؟
قال الحافظ وفي الحديث من الفوائد جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من تشييع زائره والقيام معه والحديث مع غيره وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة وزيارة المرأة لمعتكف
ولم يختلف أحد في جواز الاشتغال بالمباحات بعض الوقت لكن مع التأكيد أن الاعتكاف في أصله خلوة بالله تعالى فينبغي أن يقلل المرء مما يشغله عن ربه وهذا كان دأب النبي صلى الله عليه وسلم
ويستافد من الأحاديث الصحيحة المروية في اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقود المعتكفين إلى الخير ولا يمنعه اعتكافه من أمرهم بالمعروف وتعريفهم بالصواب فقد روى الإمام أحمد وغيره أن الصحابة وهم معتكفون مع النبي قرأوا القرآن فكل منهم قرأه بصوت مرتفع فأخرج النبي رأسه من خبائه : وقال لهم : ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة
وهذا يدل على أن القائد لا يتخلى عن موضع القيادة والدأب في مصلحة أصحابه حتى في لحظات الخلوة بربه لأن أبواب الخير لا يدفع وإنما يشد بعضها بعضاً
نفحات أخرى
ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتابع أصحابه المعتكفين يتركهم يفعلون المباح ولا يحجر عليهم في ذلك، فهم يضعون متاعهم في المسجد ما لم يؤذوا به المصلين وهو لا يكف عن تحميسهم على القيام والتهجد وتحبيب ذلك لهم ويعمل من الأعمال ما يبشرهم به فهو يصف لهم ليلة القدر نفسها، فيما روي عنه بأنها ليلة طلقة بلجة، لا حارة ولا باردة ويخبرهم بشمس صبيحتها بأنها تطلع لا شعاع لها مثل الطست حتى ترتفع
بل ربما تحرى هو أن ينظر إلى القمر، فيقول لهم : خرجت حين بزغ القمر، كأنه فلق جفنة ثم يقول: الليلة ليلة القدر
وقد يجد أن من واجبات التربية وضرورات التوجيه أن يلغي اعتكافه الذي شرعه ليكون لإلغاء اعتكافه أثر في نفوس من يريد الاعتبار فقد شرع في اعتكافه عاماً فضرب قبته فاستأذنته عائشة، فأذن لها فضربت لها قبة، فما لبث نساؤه أن عرفن ذلك فتوافدن إلى المسجد كل تضرب لها قبة فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك استشعر أن دافعهن هو الغيرة والمسابقة في القرب منه صلى الله عليه وسلم فقال لهن: آلبر تردن؟
فنقض اعتكافه ذلك الشهر وأمرهن أن ينقضن أخبيتهن ثم اعتكف في شوال ولم يرد أنهن اعتكفن معه
قال النووي : وسبب إنكاره أنه كره أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه
أقول : وإنما لم يكتف بالتوجيه، أو بأمرهن أن ينقضن اعتكافهن وحسب لأهمية هذا التوجيه وخطورة هذه الخطوة التي أقدمن عليها من حيث دوافعها فأراد أن يحدث مقابل ذلك حدثاً باقي الأثر قوي الدلالة وهو نقضه هو نفسه الاعتكاف، وفي هذا مبالغة في التوجيه عند موقف يستحق هذه المبالغة لأنه يتعلق بإخلاص العبادة لله تعالى وهو المحور الذي تدور حوله قلوب الموحدين
قال الحافظ وفيه أي الحديث شؤم الغيرة، لأنها ناشئة عن الحسد المفضي إلى ترك الأفضل لأجله وفيه ترك الأفضل إذا كان فيه مصلحة وأن من خشي على عمله الرياء جاز له تركه وقطعه
قضاء الاعتكاف ومضاعفته
إلا أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الأعمال تظهر خلقاً واضحا وسلوكاً دائما تجاه العمل الصالح وهو محبته صلى الله عليه وسلم المداومة على الصالحات ومواصلة القربات من ثمة رأيناه إذا عمل من الصالحات عملاً وإن كان مستحباً لا واجباً داوم عليه فإن تركه لعذر قضاه والاعتكاف أحد الأمثلة الواضحة على هذا الهدي النبوي الكريم فالحديث السابق يذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما نقض اعتكافه في العشر الأخيرة من رمضان قضاه في شوال وقد صنع ذلك كلما اضطر إلى ترك الاعتكاف فروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف عاماً في رمضان فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين والظاهر أن سبب تركه للاعتكاف هذا العام كان لعذر السفر فقدر روى النسائي وابن حبان رواية واضحة في ذلك عن أبي بن كعب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فسافر عاماً فلم يعتكف فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين يوماً ومثله حديث أنس عنده أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان مقيماً اعتكف العشر فإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين
هذا هو أدب النبي الكريم في كل العبادات وهو مشعر بمدى وده صلى الله عليه وسلم للعبادة وحرصه على اتصاله بها واتصالها به وتفانيه في العطاء من نفسه لرضا ربه وفيه ما فيه من الزاد لمن خلفه من المحبين وورثة علمه من العاملين المخلصين
عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر