يقول تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ ) أي: المشركون المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
( مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ) أي: لا تملك لهم مثقال ذرة من النفع ولا تدفع عنهم شيئا.
( وَيَقُولُونَ ) قولا خاليا من البرهان: ( هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ) أي: يعبدونهم ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده، وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم، ولهذا قال تعالى - مبطلا لهذا القول- : ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ ) أي: الله تعالى هو العالم، الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه، أفأنتم- يا معشر المشركين- تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه، وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا القول، المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين؟ فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول، فإنه يجزم بفساده وبطلانه: ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي: تقدس وتنزه أن يكون له شريك أو نظير، بل هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لا إله في السماوات والأرض إلا هو، وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه، فإنه باطل عقلا وشرعا وفطرة.
أي: ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً ) متفقين على الدين الصحيح، ولكنهم اختلفوا، فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) بإمهال العاصين وعدم معاجلتهم بذنوبهم، ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) بأن ننجي المؤمنين، ونهلك الكافرين المكذبين، وصار هذا فارقا بينهم ( فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ولكنه أراد امتحانهم وابتلاء بعضهم ببعض، ليتبين الصادق من الكاذب.
( فَقُلْ ) لهم إذا طلبوا منك آية ( إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) أي: هو المحيط علما بأحوال العباد، فيدبرهم بما يقتضيه علمه فيهم وحكمته البديعة، وليس لأحد تدبير في حكم ولا دليل، ولا غاية ولا تعليل.
( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) أي: كل ينتظر بصاحبه ما هو أهل له، فانظروا لمن تكون العاقبة.
يقول تعالى: ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ) كالصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، والأمن بعد الخوف، نسوا ما أصابهم من الضراء، ولم يشكروا الله على الرخاء والرحمة، بل استمروا في طغيانهم ومكرهم.
ولهذا قال: ( إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ) أي يسعون بالباطل، ليبطلوا به الحق.
( قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ) فإن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، فمقصودهم منعكس عليهم، ولم يسلموا من التبعة، بل تكتب الملائكة عليهم ما يعملون، ويحصيه الله عليهم، ثم يجازيهم [ الله ] عليه أوفر الجزاء.
لما ذكر تعالى القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء، واليسر بعد العسر، ذكر حالة، تؤيد ذلك، وهي حالهم في البحر عند اشتداده، والخوف من عواقبه، فقال: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) بما يسر لكم من الأسباب المسيرة لكم فيها، وهداكم إليها.
( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ) أي: السفن البحرية ( وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) موافقة لما يهوونه، من غير انزعاج ولا مشقة.
( وَفَرِحُوا بِهَا ) واطمأنوا إليها، فبينما هم كذلك، إذ ( جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ) شديدة الهبوب ( وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ) أي: عرفوا أنه الهلاك، فانقطع حينئذ تعلقهم بالمخلوقين، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده، فدَعَوُه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ووعدوا من أنفسهم على وجه الإلزام، فقالوا: ( لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) ( فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) أي: نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء، وما ألزموه أنفسهم، فأشركوا بالله، من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد، ولا يدفع عنهم المضايق، فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء، كما أخلصوها في الشدة؟!!
ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم، ولهذا قال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي: غاية ما تؤملون ببغيكم، وشرودكم عن الإخلاص لله، أن تنالوا شيئًا من حطام الدنيا وجاهها النزر اليسير الذي سينقضي سريعًا، ويمضي جميعًا، ثم تنتقلون عنه بالرغم.
( ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ) في يوم القيامة ( فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم.
وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها.
فذلك ( كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ ) أي: نبت فيها من كل صنف، وزوج بهيج ( مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ ) كالحبوب والثمار ( وَ ) مما تأكل ( الأنْعَامُ ) كأنواع العشب، والكلأ المختلف الأصناف.
( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ) أي: تزخرفت في منظرها، واكتست في زينتها، فصارت بهجة للناظرين، ونزهة للمتفرجين، وآية للمتبصرين، فصرت ترى لها منظرًا عجيبًا ما بين أخضر، وأصفر، وأبيض وغيره.
( وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ) أي: حصل معهم طمع، بأن ذلك سيستمر ويدوم، لوقوف إرادتهم عنده، وانتهاء مطالبهم فيه.
فبينما هم في تلك الحالة ( أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ ) أي: كأنها ما كانت فهذه حالة الدنيا، سواء بسواء.
عم تعالى عباده بالدعوة إلى دار السلام، والحث على ذلك، والترغيب، وخص بالهداية من شاء استخلاصه واصطفاءه، فهذا فضله وإحسانه، والله يختص برحمته من يشاء، وذلك عدله وحكمته، وليس لأحد عليه حجة بعد البيان والرسل، وسمى الله الجنة « دار السلام » لسلامتها من جميع الآفات والنقائص، وذلك لكمال نعيمها وتمامه وبقائه، وحسنه من كل وجه.
ولما دعا إلى دار السلام، كأن النفوس تشوقت إلى الأعمال الموجبة لها الموصلة إليها، فأخبر عنها بقوله: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) أي: للذين أحسنوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته، وقاموا بما قدروا عليه منها، وأحسنوا إلى عباد الله بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي، من بذل الإحسان المالي، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحة المعرضين، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان.
فهؤلاء الذين أحسنوا، لهم « الحسنى » وهي الجنة الكاملة في حسنها و « زيادة » وهي النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، والفوز برضاه والبهجة بقربه، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون، ويسأله السائلون.
ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال: ( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ) أي: لا ينالهم مكروه، بوجه من الوجوه، لأن المكروه، إذا وقع بالإنسان، تبين ذلك في وجهه، وتغير وتكدر.
وأما هؤلاء - فهم كما قال الله عنهم - تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) الملازمون لها ( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) لا يحولون ولا يزولون، ولا يتغيرون.
لما ذكر أصحاب الجنة ذكر أصحاب النار، فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي الأعمال السيئة المسخطة لله، من أنواع الكفر والتكذيب، وأصناف المعاصي، فجزاؤهم سيئة مثلها أي: جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلاف أحوالهم.
( وَتَرْهَقُهُمْ ) أي: تغشاهم ( ذِلَّةٌ ) في قلوبهم وخوف من عذاب الله، لا يدفعه عنهم دافع ولا يعصمهم منه عاصم، وتسري تلك الذلة الباطنة إلى ظاهرهم، فتكون سوادًا في الوجوه .
( كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) فكم بين الفريقين من الفرق، ويا بعد ما بينهما من التفاوت؟!