ما السر وراء لجوء دول العالم الغربى إلى التخلص من النفايات النووية الخطرة فى دول العالم الثالث، وبخاصة الشرق الأوسط، وأفريقيا، فى ظل وجود عدد من الدلائل، تتمثل فى الكشف بين الحين والآخر عن مدافن غير شرعية، تديرها شركات تابعة لعصابات تهريب النفايات النووية، إلى جانب تقارير صادرة عن عدد من المنظمات الدولية، المناهضة للتخلص غير الآمن من تلك المخلفات، على رأسها منظمة جرين بيس الأمريكية؟
الإجابة تأتى بأن الدولة المنتجة للطاقة النووية، تتوقف عن دفن مخلفاتها المشعة داخل أراضيها، إما بسبب امتلاء المناطق المناسبة للتخلص الآمن من تلك المخلفات، أو بسبب عشرات الدراسات والتقارير، التى أثبتت وجود أخطار تهدد الحياة والبيئة، فى مناطق دفن النفايات القديمة.
وعلى سبيل المثال نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية قد توقفت عن دفن نفاياتها النووية داخل أراضيها منذ التسعينيات من القرن الماضى، لنفس السبب السابق، بجانب عدد آخر من الدول الأوروبية، الأمر الذى تزامن مع تقديم عروض رسمية إلى عدد من الدول العربية والغربية، لبناء مناطق للتخلص الآمن من النفايات المشعة على أراضيها، وبخاصة فى الصحراء الشرقية، بحجة عدم وجود مياه جوفية، تحمل أخطار التلوث الإشعاعى، وقد قوبلت تلك العروض جميعها بالرفض من قبل الأنظمة الرسمية.
ضحايا الطاقة النووية
ويسجل التاريخ أن العالمة البولندية مارى كورى، كانت أولى ضحايا استخدام الطاقة النووية فى العالم، عام 1934، بعد إصابتها بأمراض فقر الدم الشديد، لتعرضها للمواد المشعة، وبخاصة الرديوم، التى ساعدت ضمن فريق من العلماء فى اكتشاف خواصها الإشعاعية.
ولم يكن العالم وقتها يعرف خطورة التعرض للمواد المشعة على حياة الإنسان، فقد كانت كورى تحمل أنابيب محملة بالمواد المشعة فى جيوبها، وتضعها فى أدراج مكتبها، دون الالتزام بمعايير الحماية، التى وضعت بعد موتها بسنوات.
ورغم الاستخدامات السلمية والطبية للطاقة النووية، وبخاصة فى علاج الأمراض السرطانية الخبيثة وتوليد الطاقة الكهربائية، فإن تكرار الحوادث على مر التاريخ، أظهر مدى خطورة الاستخدامات غير السلمية للطاقة النووية على حياة الإنسان، بداية من إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية لقنبلتى ناجزاكى وهيروشيما.
وقد تعرض الطيران اللذان ألقيا القنبلة، لحالة من الجنون، بسبب ما شاهداه من آثار تدميرية للقنبلتين، فى حين ذكر من نجا من الحادث، التأثير المدمر غير المسبوق للقنبلتين، اللتين أدتا إلى هزيمة اليابان أمام أمريكا، خلال أحداث الحرب العالمية الثانية.
وفى عام 1986، وقعت كارثة انفجار مفاعل تشار نوبل، فى إحدى دول الاتحاد السوفيتى، فى واحدة من أكبر الكوارث التى شهدها العالم، من حيث عدد الضحايا، والتأثيرات السلبية على البيئة والحياة والبرية، التى امتدت لأجيال عقب الحادث، وجاءت حادثة التسرب بمفاعل فوكوشيما فى اليابان، عام 2025، ليذكر العالم الجانب المظلم لامتلاك الطاقة النووية، خاصة بعد إخلاء 160 ألف شخص من منازلهم بمحيط المفاعل، وتعرض اليابان لخسائر وصلت إلى 140 مليون دولار.
تصدير النفايات
ويصل عدد المفاعلات النووية على مستوى العالم إلى 439 مفاعلا، حيث تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية وحدها ما يقرب من الـ«104 مفاعلات»، ولا تقتصر المخلفات المشعة على المفاعلات النووية فقط، فهناك أيضا أسلحة الدمار الشامل التى يستخدم فى صناعتها اليورانيوم المستنفذ، كتلك التى تم إلقاؤها خلال غزو العراق من قبل القوات الأمريكية، وكذلك التى تلقيها إسرائيل على الأراضى الفلسطينية المحتلة، هذا بجانب المخلفات الناتجة عن استخدام الطاقة النووية للأغراض الطبية.
وتتمثل الحلول الآمنة للتخلص من النفايات النووية فى دفنها تحت سطح الأرض، بما يقارب الـ10 كليو متر مربع، عن طريق مكب نفايات مصنوع من مواد تمنع التسرب الإشعاعى، على أن تكون مناطق الدفن تلك خالية من المياه الجوفية، حتى لا يتم تسرب المواد الإشعاعية إلى المياه مع مرور السنوات.
كما تلجأ بعض الدول إلى التخلص من النفايات النووية عن طريق دفنها فى أعماق ال
محيطات، بعد وضعها فى حاويات تضمن عدم تسرب المواد المشعة، وقد تم التشديد على تخلص الدول المنتجة للطاقة النووية من مخلفاتها المشعة بتلك الطريقة، من قبل الأمم المتحدة منذ عام 1982، وبخاصة فى المياه الدولية، على أساس أن مياه
المحيطات والبحار هى إرث للأجيال القادمة، ويجب الحفاظ عليها نظيفة لصالحهم.
وقد تمت الإشارة إلى دراسة عدد من الدول إمكانية التخلص من مخلفاتها المشعة بإرسالها إلى الفضاء، إلا أن الأمر ما زال مبكرا، لتأكيد أو نفى إمكانيات تنفيذ الأمر على أرض الواقع، خاصة مع التكلفة الباهظة لاستخدام تكنولوجيا الفضاء.
وقد توقف عدد من الدول عن دفن النفايات داخل حدود أراضيها، كالولايات المتحدة الأمريكية، التى توقفت عن دفن نفاياتها النووية فى مواقع الدفن المخصصة لذلك، والتى تصل إلى 50 ألف موقع، بعد أن أظهرت الدراسات تلوث المياه الجوفية للصحراء الأمريكية، وكذلك فعلت غيرها من الدول، وبدأت فى البحث عن مناطق أخرى لدفن النفايات، سواء بالطرق المشروعة، عن طريق المعاهدات الدولية، التى تبيح الدفن بأراضٍ دولية بمقابل مادى، أو بالطرق غير المشروعة.
عصابات التهريب
ويعود تاريخ نقل النفايات النووية خارج أراضى العالم الغنى، إلى بداية الثمانينيات من القرن الماضى، حيث أصدرت منظمة جرين بيس، المهتمة بمناهضة انتشار الاستخدام غير السلمى للطاقة النووية حول العالم، دراسة تؤكد نقل 115 شحنة من النفايات السامة، بين عامى 1987 و1998 إلى دول أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.
وبحسب دراسة لخدمة (إنتر برس) الإعلامية، فإن الدراسات الاقتصادية لدفن طن واحد من النفايات الخطيرة فى أحد دول إفريقيا يكلف الدول الغنية (2.5 دولار)، فى حين يكلف دفن الطن نفسه فى أوروبا أكثر من (250 دولارا)، وذلك بسبب ارتفاع معايير الأمان البيئى، ما يمثل إغراء شديدا لتلك الدول، لتصدير تلوثها الإشعاعى إلى الدول الفقيرة، خاصة فى ظل الاضطرابات السياسة المستمرة.
ودائما ما يشار إلى إسرائيل، كواحدة من الدول التى تحاول تصدير نفاياتها النووية إلى دول الشرق الأوسط، حيث يشار إلى أن النفايات الناتجة عن مفاعل ديمونة، يتم التخلص منها على الحدود بين دولة الكيان الصهيونى، وكل من مصر وفلسطين والأردن وسوريا، وذلك فضلا عن التقارير العلمية، التى تؤكد أن مفاعل ديمونة أصبح منتهى الصلاحية منذ عشرة سنوات، وأن هناك معلومات متكررة تفيد حدوث تسرب إشعاعى، ينعكس على العاملين بالمفاعل، حيث كشف تقرير إذاعته القناة الثانية بالتليفزيون الإسرائيلى عام 2003، أن العشرات من العاملين بالمفاعل، لقوا حتفهم، متأثرين بأمراض سرطانية.
ورغم ما يشاع من أن إسرائيل تحتل المرتبة الثانية على مستوى العالم، من حيث إنتاج البلوتونيوم المشع، فإن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ما زالت تتعامل مع الملف النووى الإسرائيليى برؤية مرتعشة، فلم يصدر عنها أى من التصريحات الغاضبة أو المتوعدة أو المنذرة، كما فى حالة العراق وإيران والكوريتين.
وإضافة إلى الحديث حول استخدام جيش إسرائيل، أسلحة محظورة دوليا، يدخل فى تصنيعها اليورانيوم المستنفذ، فى قمع الاحتجاجات الفلسطينية، وخاصة خلال الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، يجرى الحديث حول تعمد الجانب الإسرائيلى، دفن النفايات النووية بالقرب من التجمعات السكنية للفلسطنيين، بطريقة غير آمنة، ففى عام 1996 كشفت أحد برامج التليفزيون الإسرائيلى، عن أن موقع النفايات فى ديمونة لا يفى بمعايير الأمان، بسبب قربه من المياه الجوفية، وعدم استبدال الحاويات الخاصة بحفظ النفايات منذ 30 عاما، وفى عام 2005، ذكرت دراسة إسرائيلية صادرة عن الشؤون العامة لمحاربة الانتهاكات فى المناطق الفلسطينية بعنوان «نفايات فى المناطق الفلسطينية»، أن النظام الإسرائيلى قام بدفن النفايات النووية، بالقرب من التجمعات السكنية الفلسطينية، منذ عام 1967.
وأشارت الدراسة إلى أن مناطق الدفن تمثلت فى الضفة الغربية وقطاع غزة، وبخاصة قرب المدن الكبرى كنابلس والخليل وغزة، وتقترب الدراسة من المخاوف التى انتشرت خلال السنوات الماضية، من إمكانية دفن النفايات النووية فى سيناء، خلال سنوات الاحتلال، بهدف تلويث المياه الجوفية، والتأثير على الحياة البرية والبيئة.
مؤامرة إخوانية
ولم تكن مصر بعيدة عن محاولات دفن النفايات النووية بداخل أراضيها، بسبب المساحات الشاسعة من الصحراء التى تمتلكها، إلا أن الحكومة المصرية دائما ما وقفت ضد أى محاولات لنقل أخطار التلوث النووى إلى أراضيها، وفى حديث سابق، ذكر دكتور محسن محمد على، رئيس هيئة الطاقة النووية، أن دولة النمسا خلال الثمانينيات من القرن الماضى، عرضت على الرئيس الراحل محمد أنور السادات، دفن نفاياتها النووية، ومخلفات المفاعلات الخاصة بها، فى مصر، إلا أن الرئيس رفض بشكل قاطع.
وخلال الأشهر الأخيرة من عام حكم جماعة الإخوان، جرى الحديث عن صفقة تعد فى الخفاء، بين حكومة جماعة الإخوان، وبين الحكومة الأمريكية، لدفن النفايات النووية فى الصحراء الشرقية، مقابل 5 مليارات جنيه عن كل عملية، وقيل وقتها إن عملية الدفن تلك تتماشى مع منع الحكومة الأمريكية دفن نفايتها داخل أراضيها، والاتجاه لعقد صفقات مع دول العالم الثالث، للتخلص من ذلك العبء البيئى، وعلى رأسها دولة المكسيك، ودول بأمريكا الجنوبية.
وشهدت دولة الصومال، واحدة من الحوادث الكارثية، فيما يخص دفن النفايات النووية بالطرق غير الشرعية، عن طريق شركات أوروبية، تديرها عصابات التهريب الدولى، فبعد سقوط نظام الرئيس محمد زياد برى فى بداية عام 1991، شهدت الصومال حالة من الفوضى الأمنية، والصراعات الداخلية.
كما شهد الساحل الصومالى وقتها تدميرا للبيئة البحرية، بسبب التخلص العشوائى لدول العالم الغنى، من نفاياته النووية هناك، ومن بين عشرات السفن، تم الكشف عن سفينتين إحداهما إيطالية والأخرى سويسرية، قامتا بإلقاء حمولتهما بالقرب من الساحل الصومالى.
وقام مسؤولو البرنامج البيئى بالأمم المتحدة، بتحقيق شامل، بهدف الكشف عن السبب وراء إلقاء السفينتين الإيطالية والسويسرية لحمولتهما النووية بتلك الطريقة غير القانونية، وكشفت التحقيقات عن أن أحد الوزراء السابقين بالحكومة المؤقتة، ساعد فى تسهيل مهمة تلك السفينتين بمقابل مادى، وقد تبرأت كل من إيطاليا وسويسرا من حمولة تلك السفينتين. تسونامى وظلت آثار إلقاء تلك النفايات السامة تظهر بين الحين والآخر، على السكان والبيئة البحرية، حتى عام 2004، حين وقعت أمواج تسونامى عالية فى جنوب شرق آسيا، فى
المحيط الهادى، وامتدت لتصل للسواحل الصومالية، وقتها تعرض أهالى القرى الساحلية، لأمراض سرطانية غريبة، غير مسبوقة، نتيجة لطفو الحاويات السامة، المحملة بالنفايات النووية، على الشواطئ الصومالية.
ولا شك أن غزو العراق عام 2003، صاحبه إجراء تجارب أمريكية، لعدد من الأسلحة النووية المحرمة دوليا، وهو الأمر الذى أكده تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، عرض عام 2005، وجاء فيه أن الحرب التى خاضتها الولايات المتحدة ضد العراق تسببت فى مشكلات بيئية بالغة الخطورة، خاصة بسبب استخدام اليورانيوم المنضب فى العمليات الحربية.
كما كشفت دراسة عراقية حديثة أجريت على عشر مدن بوسط وجنوب العراق، أن التلوث الإشعاعى فى تلك المدن، قد بلغ الحد الأقصى المسموح به، مما يمثل خطورة على حياة السكان بتلك المدن.
وخلال
التسعينيات من القرن الماضى، تم تدمير مفاعلين نوويين بالعراق، خلال القصف الأمريكى المستمر ما بين عام 1990 وعام 1994، الأمر الذى يصعب من مشكلة النفايات النووية بالعراق. وخلال العام الحالى أعلنت الحكومة العراقية تبنيها برنامجا ممولا من قبل الاتحاد الأوروبى، لإزالة النفايات النووية فى العراق، بمبلغ 1.5 مليون يورو، حيث تتضمن تلك النفايات، معدات للجيش العراقى، تم قصفها باليورانيوم المستنفذ، من قبل القوات البريطانية والأمريكية.
لم تسلم دولة ليبيا من عصابات تهريب النفايات النووية، حيث كشفت صحيفة الإندبندت البريطانية عام 2025، عن وجود عصابات تابعة للمافيا الإيطالية، تتقاضى مبالغ مالية تصل إلى 20 مليار يورو سنويا فى مقابل إغراق شحنات من النفايات الخطرة فى منطقة جنوب ساحل البحر المتوسط، وتحديدا ليبيا، وأن الحيتان التى وجدت ميتة على سواحل مدينة سرت فى بداية العام نفسه، أكبر دليل على تلوث البيئة البحرية بسبب إلقاء تلك النفايات.
وذلك إضافة إلى دراسات حديثة أكدت تورط الكيان الصهيونى فى نقل النفايات النووية إلى الصحراء الليبية، حيث ذكر مركز الناطور للدراسات والأبحاث، أن دولة إسرائيل استعانت بحركات التمرد بدولة التشاد، لنقل النفايات النووية عبر الصحراء الليبية، يأتى ذلك ضمن سياسة إسرائيل، التى تقضى بضرورة نقل الخطر النووى بعيدا عن مناطق المستوطنات الإسرائيلية.
حاويات الموت
وخلال عام 2025، سادت حالة من الفزع فى السودان، بعد كشف عدد من المنقبين عن الذهب، عن 500 حاوية من النفايات، مطمورة فى باطن الأرض، يرجح أن تحتوى على نفايات نووية، نقلت بطرق سرية إلى صحراء العتمور فى الأجزاء الشمالية الشرقية من السودان، خلال السبعينيات من القرن الماضى.
ورغم تأكيد المنقبين أن الحاويات كانت تحوى كتابة باللغة الإنجليزية، لم يستطيعوا تبينها، فإن الحكومة السودانية، رفضت الإفصاح عن نتائج التحقيق، وكانت وسائل الإعلام السودانية قد تناقلت أيضا خبرا خلال عام 2005، يفيد أن الكيان الصهيونى، عمد إلى دفن نفايات نووية، باستخدام حاويات حملت شعار إحدى وكالات الإغاثة الأريترية.
أما الجزائر أيضا فلها حظها من التجارب النووية غير الشرعية، التى تسببت فى تلوث البيئة، وإصابة الأهالى بأمراض سرطانية، ففى عام 1960، قام الرئيس الفرنسى شارل ديجول بحضور تجربة نووية فى منطقة حمودى بفران فى صحراء الجزائر، بحضور خبراء إسرائيليين، وذلك قبل عامين من إعلان استقلال الجزائر، عن الاحتلال الفرنسى، الذى خلف مليون شهيد جزائرى، وعددا لا يحصى من الجرائم ضد الإنسانية.