عابدة.. زاهدة.. قانتة لله.. مُجابة الدعوة.. اجتهدت بالعبادة حتى أكرمها الله بكرامات عديدة.. هي: السيدة المكرمة الصالحة ابنة أمير المؤمنين الحسن بن زيد بن سبط النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي - رضي الله عنهما -، العلوية الحسنية، صاحبة المشهد الكبير المشهور في القاهرة. ويضيف الإمام الذهبي - رحمه الله -: وقيل: كانت من الصالحات العوابد... ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، ولا يجوز ممّا فيه من الشِّرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دعاة العُبيدية (الإسماعيلية).
ولادتها ونشأتها:
ولدت يوم الأربعاء الحادي عشر من ربيع الأول عام مائة وخمسة وأربعين هجرية بمكة المكرمة، وبقيت فيها حتى بلغت خمسة أعوام. أتمت حفظ القرآن الكريم وهي في الثامنة من عمرها. صَحِبها أبوها مع أمها زينب بنت الحسن إلى المدينة المنورة؛ فكانت تذهب إلى المسجد النبوي وتتلقى العلم من علمائه وشيوخه، حتى حصلت على لقب "نفيسة العلم" قبل أن تصل لسن الزواج، وحجّت أكثر من ثلاثين حجة أكثرها ماشية. وكان أخوها القاسم رجلاً صالحاً زاهداً خيِّراً، سكن نيسابور، وله بها عَقِب، منهم السيد العلوي الذي يروي عنه الحافظ البيهقي.
زواجها:
تزوجت "إسحاق المؤتمن" ابن جعفر الصادق - رضي الله عنه - في شهر رجب سنة 161هـ، وبزواجهما اجتمع نور الحسن والحُسَين، وأصبحت السيدة نفيسة كريمة الدارَيْن، فالسّيدة نفيسة جدُّها الإمام الحسن، وإسحاق المؤتمن جدّه الإمام الحسين - رضي الله عنهما -. وأنجبت لإسحاق ولداً وبنتاً هما القاسم وأم كلثوم. وكان إسحاق مشهوداً له بالصلاح.
زهدها:
كانت تمضي أكثر وقتها في حرم جدّها - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الآخرة نصب عينيها، حتى إنها حفرت قبرها الذي دُفنت فيه بيديها وكانت تنزل فيه وتصلي كثيراً، وقرأت فيه المصحف مائة وتسعين مرة وهي تبكي بكاءً شديداً.
وكان لأخيها يحيى
(المتوّج) بنت واحدة اسمها (
زينب) انقطعت لخدمة عمتها، تقول: خدمتُ عمّتي السيدة نفيسة أربعينَ عاماً؛ فما رأيتها نامَت بلَيل، ولا أفطرت إلا العيدين وأيام التشريق؛ فقلت لها: أمَا ترفُقِين بنفسِك؟ فقالت: كيف أرفُق بنفسي وأمامي عَقَبات لا يقطَعُهُنّ إلا الفائزون؟ وكانت تقول: كانت عمتي تحفَظ القرآن وتفسِّره، وكانت تقرأ القرآنَ وتَبكي.
قدومها مصر:
وصلت السيدة نفيسة إلى القاهرة يوم السبت في 26 رمضان 193 هجرية قبل أن يقدم إليها الإمام الشافعي بخمس سنوات، واستقبلها أهل مصر بالتكبير والتهليل، وأخذوا يقبلون عليها يلتمسون منها العلم حتى ازدحم وقتها، وكادت تنشغل عما اعتادت عليه من العبادات، فخرجت على الناس قائلة: "كنتُ قد اعتزمت المقام عندكم، غير أني امرأة ضعيفة، وقد تكاثر حولي الناس فشغلوني عن أورادي، وجمع زاد معادي، وقد زاد حنيني إلى روضة جدي المصطفى"، ففزع الناس لقولها، وأبَوا عليها رحيلها، فخرج الألوف... بل المدينة كلها تتوسط لدى زوجها لتقبل البقاء بينهم، ولا تغادرهم. حتى تدخَّل والي المدينة "السَّري بن الحكم بن يوسف" فوهبها داراً واسعة، ثم حدد يومين أسبوعياً يزورها الناس فيهما طلباً للعلم والنصيحة، لتتفرغ للعبادة بقية الأسبوع، فقبلت السيدة "نفيسة العلم" وساطة أهل مصر ورضيت وبقيت بينهم.
قدرها عند الأمراء:
يروى أن أعوان أحد الأمراء قد قبضوا على رجل من العامة ليعذِّبوه، فبينما هو سائر معهم مرّ بدار السيدة نفيسة فصاح مستجيراً بها، فدعت له بالخلاص قائلة: "حجب الله عنك أبصار الظالمين"، ولما وصل الأعوان بالرجل بين يدي الأمير، قالوا له: إنه مرّ بالسيدة نفيسة فاستجار بها وسألها الدعاء فدعت له بخلاصه، فقال الأمير: "أوَبلغ من ظلمي هذا يا رب؟ إني تائب إليك وأستغفرك". وصرف الأميرُ الرجلَ، ثم جمع ماله وتصدق ببعضه على الفقراء والمساكين.
سيدة الثورة:
يذكر المؤرخ أحمد بن يوسف القرماني في تاريخه أن السيدة نفيسة - رضي الله عنها - قادت ثورة الناس على ابن طولون لمّا استغاثوا بها من ظلمه، وكتبت ورقة، فلما علمت بمرور موكبه خرجت إليه، فلما رآها نزل عن فرسه، فأعطته الرقعة التي كتبتها وفيها: "ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخوّلتم ففسقتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفاذة غير مخطئة لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوّعتموها، وأجساد عرّيتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلِّمون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون"! يقول القرماني: فعدل من بعدها ابن طولون لوقته.
وصية الإمام الشافعي رضي الله عنه:
لمَّا وفد الإمام الشافعي - رضي الله عنه - إلى مصر، توثقت صلته بالسيدة نفيسة، واعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط، وفي طريق عودته إلى داره، وكان يصلي بها التراويح في مسجدها في شهر رمضان، وكلما ذهب إليها سألها الدعاء. وأوصى أن تصلي عليه السيدة نفيسة في جنازته، فمرت الجنازة بدارها حين وفاته عام 204 هجرية، وصلّت عليها إنفاذاً لوصيته.
وفاتها:
أصاب السيدة نفيسة المرض في شهر رجب سنة مائتين وثمان للهجرة، وظلَّ المرض يشتَدّ ويقوَى حتى رمضان، فبلغ المرَضُ أقصَاه، وأقعدَها عن الحركة، فأحضَروا لها الطبيبَ فأمرها بالفِطر، فقالت: "واعجباً، منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة، أأفطر الآن؟! هذا لا يكون". ثم راحت تقرأ بخشوع من سورة الأنعام، حتى وصلت إلى قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 127] فغشي عليها. تقول زينب - بنت أخيها - فضممتُها إلى صدري، فتشهدت شهادة الحق، وصعدت روحها إلى باريها في السماء.
فبكاها أهل مصر، وحزنوا لموتها حزناً شديداً، ولقد أراد زوجها أن ينقلها إلى البقيع عند جدّها - صلى الله عليه وسلم - ولكن أهل مصر تمسّكوا بها وطلبوا منه أن يدفنها عندهم فأبى، ولكنه رأى في منامه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمر بذلك، فدفنها في قبرها الذي حفرته بنفسها في مصر.
وكان يومُ دفنِها يوماً مشهوداً ازدحَم فيه الناسُ ازدحاماً شديداً.. ولا يزال قبرها إلى يومنا هذا يُزار.. رضي الله عن السيدة نفيسة الطاهرة الشريفة، نفيسة العلم وكريمة الدارَيْن. اللهم اجمعنا بها في جنات النعيم مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً. والحمد لله رب العالمين.
شبكة الألوكة