الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فمن أفضل وأشهر كتب العلامة ابن القيم كتابه الموسوم بـ"زاد المعاد في هدي خير العباد"؛ فقد جمع واستوعب في بيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع استطراد في ذكر فوائد متنوعة، يسر الله الكريم فجمعتُ شيئًا منها لا يغني عن قراءة الكتاب، أسأل الله أن ينفع بها، ويبارك فيها.
وقد أفاض العلماء وطلبة العلم في سبر هذا الكتاب القَيِّم واستخراج ما فيه من فوائد، واختصار ما حوى من فصول، فعمَّ نفعه وذاع، واستفاد به خلقٌ كثير.
وفي هذه المقالة جمع وتلخيص لما حواه هذا الكتاب من لطائف ربما قَلَّ تداولها بين الناس، سائلًا المولى النفع والتوفيق والسداد.
القرآن الكريم شفاء لجميع الأدواء:
قال الله تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]، والصحيح: أن "من" ها هنا لبيان الجنس لا التبعيض، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ولا يُوفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليلُ التداويَ به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه - لم يقاومه الداء أبدًا، وكيف تقاوم الأدواءُ كلامَ رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لَصَدَعها، أو على الأرض لقطعها.
فاتحةُ الكتاب، وأمُّ القرآن، والسبع المثاني، والشفاء التام، والدواء النافع، والرقية التامة، ومفتاح الغِنى والفلاح، وحافظة القوة، ودافعة الهمِّ والغمِّ والخوف والحزن لمن عرف مقدارها وأعطاها حقها، وأحسن تنزيلها على دائه، وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها والسر الذي لأجله كانت كذلك.
علاج حر المصيبة وحزنها:
قال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]، وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلِفْ لي خيرًا منها إلا أَجَرَهُ الله في مصيبته، وأخلَفَ له خيرًا منها))، وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته؛ فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلَّى عن مصيبته:هذه بداية
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك له عز وجل حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمُعير يأخذ متاعه من المُستعير، وأيضًا فإنه محفوف بعدمين: عدمٍ قبله، وعدمٍ بعده، وملك العبد له متعة مُعارة في زمن يسير، وأيضًا فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه، حتى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يُبقي عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيءَ ربه فردًا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوَّله ونهايته، فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود؟ ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء.
ومن علاجه: أن ينظر إلى ما أُصيب به، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه، وادخر له - إن صبر ورضي - ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.
ومن علاجها: أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23].
ومن علاجه: أن يطفئَ نار مصيبته بِبَرْدِ التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كلِّ وادٍ بنو سعد، ولينظر يمنةً فهل إلا محنة؟ ثم ليعطِفْ يسرة فهل يرى إلا حسرة؟ وأنه لو فتش العالم لم يرَ فيهم إلا مبتلًى: إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم أو كظلٍّ زائل، إن أضحكت قليلًا، أبكت كثيرًا، وإن سرَّت يومًا ساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا منعت كثيرًا، وما ملأت دارًا خيرةً إلا ملأتها عَبرة، ولا سرَّته بيومِ سُرُورٍ إلا خبأت له يوم شُرُورٍ.
ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع لا يردها، بل يضاعفها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض.
ومن علاجها: أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم، وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع - أعظم من المصيبة في الحقيقة.
ومن علاجها: أن يُروِّح قلبه بروح رجاء الخَلَفِ من الله؛ فإنه من كل شيء عِوَضٌ إلا الله، فما منه عوض.
ومن علاجها: أن يعلم أن ما يعقُبُه الصبرُ والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أُصيب به لو بقي عليه، ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذي يُبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظر أي المصيبتين أعظم: مصيبة العاجلة، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد؟
ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع يُشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويُغضِب ربه، ويسرُّ شيطانه، ويحبط أجره، ويُضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه، ورده خاسئًا، وأرضى ربه، وسَرَّ صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه، وعزَّاهم هو قبل أن يُعزُّوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، لا لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بالويل والثُّبُور، والسخط على المقدور.
ومن علاجها: أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تُحدِثُه له، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، فحظك منها ما أحدثته لك، فاخترْ خيرَ الحظوظ أو شرَّها؛ فإن أحدثت له سخطًا وكفرًا، كُتب في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جَزَعًا وتفريطًا في ترك واجب أو فعل محرم، كُتب في ديوان المفرطين، وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر، كُتب في ديوان المغبونين، وإن أحدثت له اعتراضًا على الله وقدحًا في حكمته، فقد قرع باب الزندقة أو وَلَجَهُ، وإن أحدثت له صبرًا وثباتًا لله، كُتب في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرضا عن الله، كُتب في ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمد والشكر، كُتب في ديوان الشاكرين، وكان تحت لواء الحمد مع الحمَّادين، وإن أحدثت له محبة واشتياقًا إلى لقاء ربه، كُتب في ديوان المحبين المخلصين؛ وفي مسند أحمد والترمذي من حديث محمود بن لبيد يرفعه: ((إن الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط))، زاد أحمد: ((ومن جزِعَ فله الجزع)).
ومن علاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته، فآخر أمره إلى صبر الاضطرار، وهو غير محمود ولا مُثاب؛ قال بعض الحكماء: "العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام، سلا سُلُوَّ البهائم".
ومن علاجها: أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضِيَه له، وأن خاصية المحبة موافقة المحبوب، فمن ادعى محبةَ محبوبٍ ثم سَخَط ما يحبه وأحب ما يسخطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وتمقَّت إلى محبوبه.
ومن علاجها: أن يوازن بين أعظم اللذتين والمتعتين وأدومهما، لذة تمتعه بما أُصيب به، ولذة تمتعه بثواب الله له، فإن ظهر له الرجحان فآثر الراجح، فليحمد الله على توفيقه، وإن آثر المرجوح من كل وجه، فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظم من مصيبته التي أُصيب بها في دنياه.
ومن علاجها: أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به، ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به؛ ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحًا ببابه، لائذًا بجَنابِهِ، مكسور القلب بين يديه، رافعًا قَصَصَ الشكوى إليه.
ومن علاجها: أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها، لأصاب العبد من أدواء الكبر والعُجْبِ والفَرْعنةِ وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقَّده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظًا لصحة عبوديته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه.
فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغَوا وبغَوا وعتَوا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرًا سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه، أَهَّله لأشراف مراتب الدنيا وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه.
ومن علاجها: أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يقلِبُها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خيرٌ له من عكس ذلك، فإن خفي عليك هذا، فانظر إلى قول الصادق المصدوق: ((حُفَّتِ الجنة بالمكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات)).
وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرجال، فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول، ومن لم يحتمل مرارةَ ساعةٍ لحلاوةِ الأبد، ولا ذُلَّ ساعةٍ لعِزِّ الأبد، ولا محنة ساعة لعافية الأبد - فإن الحاضرَ عنده شهادة، والمُنتظَر غيب، والإيمان ضعيف، وسلطان الشهوة حاكم، فتولَّد من ذلك إيثار العاجلة، ورفض الآخرة، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور، وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الذي يخرق حُجُبَ العاجلة، ويجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأن آخر.
فادعُ نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم، والسعادة الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعد لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب والحسرات الدائمة، ثم اختر أي القسمين أَلْيَق بك، وكلٌّ يعمل على شاكلته، وكلُّ أحد يصبو إلى ما يناسبه وما هو الأَوْلَى به، ولا تستطِلْ هذا العلاج؛ فشدة الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه، وبالله التوفيق.
الأدوية القلبية لها تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية:
ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتدِ إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم -من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة والدعاء، والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب؛ فإن هذه الأدوية قد جرَّبتها الأمم على اختلاف أديانها ومِلَلِها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء، ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه، وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورًا كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية ... ومن أعظم علاجات المرض: فعل الخير والإحسان، والذكر والدعاء، والتضرع والابتهال إلى الله والتوبة، ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية.
أفضل أيام العبد يوم توبته إلى الله وقبول الله توبته:
خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله، وقبول الله توبته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب: ((أبشرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك)).
فإن قيل: فكيف يكون هذا اليوم خيرًا من يوم إسلامه؟ قيل: هو مكمل ليوم إسلامه، ومن تمامه، فيوم إسلامه بداية سعادته، ويوم توبته كمالها وتمامها.
تنكُّر الأرض والنفس والأهل والولد للمذنب:
قول كعب رضي الله عنه: ((حتى تنكَّرت ليَ الأرضُ، فما هي بالتي أعرف))، هذا التنكر يجده المذنب العاصي بحسب جرمه، حتى في خُلُقِ زوجته وولده وخادمه ودابته، ويجده في نفسه أيضًا، فتتنكر له نفسه حتى ما كأنه هو، ولا كأن أهله وأصحابه ومن يشفق عليه بالذين يعرفهم، وهذا سرٌّ من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب، وعلى حسب حياة القلب، يكون إدراك هذا التنكر والوحشة، وما لجرحٍ بميِّتٍ إيلام.
من هان على الله جل جلاله خلَّى بينه وبين معاصيه:
الرب سبحانه ... يؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظًا حذِرًا، وأما من سقط من عينه وهان عليه، فإنه يُخلِّي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبًا أحدث له نعمة، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة، وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التي لا عاقبة معها؛ كما في الحديث المشهور: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عجَّل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد بعبدٍ شرًّا أمسك عنه عقوبته في الدنيا، فَيَرِدُ يوم القيامة بذنوبه)).
إن عاقَ الهمُّ والحزن العبدَ عن المعاصي كانا خيرًا له:
وإن عاقه الهم والحزن عن شهواته التي تضره في معاشه ومعاده، انتفع به من هذا الوجه، وهذا من حكمة العزيز الحكيم أن سلَّط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه، الفارغة من محبته وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والأنس به، والفرار إليه، والانقطاع إليه؛ ليردها بما يبتليها من الهموم والغموم والأحزان والآلام القلبية عن كثير من معاصيها وشهواتها المُرْدِيَةِ.
ما يُدفع به الحزن والهم:
ما مضى لا يُدفع بالحزن بل بالرضا والحمد والصبر والإيمان بالقدر، وقول: قدَّرَ الله وما شاء فعل، وما يُستقبل لا يُدفع أيضًا بالهمِّ، بل إما أن يكون له حيلة في دفعه فلا يعجز عنه، وإما ألَّا تكون له حيلة في دفعه فلا يجزع منه، ويلبس له لباسه، ويأخذ له عدته، ويتأهب له أُهْبَتَه اللائقة به، ويستجنُّ بجُنَّةٍ حصينة من التوحيد والتوكل، والانطراح بين يدي الرب تعالى، والاستسلام له، والرضا به ربًّا في كل شيء ولا يرضى به ربًّا فيما يحب دون ما يكره، فإن كان هكذا، لم يرضَ به ربًّا على الإطلاق.
انكسار المريض وانطراحه بين يدي ربه عز وجل:
المريض له مدد من الله تعالى يغذيه به زائدًا على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم، وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربه عز وجل، فيحصل له من ذلك ما يوجب له قربًا من ربه، فإن العبد أقرب ما يكون من ربه إذا انكسر قلبه، ورحمة ربه عندئذٍ قريبة منه، فإن كان وليًّا له، حصل له من الأغذية القلبية ما تقوى به قُوَى طبيعته، وتتنعش به قواه أعظم من قوتها وانتعاشها بالأغذية البدنية، وكلما قوي إيمانه وحبه لربه، وأنسه به، وفرحه به، وقوي يقينه بربه، واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه - وجد في نفسه من هذه القوة ما لا يُعبَّر عنه، ولا يدركه وصفُ طبيب، ولا يناله علمه.
تفريج نفس المريض وتطييب قلبه له تأثير عجيب في شفاء علَّته وخِفَّتها:
تفريج نفس المريض، وتطيب قلبه، وإدخال ما يسره عليه -له تأثير عجيب في شفاء علته وخِفَّتِها، فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي، وقد شاهد الناس كثيرًا من المرضى تنتعش قواه بعيادة من يحبونه، ويعظمونه، ورؤيتهم لهم، ولطفهم بهم، ومكالمتهم إياهم، وهذا أحد فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم، فإن فيها أربعة أنواع من الفوائد: نوع يرجع إلى المريض، ونوع يعود على العائد، ونوع يعود على أهل المريض، ونوع يعود على العامة.
سهام العائن إن وجدت المعين مكشوفًا لا وقاية له أثَّرت فيه:
روح الحاسد مؤذية للمحسود أذًى بيِّنًا؛ ولهذا أمر الله سبحانه رسوله أن يستعيذ به من شره، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمرٌ لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين.
ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء؛ فتؤثر نفسه فيه وإن لم يَرَهُ، وكثير من العائنين يؤثر في المَعِين بالوصف من غير رؤية؛ وقد قال تعالى لنبيه: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ﴾ [القلم: 51]، وقال: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 1 - 5]؛ فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنا، فلما كان الحاسد أعمَّ من العائن، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفًا ولا وقاية عليه أثَّرت فيه ولا بد، وإن صادفته حذِرًا شاكيَ السلاح لا منْفَذَ فيه للسهام لم تؤثر فيه، وربما ردَّت السهام على صاحبها.
وقد يعِينُ الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته بل بطبعه، وهذا أردأُ ما يكون من النوع الإنساني ... وإذا كان العائن يخشى ضررَ عينه وإصابتها للمعين، فليدفع شرها بقوله: "اللهم بارك عليه"، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: ((ألا برَّكت))؛ أي: قلتَ: اللهم بارك عليه.
ومما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
الطبيب هو من يداوي المريض بتفقد قلبه وصلاحه:
والطبيب إذا كان عارفًا بأمراض القلب والروح وعلاجهما، كان هو الطبيب الكامل، والذي لا خبرة له بذلك وإن كان حاذقًا في علاج الطبيعة وأحوال البدن نصفُ طبيب، وكل طبيب لا يداوي العليل بتفقد قلبه وصلاحه، وتقوية روحه وقواه بالصدقة، وفعل الخير، والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة فليس بطبيب، بل متطبب قاصر.
البلاء قد يكون منحة ونعمة:
النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغِنى طغيانًا وركونًا إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جِدِّها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامتَه، قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكَرِيهَ، ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.
نعيم القلب وسروره في معرفة الله ومحبته وتوحيده:
القلب خُلق لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضا عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحب إليه من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، وأجلَّ في قلبه من كل ما سواه، ولا نعيم له ولا سرور ولذة بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا بمنزلة الغذاء والصحة والعافية، فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته، فالهموم والغموم والأحزان مسارِعةٌ من كل صوب إليه، ورهن مقيم عليه.
منافع الصلاة:
الصلاة مَجلَبةٌ للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، مَطرَدة للأدواء، مقوِّية للقلب، مبيضة للوجه، مُفرِحة للنفس، مُذهِبة للكسل، مُنشِّطة للجوارح، مُمدَّة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، مُنوِّرة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مُبعِدة من الشيطان، مُقرِّبة من الرحمن.
وبالجملة: فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتُليَ رجلانِ بعاهةٍ أو داء أو محنة أو بَلِيَّةٍ إلا كان حظُّ المصلِّي منهما أقل، وعاقبته أسلم.
وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، ولا سيما إذا أُعطيت حقها من التكميل ظاهرًا وباطنًا، فما استُدفعت شرور الدنيا والآخرة، ولا استُجلبت مصالحهما بمثل الصلاة، وسرُّ ذلك أن الصلاة صلة بالله عز وجل، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تُفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتُقطع عنه من الشرور أسبابها، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل، والعافية والصحة، والغنيمة والغنى، والراحة والنعيم، والأفراح والمسرات، كلها مُحضَرَةٌ لديه ومسارعة إليه.
والصلاة شأنها في تفريح القلب وتقويته، وشرحه وابتهاجه ولذته أكبر شأن ... فهي من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهي منهاة عن الإثم، ودافعة لأدواء القلوب، ومطردة للداء عن الجسد، ومنورة للقلب، ومبيضة للوجه، ومنشطة للجوارح والنفس، وجالبة للرزق، ودافعة للظلم، وناصرة للمظلوم، وقامعة لأخلاط الشهوات، وحافظة للنعمة، ودافعة للنقمة، ومُنزِلة للرحمة، وكاشفة للغمة، ونافعة من كثير من أوجاع البطن.
أعظم أسباب شرح الصدر:
التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه؛ قال الله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 22]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125]، فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه.
النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويُوسِّعه، ويُفرِح القلب، فإذا فُقِد هذا النور من قلب العبد، ضاق وحَرِجَ، وصار في أضيق سجن وأصعبه.
العلم: فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد، انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم قلوبًا، وأحسنهم أخلاقًا، وأطيبهم عيشًا.
الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتنعم بعبادته: فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك ... وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا من له حِسٌّ به، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد، كان الصدر أفسح وأشرح، ولا يضيق إلا عند رؤية البطَّالين الفارغين من هذا الشأن، فرؤيتهم قذى عينه، ومخالطتهم حُمَّى روحه.
دوام ذكره على كل حال وفي كل موطن: فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه.
الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن وأنواع الإحسان: فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرًا، وأنكدهم عيشًا، وأعظمهم همًّا وغمًّا.
الشجاعة: فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البِطان، متسع القلب، والجبان أضيق الناس صدرًا، وأحصرهم قلبًا، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة له.
ومنها بل من أعظمها: إخراج دَغَلِ القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه، وتَحُولُ بينه وبين البَرْءِ، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرح صدره، ولم يُخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه، لم يحظَ من انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكون له مادتان تعتوِران على قلبه، وهو للمادة الغالبة عليه منهما.
ترك فضول النظر والكلام والاستماع، والمخالطة والأكل والنوم: فإن هذه الفضول تستحيل آلامًا وغمومًا، وهمومًا في القلب، تحصُرُهُ وتحبِسُه وتُضيِّقه ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا الله، ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم! وما أنكد عيشه! وما أسوأ حاله! وما أشد حصر قلبه!
ولا إله إلا الله، ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم! فلهذا نصيب وافر من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13]، ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 14].
لا بد من حصول الألم لكل نفسٍ آمنت أو رغِبت عن الإيمان:
من آمن بالرسل وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذَوه فابتُلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم ولم يُطِعْهم، عُوقب في الدنيا والآخرة، فحصل له ما يؤلمه، وكان هذا المؤلم له أعظم ألمًا وأدوم من ألم اتباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفسٍ آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمُعرِض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداءً، ثم يصير إلى الألم الدائم.
مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما:
أخبر سبحانه أنه: ﴿ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111]، وأعاضهم عليها الجنة، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضلَ كُتُبِه المنزلة من السماء؛ وهي: التوراة والإنجيل والقرآن، ثم أكد ذلك بإعلامهم أنه لا أحدَ أوفى بعهده منه تبارك وتعالى، ثم أكد ذلك بأن أمرهم بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم.
فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع ما أعظم خطره وأجله؛ فإن الله عز وجل هو المشتري، والثمن جنات النعيم والفوز برضاه، والتمتع برؤيته هناك، والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة والبشر، وإن سلعةً هذا شأنُها لقد هُيِّئت لأمر عظيم وخطب جسيم:
قد هيؤوك لأمر لو فطـِنتَ له = فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ
مهر المحبة والجنة بذلُ النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، فما للجبان المعرض المفلس وَسَوْمِ هذه السلعة.
الحازم من أرضى الله ولو غضب الناس:
الإنسان مدني بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذَوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب، تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتُقًى حلَّ بين قوم فُجَّار ظلمة، ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم، أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم، سلِم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف أضعاف ما كان يخافه ابتداءً لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلِم منها فلا بد أن يُهان ويعاقب على يد غيرهم، فالحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية: "من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا".
فوائد متنوعة:
• الدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها، وهذا كانت سنته صلى الله عليه وسلم في دعائه في الصلاة؛ إذ كان يدعو في صلبها، فأما بعد الفراغ منها، فلم يثبت عنه أنه كان يعتاد الدعاء.
• السعادة دائرة مع الصدق والتصديق، والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب.
• النعاس في الحرب وعند الخوف دليل على الأمن وهو من الله، وفي الصلاة ومجالس الذكر والعلم من الشيطان.
• قال ثابت بن قرة: "راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة القلب في قلة الآثام، وراحة اللسان في قلة الكلام".
• القوى تتضاعف وتزيد بالطِيْبِ، كما تزيد بالغذاء والشراب، والدَّعَةِ والسرور، ومعاشرة الأحبة، وحدوث الأمور المحبوبة.
• الثُّقلاء والبُغَضاء معاشرتهم تُوهن القوى، وتجلب الهمَّ والغمَّ، وهي للروح بمنزلة الحُمَّى للبدن، وبمنزلة الرائحة الكريهة.
• أصول الطب ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة.
• رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر، واتساع القلب، وقرة العين، وحياة الروح ... وأكمل الخلق متابعة له، أكملهم انشراحًا ولذةً وقرةَ عين، وعلى حسب متابعته ينال العبد من انشراح صدره، وقرة عينه، ولذة روحه ما ينال.
فصل في شرح معاني أسمائه صلى الله عليه وسلم:
الماحي: الذي محا الله به الكفر، ولم يُمحَ الكفر بأحد من الخلق ما مُحِي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الحاشر، فالحشر هو الضَّمُّ والجمع، فهو الذي يُحشَر الناسُ على قدمه، فكأنه بُعِث ليحشُر الناس.
والعاقب: الذي جاء عقيب الأنبياء، فليس بعده نبي، فإن العاقب هو الآخر، فهو بمنزلة الخاتم.
وأما المقفِّي فكذلك، وهو الذي قفَّى على آثار من تقدَّمه من الرسل، فقفَّى الله به على آثار من سبقه من الرسل.
وأما نبي التوبة، فهو الذي فتح الله به بابَ التوبة على أهل الأرض، فتاب الله به عليهم توبةً لم يحصل مثلها لأهل الأرض قبله.
وأما نبي الملحمة، فهو الذي بُعِث بجهاد أعداء الله، فلم يجاهد نبيٌّ وأمتُه قطُّ ما جاهد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأمته.
وأما نبيُّ الرحمة، فهو الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، فرحم به أهلَ الأرض كلَّهم مؤمنهم وكافرهم.
وأما الفاتح، فهو الذي فتح الله به بابَ الهدى بعد أن كان مُرْتَجًا، وفتحَ به الأعينَ العُمْيَ والآذانَ الصُّمَّ والقلوبَ الغُلْفَ، وفتح به أمصارَ الكفر، وفتح به أبوابَ الجنة، وفتح به طرقَ العلم النافع والعمل الصالح، ففتح به الدنيا والآخرة، والقلوب والأسماع والأبصار، والأمصار.
وأما الضحوك القتَّال، فاسمان مزدوجان لا ينفرد أحدُهما عن الآخر، فإنه ضحوك في وجوه المؤمنين غير عابس ولا مقطِّب ولا غضوب ولا فظٍّ، قتَّال لأعداء الله، لا تأخذه فيهم لومة لائم.
وأما البشير، فهو المبشِّر لمن أطاعه بالثواب، والنذير المنذر لمن عصاه بالعقاب.
وسمَّاه الله ﴿ سِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: ٤٦]، وسمَّى الشمس ﴿ سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾ [النبأ: ١٣]، والمنير: هو الذي يُنِير من غير إحراق، بخلاف «الوهَّاج» فإنَّ فيه نوع إحراق وتوهُّج.
فصل في مؤذِّنيه صلى الله عليه وسلم:
وكانوا أربعةً: اثنان بالمدينة: بلال بن رباح، وهو أول من أذَّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن أمِّ مكتوم القرشي العامري الأعمى، وبقباء: سعدُ القَرَظ مولى عمَّار بن ياسر، وبمكة: أبو محذورة، واسمه أوس بن مِعْيَر الجُمَحي.
وكان أبو محذورة منهم يرجِّع الأذان ويثنِّي الإقامة، وبلال لا يرجِّع، ويُفرد الإقامة؛ فأخذ الشافعيُّ وأهل مكة بأذان أبي محذورة وإقامة بلال، وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، وأخذ الإمام أحمد في أهل الحديث وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالفهم مالك في موضعين: إعادة التكبير وتثنية لفظة الإقامة، فإنه لا يكررها.
فصل في حَرَسه صلى الله عليه وسلم:
فمنهم: سعد بن معاذ، حرَسه يوم بدر حين نام في العريش، ومنهم محمد بن مَسْلَمة حرَسه يوم أحد، والزبير بن العوام حرَسه يوم الخندق، ومنهم: عبَّاد بن بشر، وهو الذي كان على حَرَسه، وحرَسه جماعة آخرون غير هؤلاء.
فلما نزل قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: ٦٧] خرج على الناس، فأخبرهم بها، وصرَف الحرَس.
فصل في ملابسه صلى الله عليه وسلم:
كانت له عِمامة تسمى: السَّحاب، كساها عليًّا، وكان يلبسها تحت القلنسوة[1]، وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة، وكان إذا اعتمَّ أرخى عمامته بين كتفيه، كما روى مسلم في صحيحه.
ولبس القميص وكان أحبَّ الثياب إليه، وكان كمُّه إلى الرُّسْغ.
ولبِس الجُبَّةَ[2]، والفَرُّوجَ وهو شبه القَباء[3] (قالوا: هو القباء المشقوق من خلفه)، والفَرَجيَّة[4]، ولبِس القَباء أيضًا، ولبِس في السفر جبّةً ضيقة الكمَّين.
ولبِس الإزار والرداء، قال الواقدي: كان رداؤه بُرْدةً طول ست أذرع في ثلاثة وشبر، وإزاره من نسج عُمَان طول أربع أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر.
ولبِس حُلَّةً حمراء، والحُلَّة: إزار ورداء، ولا تكون الحُلَّة إلا اسمًا للثوبين معًا، وغلِط من ظنَّ أنها كانت حمراء بحتًا لا يخالطها غيرها، وإنما الحُلَّة الحمراء: بردان يمانيان منسوجان بخطوط حُمْر مع الأسود.
ولبِس الخَميصة[5] المُعْلَمة والساذجة[6]، ولبِس ثوبًا أسود، ولبِس الفروة المكفوفة بالسُّندُس[7].
ولبس الخفَّين، ولبس النعل الذي يسمَّى: التاسُومة[8].
ولبس الخاتم، واختلفت الأحاديث هل كان في يمناه أو يسراه، وكلُّها صحيحة السند.
ولبس البيضة التي تسمَّى: الخُوذة، ولبس الدِّرع الذي يُسمَّى: الزَّرْديَّة، وظاهَرَ يوم أحد بين درعين.
وكان له صلى الله عليه وسلم بُردان أخضران، وكساء أسود، وكساء أحمر ملبَّد، وكساء من شَعْر.
وكان قميصه من قطن، وكان قصيرَ الطول قصيرَ الكُمِّ، وأما هذه الأكمام الواسعة الطِّوال التي هي كالأخراج، فلم يلبَسها هو ولا أحدٌ من أصحابه البتة، وهي مخالفة لسنَّته، وفي جوازها نظر، فإنها من جنس الخيلاء.
وكان أحبَّ الثياب إليه القميصُ، والحِبرَةُ وهي ضرب من البرود فيه حمرة.
وكان أحبَّ الألوان إليه البياض، وقال: «هي من خير ثيابكم، فالبسوها وكفِّنوا فيها موتاكم».
وكان أغلب ما يلبس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما نُسِج من القطن، وربما لبسوا ما نُسِج من الصوف والكتَّان.
فصل في هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم في الطعام والشراب:
كان هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم في الطعام: لا يرُدُّ موجودًا، ولا يتكلَّف مفقودًا، فما قُرِّب إليه شيءٌ من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافَه نفسُه فيتركه من غير تحريم، وما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، كما ترك أكل الضَّبِّ لما لم يعتَدْه، ولم يحرِّمه على الأمة، بل أُكِل على مائدته وهو ينظر.
وأكَلَ الحلوى والعسل وكان يحبُّهما، وأكل لحم الجَزور والضَّأن والدَّجاج، ولحم الحُبارى، ولحم حمار الوحش والأرنب، وطعام البحر، وأكل الشِّواء، وأكل الرُّطَب والتمر.
وشرب اللبن خالصًا ومَشُوبًا، والسَّويق، والعسل بالماء، وشرب نقيعَ التمر.
وأكل الخَزيرة[9]، وأكل القِثَّاء بالرُّطَب، وأكل الأَقِط، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز والخلَّ، وأكل الثريد، وهو الخبز باللحم، وأكل الخبز بالإهالة، وهي الودك، وهو الشحم المُذاب، وأكل من الكبد المشويَّة، وأكل القَدِيد، وأكل الدُّبَّاء[10] المطبوخة وكان يحبُّها، وأكل المسلوقة، وأكل الثَّريد بالسَّمن، وأكل الجبن، وأكل الخبز بالزيت، وأكل البطِّيخ بالرُّطَب، وأكل التمر بالزُّبْد، وكان يحبه.
فصل في هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم في نومه وانتباهه:
كان صلى الله عليه وسلم ينام على الفراش تارةً، وعلى النِّطع تارةً[11]، وعلى الحصير تارةً، وعلى الأرض تارةً؛ وعلى السَّرير تارةً برماله، وتارةً عليه كساء أسود، وكان فراشه صلى الله عليه وسلم أَدَمًا حشوُه لِيف[12].
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الركوب:
ركِبَ صلى الله عليه وسلم الخيلَ، والإبل، والبغال، والحمير، وركب الفرسَ مسرَّجةً تارةً وعُرْيًا أخرى، وكان يجريها في بعض الأحيان، وكان يركب وحده وهو الأكثر، وربما أردف خلفه على البعير، وربما أردف خلفه وأركب أمامه فكانوا ثلاثةً على البعير، وأردف الرجال، وأردف بعض نسائه.
وكان أكثر مراكبه الخيل والإبل، وأما البغال فالمعروف أنه كان عنده منها بغلة واحدة أهداها له بعضُ الملوك، ولم تكن البغال مشهورةً بأرض العرب.
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في مشيه وحده ومع أصحابه:
كان إذا مشى تكفَّى تكفِّيًا[13]، وكان أسرع الناس مِشْيةً وأحسنَها وأسكنَها.
وأما مشيه مع أصحابه فكانوا يمشون بين يديه، وهو خلفهم، ويقول: «دَعُوا ظهري للملائكة». ولهذا في الحديث: وكان يسوق أصحابه، وكان يمشي حافيًا ومنتعلًا، وكان يماشي أصحابه فرادى وجماعةً.
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الفطرة وتوابعها:
وكان هديه في حلق الرأس تركَه كله أو أخذَه كله، ولم يكن يحلق بعضه ويدع بعضه، ولم يُحفَظ عنه حلقُه إلا في نُسُك.
وكان أولًا يَسْدُل شَعره، ثم فَرَقه، والفرق: أن يجعل شَعره فِرقتين وكلُّ فرقة ذؤابة، والسَّدْل أن يسدله من ورائه ولا يجعله فرقتين.
وكان له مُكحُلة يكتحل منها كلَّ ليلة ثلاثًا في كلِّ عين.
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سُكَّة[14] يتطيَّب منها، وكان أحبَّ الطِّيب إليه المسكُ.
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود القرآن:
كان صلى الله عليه وسلم إذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجد، وربما قال في سجوده: «سجد وجهي للذي خلقه وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته»، وربما قال: «اللهمَّ احطُطْ عنِّي بها وزرًا، واكتب لي بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذُخْرًا، وتقبَّلْها منِّي كما تقبَّلتَها من عبدك داود». ذكرهما أهل «السنن».
ولم ينقَل عنه أنه كان يكبِّر للرفع من هذا السجود؛ ولذلك لم يذكره الخِرَقي ومتقدِّمو الأصحاب، ولا نُقِل عنه فيه تشهُّد ولا سلام البتة.
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره وعبادته فيه:
كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم دائرةً بين أربعة أسفار: سفر لهجرته، وسفر للجهاد وهو أكثرها، وسفر للعمرة، وسفر للحج.
وكان إذا أراد سفرًا أقرَعَ بين نسائه، فأيَّتُهن خرج سهمُها سافر بها معه، ولما حجَّ سافر بهنَّ جميعًا.
وكان إذا سافر خرج من أول النهار، وكان يستحِبُّ الخروجَ يوم الخميس، ودعا الله أن يبارك لأمته في بكورها، وكان إذا بعث سريَّةً أو جيشًا بعثهم من أول النهار، وأمر المسافرين إذا كانوا ثلاثةً أن يؤمِّروا أحدهم.
ونهى أن يسافر الرجل وحده، وأخبر أنَّ الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب.
وكان هو وأصحابه إذا علَوا الثَّنايا كبَّروا، وإذا هبطوا الأودية سبَّحوا.
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في عيادة المرضى:
كان يعود مَن مرِضَ من أصحابه، وعاد غلامًا كان يخدمه من أهل الكتاب، وعاد عمَّه وهو مشرك، فعرض عليهما الإسلام، فأسلم اليهودي، ولم يُسلم عمُّه.
وكان يمسح بيده اليمنى على المريض، ويقول: «اللهمَّ ربَّ الناس، أذهِبِ البأسَ، اشْفِ وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا».
وكان يدعو للمريض ثلاثًا، كما قال لسعد: «اللهمَّ اشْفِ سعدًا، اللهمَّ اشْفِ سعدًا، اللهمَّ اشْفِ سعدًا».
وكان يرقي مَن به قُرْحة أو جُرْح أو شكوى، فيضع سبَّابته بالأرض، ثم يرفعها، ويقول: «بسم الله، تربةُ أرضنا بريقةِ بعضنا، يُشْفَى سقيمُنا بإذن ربِّنا» هذا في «الصحيحين».
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الطفل:
وكان من هديه: الصلاة على الطفل، فصحَّ عنه أنه قال: «الطفل يصلَّى عليه».
وفي «سنن ابن ماجه» مرفوعًا: «صلُّوا على أطفالكم، فإنَّهم من أفراطكم»[15].
قال أحمد بن أبي عَبْدة: سألتُ أحمد: متى يجب أن يصلَّى على السِّقْط؟ قال: إذا أتى عليه أربعة أشهر؛ لأنه ينفخ فيه الروح، قلت: فحديث المغيرة بن شعبة: «الطفل يصلَّى عليه»؟ قال: صحيح مرفوع، قلت: ليس في هذا بيان الأربعة الأشهر ولا غيره؟ قال: قد قاله سعيد بن المسيِّب.
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في اتباع الجنازة والإسراع بها:
وكان إذا صلَّى عليه تبعه إلى المقابر ماشيًا أمامه، وهذه كانت سنَّة خلفائه الراشدين من بعده.
وسَنّ لمن تبعها إن كان راكبًا أن يكون وراءها، وإن كان ماشيًا أن يكون قريبًا منها إما خلفها أو أمامها أو عن يمينها أو عن شمالها.
وكان يأمر بالإسراع بها حتى إن كانوا ليرمُلون بها رمَلًا، وأما دبيب الناس اليوم خطوةً خطوةً، فبدعة مكروهة مخالفة للسنة، متضمِّنة للتشبُّه بأهل الكتاب اليهود، وكان أبو بكرة يرفع السوط على من يفعل ذلك، ويقول: لقد رأيتُنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمُل رمَلًا.
وكان إذا تبعها لم يجلس حتى توضع، وقال: «إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع».
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الغائب:
ولم يكن من هديه وسنَّته الصلاةُ على كلِّ غائب ميِّت، فقد مات خلق كثير من المسلمين، وهم غُيَّب، فلم يصلِّ عليهم، وصحَّ عنه أنه صلَّى على النجاشي صلاته على الميِّت.
فاختلف الناس في ذلك على ثلاث طرق:
إحداها: أنَّ هذا تشريع منه وسنَّة للأمة: الصلاة على كلِّ غائب، وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
وقال أبو حنيفة ومالك: هذا خاصٌّ به، وليس ذلك لغيره، قال أصحابهما: ومن الجائز أن يكون رُفِعَ له سريرُه، فصلَّى عليه وهو يراه صلاتَه على الحاضر المشاهَد وإن كان على مسافة من البعد. والصحابة وإن لم يروه فهم تابعون للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. قالوا: ويدل على هذا أنه لم ينقل عنه أنه كان يصلِّي على كلِّ الغائبين غيره، وتركُه سنَّة كما أنَّ فعلَه سنة، ولا سبيل لأحد بعده إلى أن يعاين سرير الميت من المسافة البعيدة، ويُرفَع له حتى يصلِّي عليه، فعُلِم أنَّ ذلك مخصوص به.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب أنَّ الغائب إن مات ببلد لم يصلَّ عليه فيه صُلِّي عليه صلاة الغائب، كما صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي؛ لأنه مات بين الكفار، فلم يصلَّ عليه، وإن صُلِّي عليه حيث مات لم يصلَّ عليه صلاة الغائب؛ لأنَّ الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم صلَّى على الغائب وترك. وفعلُه سنَّة، وتركُه سنَّة، وهذا له موضع، وهذا له موضع، والله أعلم.
فالأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وأصحُّها هذا التفصيل، والمشهور عند أصحابه الصلاة عليه مطلقًا.
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أوقات الدفن واللحد وما يُقال عند الدفن والتثبيت
وكان من هديه: ألَّا يُدفن الميِّت عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا حين يقوم قائم الظهيرة.
وكان من هديه: اللَّحد، وتعميق القبر، وتوسيعه من عند رأس الميِّت ورجليه. ويذكر عنه أنه كان إذا وضع الميِّت في القبر قال: «بسم الله، وبالله، وعلى ملَّة رسول الله»، وفي رواية: «بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملَّة رسول الله».
ويذكر عنه أيضًا أنه كان يحثو على الميِّت إذا دُفِن التُّراب من قبل رأسه ثلاثًا.
وكان إذا فرغ من دفن الميِّت قام على قبره هو وأصحابه، وسأل له التثبيت، وأمرهم أن يسألوا له التثبيت، ولم يكن يجلس يقرأ عند القبر ولا يلقِّن الميِّتَ، كما يفعله الناس اليوم.
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في تعزية أهل الميت وصنع الطعام لهم:
وكان من هديه تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه أن يُجتمَع للعَزاء، ويُقرأ له القرآن لا عند القبر ولا غيره، وكلُّ هذا بدعة حادثة بعده مكروهة.
وكان من هديه: السكونُ، والرِّضى بقضاء الله، والحمدُ لله، والاسترجاع، وبرِئ ممن خرَق لأجل المصيبة ثيابه، أو رفع صوته بالنَّدْب والنِّياحة، أو حلَق لها شعره.
وكان من هديه: أنَّ أهل الميت لا يتكلَّفون الطعام للناس؛ بل أمَر أن يصنع النَّاسُ لهم طعامًا يرسلونه إليهم، وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشِّيَم والحملِ عن أهل الميت؛ فإنَّهم في شغلٍ بمصابهم عن إطعام الناس
.
فصل فيمن هو أهْلٌ لأخْذِ الزكاة:
كان إذا عَلِم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه، وإن سأله أحَدٌ من الزكاة ولم يعرف حاله أعطاه، بَعْدَ أن يُخبِره أنه لا حَظَّ فيها لغَنِيٍّ ولا لقَوِيٍّ مكتسب.
فصل في نهي المتصدِّق أن يشتري صدقته:
كان ينهى المتصدِّقَ أن يشتري صدقتَه، وكان يُبِيح للغنيِّ أن يأكل من الصدقة إذا أهداها إليه الفقير، وأكل صلى الله عليه وسلم من لحمٍ تُصدِّقَ به على بَرِيرة، وقال: «هو عليها صدقةٌ، ولنا منها هديَّة».
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوُّع:
كان يتنوَّع في أصناف عطائه وصدقته، فتارةً بالهبة، وتارةً بالصدقة، وتارةً بالهدية، وتارةً يَشتري الشيء، ثمَّ يُعطي البائع الثمنَ والسِّلْعةَ جميعًا، كما فعل بجابر، وتارةً كان يقترض الشيءَ فيردُّ أكثرَ منه وأفضلَ، ويشتري الشيءَ فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهديةَ، ويكافئ عليها بأكثَر منها أو بأضعافها، تلطُّفًا وتنوُّعًا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن.
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع:
كان يصوم حتَّى يُقال: لا يُفطِر، ويُفطِر حتَّى يُقال: لا يصوم، وما استكمل صيام شهرٍ غير رمضان، وما كان يصوم في شهرٍ أكثرَ ممَّا يصوم في شعبان،ولم يكن يخرج عنه شهرٌ حتَّى يصوم منه.
ولم يصم الثَّلاثة الأشهر سردًا كما يفعله بعض النَّاس، ولا صام رجبًا قطُّ، ولا استحبَّ صيامه، بل روي عنه النَّهي عن صيامه؛ ذكره ابن ماجه.
وكان يتحرَّى صيام يوم الاثنين والخميس، وقال ابن عبَّاسٍ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفطِر أيَّام البيض في حَضَرٍ ولا سفرٍ، ذكره النَّسائيُّ، وكان يحضُّ على صيامها.
وقال ابن مسعودٍ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غُرَّة كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ؛ ذكره أبو داود والنَّسائي.
وقالت عائشة: لم يكن يُبالي من أيِّ الشَّهر يصومها؛ ذكره مسلم. ولا تناقضَ بين هذه الآثار.
وكان صلى الله عليه وسلم يدخل على أهله فيقول: «هل عندكم شيءٌ؟»، فإن قالوا: لا، قال: «إنِّي إذًا صائمٌ»، فينشئ النيَّة للتَّطوُّع من النَّهار، وكان أحيانًا ينوي صوم التَّطوُّع ثمَّ يفطر بعدُ، أخبرت عائشة عنه بهذا وهذا، فالأوَّل في «صحيح مسلم»، والثَّاني في «كتاب النَّسائي».
وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان صائمًا ونزل على قومٍ أتمَّ صيامه ولم يفطر، كما دخل على أم سُليم، فأتتْه بتمرٍ وسَمْنٍ، فقال: «أعيدوا سَمْنَكم في سِقائه، وتمرَكم في وعائه، فإنِّي صائمٌ»، ولكنَّ أُمَّ سليم كانت عنده بمنزلة أهل بيته، وقد ثبت عنه في «الصَّحيح»: «إذا دُعي أحدكم إلى طعامٍ وهو صائمٌ فليقل: إنِّي صائمٌ».
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف:
شُرِع الاعتكاف في أفضل أيَّام الصَّوم، وهو العشر الأخير من رمضان، ولم ينقل عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه اعتكف مفطرًا قطُّ، بل قد قالت عائشة: «لا اعتكافَ إلا بصومٍ»، ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصَّوم، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصَّوم، فالقول الرَّاجح في الدَّليل الذي عليه جمهور السَّلف: أنَّ الصَّوم شرطٌ في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجِّحه شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحَه.
كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتَّى توفَّاه الله عزَّ وجلَّ، وتركه مرَّةً، فقضاه في شوَّالٍ.
واعتكف مرَّةً العشرَ الأوَّل ثمَّ الأوسط ثمَّ العشر الأخير، يلتمس ليلة القدر، ثمَّ تبيَّن له أنَّها في العشر الأخير، فداومَ على اعتكافه حتَّى لحق بربِّه عزَّ وجلَّ.
وكان يأمر بخِبَاءٍ فيُضرَب له في المسجد، يخلو فيه بربِّه عزَّ وجلَّ.
وكان إذا أراد الاعتكاف صلَّى الفجر ثمَّ دخله، فأمر به مرَّةً فضُرِب له، فأمر أزواجه بأخبيتهنَّ فضُرِبت، فلمَّا صلَّى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية، فأمر بخبائه فقُوِّض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتَّى اعتكف في العشر الأوَّل من شوَّال.
وكان يعتكف كلَّ سنةٍ عشرة أيَّامٍ، فلمَّا كان العام الذي قُبِض فيه اعتكف عشرين يومًا، وكان يعارضه جبريل بالقرآن كلَّ سنةٍ مرَّةً، فلمَّا كان ذلك العام عارضه به مرَّتين، وكان يعرض عليه القرآن أيضًا في كلِّ سنةٍ مرَّةً فعرض عليه تلك السَّنة مرَّتين.
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حجه وعمره:
في «الصَّحيحين» عن أنس بن مالكٍ قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عُمَرٍ، كلُّهنَّ في ذي القعدة، إلا الَّتي مع حجَّته: عمرةٌ من الحديبية أو زمنَ الحديبية في ذي القعدة، وعمرةٌ من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرةٌ من الجِعرانة حيث قَسَم غنائم حنينٍ في ذي القعدة، وعمرةٌ مع حجَّته.
ولم يكن في عُمَره عمرةٌ واحدةٌ خارجًا من مكَّة كما يفعله كثيرٌ من النَّاس اليوم، وإنَّما كانت عُمَره كلُّها داخلًا إلى مكَّة، وقد أقام بعد الوحي بمكَّة ثلاث عشرة سنةً لم يُنقَل عنه أنَّه اعتمر خارجًا من مكَّة في تلك المدَّة أصلًا، فالعمرة الَّتي فعلَها وشَرعَها هي عمرة الدَّاخل إلى مكَّة، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحلِّ ليعتمر.
والمقصود أنَّ عُمَره كلَّها كانت في أشهر الحجِّ مخالفةً لهدي المشركين، فإنَّهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحجِّ ويقولون: هي من أفجر الفجور، وهذا دليلٌ على أنَّ الاعتمار في أشهر الحجِّ أفضل منه في رجبٍ بلا شكٍّ.
وأمَّا التفضيل بينه وبين الاعتمار في رمضان فموضع نظرٍ، فقد صحَّ عنه أنَّه أمر أمَّ مَعْقِلٍ لمَّا فاتها الحجُّ معه أن تعتمر في رمضان، وأخبرها أنَّ عمرةً في رمضان تعدل حجَّةً.
وأيضًا فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضلُ الزَّمان وأفضلُ البقاع، ولكن لم يكن الله ليختار لنبيِّه في عُمَره إلا أوْلى الأوقات وأحقَّها بها، فكانت العمرة في أشهر الحجِّ نظيرَ وقوع الحجِّ في أشهره، وهذه الأشهر قد خصَّها الله بهذه العبادة، وجعلها وقتًا لها، والعمرة حجٌّ أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحجِّ، وذو القعدة أوسطها، وهذا ممَّا يُستخار الله فيه، فمن كان عنده فضلُ علمٍ فليرشد إليه.
وقد يقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهمُّ من العمرة، ولم يكن يمكنه الجمعُ بين تلك العبادات وبين العمرة، فأخَّر العمرة إلى أشهر الحجِّ، ووفَّر نفسَه على تلك العبادات في رمضان، مع ما في ترك ذلك من الرَّحمة بأمَّته والرَّأفة بهم، فإنَّه لو اعتمر في رمضان لبادرت الأمَّة إلى ذلك، وكان يشقُّ عليها الجمع بين العمرة والصَّوم، وربَّما لا تسمح أكثر النُّفوس بالفطر في هذه العبادة حرصًا على تحصيل العمرة وصوم رمضان، فتحصل المشقَّة، فأخَّرها إلى أشهر الحجِّ، وقد كان يترك كثيرًا من العمل وهو يحبُّ أن يعمله خشيةَ المشقَّة عليهم.
ولم يُحفَظ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه اعتمر في السَّنة إلا مرَّةً واحدةً، ولم يعتمر في سنةٍ مرَّتين، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة» دليلٌ على التَّفريق بين الحجِّ والعمرة في التَّكرار، وتنبيهٌ على ذلك؛ إذ لو كانت العمرة كالحجِّ لا تُفعل في السَّنة إلا مرَّةً لسوَّى بينهما ولم يفرِّق.
ولا خلاف أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يحجَّ بعد هجرته إلى المدينة سوى حجَّةٍ واحدةٍ وهي حجَّة الوداع، ولا خلافَ أنَّها كانت سنة عشرٍ.
ولمَّا عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجِّ أعلمَ النَّاسَ أنَّه حاجٌّ، فتجهَّزوا للخروج معه، وسمع بذلك مَن حول المدينة، فقدموا يريدون الحجَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافاه في الطَّريق خلائقُ لا يُحصَون، فكانوا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مدَّ البصر، وخرج من المدينة نهارًا بعد الظُّهر لستٍّ بقين من ذي القعدة بعد أن صلَّى الظُّهر بها أربعًا، وخطبَهم قبل ذلك خطبةً علَّمهم فيها الإحرامَ وواجباتِه وسننَه.
في هديه صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكنى:
ثبت عنه أنَّه قال: «إنَّ أخنعَ اسمٍ عند الله رجلٌ تسمَّى مَلِكَ الأملاك، لا مَلِكَ إلا اللَّه».
وثبت عنه أنَّه قال: «أحبُّ الأسماء إلى الله عبداللَّه وعبدالرَّحمن، وأصدقها حارثٌ وهمَّامٌ، وأقبحها حربٌ ومرَّة».
وثبت عنه أنَّه قال: «لا تُسمِّينَّ غلامك يسارًا ولا رباحًا ولا نجيحًا ولا أفلح؛ فإنَّك تقول: أَثَمَّ هو؟ فلا يكون، فيقول: لا»[16].
وثبت عنه أنَّه غيَّر اسم عاصية، وقال: «أنتِ جميلةٌ»، وكان اسم جُويرية بَرَّة، فغيَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم جويرية.
وقالت زينب بنت أم سلمة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمَّى بهذا الاسم، وقال: «لا تُزكُّوا أنفسَكم، الله أعلمُ بأهل البرِّ منكم».
فصل في النهي عن تسمية العنب كرمًا:
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسمية العنب كَرْمًا، وقال: «الكَرْم قلبُ المؤمن»، وهذا لأنَّ هذه اللَّفظة تدلُّ على كثرة الخير والمنافع في المسمَّى بها، وقلب المؤمن هو المستحقُّ لذلك دون شجرة العنب، ولكن: هل المراد النَّهي عن تخصيص شجر العنب بهذا الاسم، وأنَّ قلب المؤمن أوْلَى به منه، فلا يُمنَع من تسميته بالكرم، كما قال في المسكين والرَّقوب[17] والمفلس، أو المراد أنَّ تسميته بهذا مع اتِّخاذ الخمر المحرَّم منه وصفٌ بالكرم والخير والمنافع لأصل هذا الشَّراب الخبيث المحرَّم، وذلك ذريعةٌ إلى مدْحِ ما حرَّم الله وتهييجِ النُّفوس عليه! هذا محتملٌ، والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم، والأولى ألا يُسمَّى شجر العنب كَرْمًا.
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ:
كان يتخيَّر في خطابه، ويختار لأُمَّته أحسنَ الألفاظ وأجملَها وألطفَها، وأبعدَها من ألفاظ أهل الجفاء والغِلْظة والفُحْش، فلم يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا ولا فظًّا.
وكان يكره أن يستعمل اللَّفظ الشَّريف المَصُون في حقِّ من ليس كذلك، وأن يستعمل اللَّفظ المَهِين المكروه في حقِّ من ليس من أهله.
ومن ذلك قوله: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلانٌ، ولكن قولوا: ما شاء الله ثمَّ شاء فلانٌ».
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبِّ الدَّهر، وقال: «إنَّ الله هو الدَّهر»، وفي حديثٍ آخر: «يقول الله عزَّ وجلَّ: يُؤذِيني ابنُ آدم فيسبُّ الدَّهرَ، وأنا الدَّهر، بيدي الأمرُ، أُقلِّب اللَّيلَ والنَّهار»، وفي حديثٍ آخر: «لا يقولنَّ أحدكم: يا خيبةَ الدَّهر».
ونهيُهُ صلى الله عليه وسلم أن يقول الرَّجل: «خَبُثَتْ نفسي»، ولكن يقول: «لَقِسَتْ نفسي»، ومعناهما واحدٌ؛ أي: غَثَتْ وساء خُلُقها، فكره لهم لفظ الخبث؛ لما فيه من القبح والشَّناعة، وأرشدهم إلى استعمال الحسن، وهجران القبيح، وإبدال اللَّفظ المكروه بأحسنَ منه.
ونهيهُ صلى الله عليه وسلم عن قول القائل بعد فوات الأمر: «لَو أنِّي فعلتُ كذا وكذا»، وقال: «إنَّها تفتح عملَ الشَّيطان»، وأرشده إلى ما هو أنفعُ له من هذه الكلمة، وهو أن يقول: «قَدَّر الله وما شاء فعل».
فصل في السلام على الصبيان والنساء:
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه مرَّ بصبيانٍ فسلَّم عليهم، ذكره مسلم.
وفي «صحيح البخاريِّ»: أنَّ الصَّحابة كانوا ينصرفون من الجمعة فيمرُّون على عجوزٍ في طريقهم فيسلِّمون عليها، فتُقدِّم لهم طعامًا من أصول السِّلْق والشَّعير.
وهذا هو الصَّواب في مسألة السَّلام على النِّساء، يُسلَّم على العجوز وذواتِ المحارم دونَ غيرهنَّ.
فصل في تسليم الصغير على الكبير والماشي على القاعد:
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في «صحيح البخاريِّ» وغيره تسليمُ الصَّغير على الكبير، والمارِّ على القاعد، والرَّاكبِ على الماشي، والقليلِ على الكثير.
وكان من هديه السَّلامُ عند المجيء إلى القوم، والسَّلام عند الانصراف عنهم، وثبت عنه أنَّه قال: «إذا قعدَ أحدُكم فلْيُسلِّم، وإذا قام فليسلِّم، فليست الأولى بأحقَّ من الآخرة».
وذكر أبو داود عنه: «إذا لقي أحدُكم صاحبَه فلْيُسَلِّم عليه، فإن حال بينهما شجرةٌ أو جِدارٌ ثمَّ لقيه فليسلِّم عليه أيضًا».
وقال أنس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتماشَون، فإذا لَقِيَتْهم شجرةٌ أو أَكَمةٌ تفرَّقوا يمينًا وشمالًا، وإذا التقَوا من ورائها سلَّم بعضُهم على بعضٍ.
ويُسَنُّ لداخل المسجد إذا كان فيه جماعةٌ ثلاث تحيَّاتٍ مترتِّبةٍ: أحدها أن يقول عند دخوله: «بسم الله والصَّلاة على رسول اللَّه»، ثمَّ يصلِّي ركعتين تحيَّة المسجد، ثمَّ يسلِّم على القوم.
فصل في التسليم على من يواجهه وتحمله السلام للغائب:
وكان يُسلِّم بنفسه على من يواجهه، ويُحمِّل السَّلام لمن يريد السَّلام عليه من الغائبين عنه، ويتحمَّل السَّلام لمن يبلِّغه إليه، كما تحمَّل السَّلام من الله عزَّ وجلَّ على صدِّيقة النِّساء خديجة بنت خُويلدٍ لمَّا قال له جبريل: «هذه خديجة قد أتتك بطعامٍ، فاقرأْها السَّلام من ربِّها، وبشِّرها ببيتٍ في الجنَّة».
وقال للصِّدِّيقة الثَّانية بنت الصِّدِّيق عائشة: «هذا جبريل يقرأ عليكِ السَّلام»، فقالت: وعليه السَّلام ورحمة الله وبركاته، يرى ما لا نرى.
فصل في بدء من لقيه بالسلام، ورد التحية بمثلها أو أفضل منها:
وكان يبدأ من لقيه بالسَّلام، وإذا سلَّم عليه أحدٌ ردَّ عليه مثلَ تحيَّته أو أفضلَ منها على الفور من غير تأخيرٍ، إلا لعذرٍ مثل حالة الصَّلاة، أو حالة قضاء الحاجة.
وكان يُسمِع المسلمَ ردَّه عليه، ولم يكن يردُّ بيده ولا رأسه ولا إصبعه إلا في الصَّلاة، فإنَّه كان يردُّ على من سلَّم عليه إشارةً، ثبت ذلك عنه في عدَّة أحاديث.
وكان من هديه تركُ السَّلام ابتداءً وردًّا على من أحدث حدثًا حتَّى يتوب منه، كما هجر كعبَ بن مالكٍ وصاحبيه، وكان كعب يسلِّم عليه ولا يدري هل حرَّك شفتيه بردِّ السَّلام عليه أم لا؟[18].
[1] القلنسوة: الطاقية، أو غطاء الرأس.
[2] الجُبَّة: ثوب سابغ، واسع الكمين، مشقوق المقدم، يلبس فوق الثياب.
[3] القَباء: ثوب يشبه القميص، ويلبس فوق الثياب أو القميص ويتمنطق عليه.
[4] الفَرَجيَّة: ثوب واسع مفرج من قدامه من أعلاه إلى أسفله، يلبس فوق سائر الثياب.
[5] الخَميصة: ثياب من خزٍّ أو صوف معلَم، وهي سود، كانت من لباس الناس.
[6] الساذجة: غير المنقوشة.
[7] المكفوفة بالسُّندُس: في أطرافها الديباج الرقيق، قال الأصمعي: المساتق: فِراءٌ طوال الأكمام. قال الخطَّابي: يشبه أن تكون هذه المُسْتقة مكفوفةً (وكفَّف القميص بالحرير: عمل على ذيله وأكمامه وجيبه كِفافًا من حرير. وكِفاف الثوب: حاشيته وأطرافه) بالسندس؛ لأن الفروة لا تكون سندسًا.
[8] التاسُومة: ويقال أيضًا: «تَسْمَة»، وتعني: الجلد غير المدبوغ، والسَّير الذي يُقَدُّ من الجلد.
[9] الخَزيرة: حِساء يُتَّخَذ من اللبن والدقيق.
[10] الدُّبَّاء: القرع واليقطين.
[11] النِّطع: بساط من جلد.
[12] أَدَمًا حشوُه لِيف: جلد مدبوغ محشو بقشر النخيل.
[13] التَّكفُّؤُ: التَّمايُل في المشي إلى الأمام.
[14] السُّكَّة: الطيب المركَّب.
[15] أفراطكم: جمع فَرَط: وهو من يتقدم القوم ويسبقهم.
[16] النهي محمول على التنزيه، وتركه أوْلى من فعله، وسبب النهي أن التسمية بتلك الأسماء تؤدي إلى أن يسمع المسلم ما يكرهه إذا سأل عمَّن كان هذا اسمه وهو غير موجود، فينفي المسؤول عنه، فيكون في رَدِّه شؤم بفقدان اليسر والربح والنجاح والفلاح، وفي ذلك بشاعة في الجواب واحتمال الوقوع في الطِّيَرَة.
[17] الذي لا يعيش له ولد؛ كما في الحديث في صحيح مسلم 2608.
[18] يُنظَر للفائدة: "شرح حديث كعب بن مالك في قصة تخلُّفه عن غزوة تبوك" للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.