يخبر تعالى عن بعض المكذبين للرسول، ولما جاء به، ( وَ ) أن ( منهم مَنْ يَسْتَمِعُونَ ) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقت قراءته للوحي، لا على وجه الاسترشاد، بل على وجه التفرج والتكذيب وتطلب العثرات، وهذا استماع غير نافع، ولا مُجدٍ على أهله خيرًا، لا جرم انسد عليهم باب التوفيق، وحرموا من فائدة الاستماع، ولهذا قال: ( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ ) وهذا الاستفهام، بمعنى النفي المتقرر، أي: لا تسمع الصم الذين لا يستمعون القول ولو جهرت به، وخصوصًا إذا كان عقلهم معدومًا.
فإذا كان من المحال إسماع الأصم الذي لا يعقل للكلام، فهؤلاء المكذبون، كذلك ممتنع إسماعك إياهم، إسماعًا ينتفعون به.
وأما سماع الحجة، فقد سمعوا ما تقوم عليهم به حجة الله البالغة، فهذا طريق عظيم من طرق العلم قد انسد عليهم، وهو طريق المسموعات المتعلقة بالخير.
ثم ذكر انسداد الطريق الثاني، وهو: طريق النظر فقال: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ) فلا يفيده نظره إليك، ولا سبر أحوالك شيئًا، فكما أنك لا تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون، فكذلك لا تهدي هؤلاء.
فإذا فسدت عقولهم وأسماعهم وأبصارهم التي هي الطرق الموصلة إلى العلم ومعرفة الحقائق، فأين الطريق الموصل لهم إلى الحق؟
ودل قوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ) الآية، أن النظر إلى حالة النبي صلى الله عليه وسلم، وهديه وأخلاقه وأعماله وما يدعو إليه من أعظم الأدلة على صدقه وصحة ما جاء به، وأنه يكفي البصير عن غيره من الأدلة.
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) فلا يزيد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.
( وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) يجيئهم الحق فلا يقبلونه، فيعاقبهم الله بعد ذلك بالطبع على قلوبهم، والختم على أسماعهم وأبصارهم.
يخبر تعالى، عن سرعة انقضاء الدنيا، وأن الله تعالى إذا حشر الناس وجمعهم ليوم لا ريب فيه، كأنهم ما لبثوا إلا ساعة من نهار، وكأنه ما مر عليهم نعيم ولا بؤس، وهم يتعارفون بينهم، كحالهم في الدنيا، ففي هذا اليوم يربح المتقون، ويخسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين إلى الصراط المستقيم والدين القويم، حيث فاتهم النعيم، واستحقوا دخول النار.
أي: لا تحزن أيها الرسول على هؤلاء المكذبين، ولا تستعجل لهم، فإنهم لا بد أن يصيبهم الذي نعدهم من العذاب.
إما في الدنيا فتراه بعينك، وتقر به نفسك.
وإما في الآخرة بعد الوفاة، فإن مرجعهم إلى الله، وسينبئهم بما كانوا يعملون، أحصاه ونسوه، والله على كل شيء شهيد، ففيه الوعيد الشديد لهم، والتسلية للرسول الذي كذبه قومه وعاندوه.
يقول تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ) من الأمم الماضية ( رَسُولٌ ) يدعوهم إلى توحيد الله ودينه.
( فَإِذَا جَاءَ ) هم ( رَسُولُهُمْ ) بالآيات، صدقه بعضهم، وكذبه آخرون، فيقضي الله بينهم بالقسط بنجاة المؤمنين، وإهلاك المكذبين ( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) بأن يعذبوا قبل إرسال الرسول وبيان الحجة، أو يعذبوا بغير جرمهم، فليحذر المكذبون لك من مشابهة الأمم المهلكين، فيحل بهم ما حل بأولئك.
ولا يستبطئوا العقوبة ويقولوا: ( مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) فإن هذا ظلم منهم، حيث طلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس له من الأمر شيء، وإنما عليه البلاغ والبيان للناس.
وأما حسابهم وإنزال العذاب عليهم، فمن الله تعالى، ينزله عليهم إذا جاء الأجل الذي أجله فيه، والوقت الذي قدره فيه، الموافق لحكمته الإلهية.
فإذا جاء ذلك الوقت لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، فليحذر المكذبون من الاستعجال بالعذاب، فإنهم مستعجلون بعذاب الله الذي إذا نزل لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، ولهذا قال:
يقول تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا ) وقت نومكم بالليل ( أَوْ نَهَارًا ) في وقت غفلتكم ( مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ) أي: أي بشارة استعجلوا بها؟ وأي عقاب ابتدروه؟.
( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ) فإنه لا ينفع الإيمان حين حلول عذاب الله، ويقال لهم توبيخًا وعتابًا في تلك الحال التي زعموا أنهم يؤمنون، ( آلآنَ ) تؤمنون في حال الشدة والمشقة؟ ( وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) فإن سنة الله في عباده أنه يعتبهم إذا استعتبوه قبل وقوع العذاب، فإذا وقع العذاب لا ينفع نفسًا إيمانها، كما قال تعالى عن فرعون، لما أدركه الغرق قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وأنه يقال له: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ .
وقال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وقال هنا: ( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ ) تدعون الإيمان ( وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) فهذا ما عملت أيديكم، وهذا ما استعجلتم به.
( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ) حين يوفون أعمالهم يوم القيامة: ( ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ) أي: العذاب الذي تخلدون فيه، ولا يفتر عنكم ساعة. ( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) من الكفر والتكذيب والمعاصي.
( و ) إذا كانت القيامة فـ ( لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ) بالكفر والمعاصي جميع ( مَا فِي الأرْضِ ) من ذهب وفضة وغيرهما، لتفتدي به من عذاب الله ( لافْتَدَتْ بِهِ ) ولما نفعها ذلك، وإنما النفع والضر والثواب والعقاب، على الأعمال الصالحة والسيئة.
( وَأَسَرُّوا ) [ أي ] الذين ظلموا ( النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ) ندموا على ما قدموا، ولات حين مناص، ( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) أي: العدل التام الذي لا ظلم ولا جور فيه بوجه من الوجوه.
( أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يحكم فيهم بحكمه الديني والقدري، وسيحكم فيهم بحكمه الجزائي. ولهذا قال: ( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) فلذلك لا يستعدون للقاء الله، بل ربما لم يؤمنوا به، وقد تواترت عليه الأدلة القطعية والبراهين النقلية والعقلية.
( هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) أي: هو المتصرف بالإحياء والإماتة، وسائر أنواع التدبير ، لا شريك له في ذلك.
( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها.
يقول تعالى - مرغبًا للخلق في الإقبال على هذا الكتاب الكريم، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي: تعظكم، وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها.
( وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ) وهو هذا القرآن، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة.
وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.
وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. ( وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) فالهدى هو العلم بالحق والعمل به.
والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى به، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدي به، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.
وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور.
ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ ) الذي هو القرآن، الذي هو أعظم نعمة ومنة، وفضل تفضل الله به على عباده ( وَبِرَحْمَتِهِ ) الدين والإيمان، وعبادة الله ومحبته ومعرفته. ( فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) من متاع الدنيا ولذاتها.
فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين، لا نسبة بينها، وبين جميع ما في الدنيا، مما هو مضمحل زائل عن قريب.
وإنما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى، وقوتها، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها، أو الفرح بالباطل، فإن هذا مذموم كما قال [ تعالى عن ] قوم قارون له: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ .
وكما قال تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ .