أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي ملامح تربوية مستنبطة من{ فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء )

ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8].






تمهيد:
إن تصور الإنسان لمجمل علاقاته التي تتطلب منه تفاعلًا إيجابيًّا معها بحسب مستوى كل علاقة وحجمها ابتداءً من علاقته بخالقه سبحانه، ومرورًا بعلاقاته الاجتماعية الأخرى في إطار منظومة المجتمع التي يعيش فيها، كُل تلك العلاقات تتطلب منه منهجًا واضحًا يشمل تفاصيل كل شيء، ولا غرو أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد هيَّأا للإنسان في كل زمان ومكان منهجًا ربانيًّا محكمًا لكافة هذه العلاقات، لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وحتى تتحقق أعظم استفادة من هذا المنهج الرباني القويم يجب على الإنسان المسلم أن يبذل الجهد والمزيد من الاهتمام والعناية التامة بطلب العلم المؤصل من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، وفق سلف الأمة الصالح، حتى يكون في منأى عن الغلو والتطرف، أو الإفراط والتفريط.

أقوال العلماء في تفسير الآية موضوع المقال:
قال ابن كثير رحمه الله: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنً ايعني: الكُفَّار والفُجَّار، يعملون أعمالًا سيئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسون أنهم يحسنون صنعًا؛ أي: أفمن كان هكذا قد أضله الله، ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ؛ أي: بقدره كان ذلك، ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ؛ أي: لا تأسف على ذلك، فإن الله حكيم في قدره، إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي؛ لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام؛ ولهذا قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.
وقال ابن عاشور رحمه الله: الوقوع في هذه الحالة ناشئ من تزيين الشيطان له سوء عمله، فالمزين للأعمال السيئة هو الشيطان، قال تعالى: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [النمل: 24]، فرأوا أعمالهم السيئة حسنة، فعكفوا عليها ولم يقبلوا فيه نصيحة ناصح، ولا رسالة مرسل، قوله: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ؛ أي: فلا تفعل ذلك، فإنهم أوقعوا أنفسهم في تلك الحالة بتزيين الشيطان لهم ورؤيتهم ذلك حسنًا، وهو من فعل أنفسهم، فلماذا تتحسَّر عليهم، وإسناد الإضلال والهداية إلى الله بواسطة أنه خالق أسباب الضلال والاهتداء، وذلك من تصرُّفه تعالى بالخلق، وهو سِرُّ من الحكمة عظيم لا يُدرك غوره وله أصول وضوابط.
وقال ابن عثيمين رحمه الله كلامًا فيه عموم وشمول للآية الكريمة: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، من المزين؟ ذكر الله عز وجل أن المزين الشيطان، وسوء العمل يشمل كل الأعمال، سواء كان الشرك أو العدوان على الغير أو سوء السلوك وفساد الأخلاق أو غير ذلك، المهم أنه شامل لكل الأعمال، ﴿ فَرَآهُ حَسَنًا ﴾؛ أي: رَأَى سُوءَ عَمَلِه حَسَنًا، وهذا أشَدُّ ما يكون أن يكونَ الإنسان على خَطَأ، ويرى أنَّه على صَوَاب؛ لأَنَّ مثل هذا لا يَكَادُ يُقْلِعُ عن غَيِّه حَيْثُ إنَّه يَعْتَبِرُه صَوَابًا، ومن ذلك مثلًا: أصحاب الحيل المخادعون، فالمنافق مثلًا زين له سوء عمله؛ لأنه يرى أنه ذكي، وهذا مِن سُوءِ العمل، ومن أمثلة ذلك: الـمُتَحَايلون على الرِّبَا بأنواعِ الحِيَل، هؤلاء أيْضًا زُيِّنَ لهم سُوءُ أعمالِهم؛ ولهذا لا تكَاد تجِدُهم يقلِعُون على ما هم عليه؛ لأنَّه قد زُيِّنَ ذلك في نفوسِهم فلا يُقْلِعُون عنه، المهم أنَّ هذا له أَمْثِلَة كَثِيرة، وهذا مِن سُوءِ العمل.
الملامح التربوية المستنبطة من الآية موضوع المقال:


أولًا: تؤكد الآية الكريمة على خطورة اعتقاد الإنسان عملًا سيئًا ويراه حسنًا؛ لما لذلك من تبعات سلبية على الفرد والمجتمع- كما هو حال أي عمل سيئ - فربما يتَّسِع مداه ودائرة قبوله لدى الآخرين فيصبح أمرًا طبعيًّا، وتُبنى عليه تصوُّرات وقرارات مصيرية قد لا تُرى نتائجها العكسية في الوقت الحاضر، فالواجب العناية التامة بأعمالنا وأقوالنا وبخاصة المصيرية منها، والعناية بمراجعتها من أهل الاختصاص للتأكد من سلامتها وموافقتها لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وواقع الحال ومتطلبات العصر.


ثانيًا: توجد علاقة قوية ورابط وثيق بين رؤية الإنسان لعمله السيئ حسنًا، وبين تزيين الشيطان له؛ لأن الشيطان حريص أشد الحرص على إغواء بني آدم بشتى الوسائل الممكنة، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 48]، وقال سبحانه: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 24]، قال الطبري رحمه الله: "وحسَّن لهم إبليس عبادتهم الشمس، وسجودهم لها من دون الله، وحبَّب ذلك إليهم ﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ فمنعهم بتزيينه ذلك لهم أن يتبعوا الطريق المستقيم، وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه، ومعناه: فصدَّهم عن سبيل الحقِّ ﴿ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ فهم لما قد زين لهم الشيطان ما زين من السجود للشمس من دون الله والكفر به لا يهتدون لسبيل الحقِّ ولا يسلكونه، ولكنهم في ضلالهم الذي هم فيه يتردَّدون"؛ (انظر: مقالًا موسعًا للكاتب على موقع الألوكة: ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76].


ثالثًا: من الخيبة والخسران والحرمان وقلة التوفيق أن يسلك الإنسان في حياته مسلكًا يظن كل الظن أنه مستقيم، وهو بخلاف ذلك بل في وجهة قد تَهوي به إلى الشقاء والضياع والعياذ بالله، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103، 104]، قال الطبري رحمه الله: "هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هُدى واستقامة؛ بل كان على جَور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به، ﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون"، وقال ابن كثير رحمه الله: ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾؛ أي: عملوا أعمالًا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، ﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾؛ أي: يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون".
رابعًا: أشد الناس وقوعًا في رؤية أعمالهم السيئة حسنة أكثرهم بعدًا عن الله تعالى، ومن أعظم الانحراف وأشده الوقوع في الكفر والعياذ بالله، ثم ارتكاب المعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها، وغير ذلك من الانحرافات، وكلما كان الإنسان من الله أبعد كانت رؤيته لعمله السيئ حسنًا، قال تعالى: ﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الرعد: 33]، وقال سبحانه: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]، قال السعدي رحمه الله: "فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم، ويزينها في قلوبهم، حتى استحسنوها ورأوها حقًّا، وصار ذلك عقيدة في قلوبهم، وصفةً راسخةً ملازمة لهم؛ فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح".
خامسًا: عندما لا يشعر الإنسان بخطئه، أو تقصيره، ولا يرى فيه بأسًا، بل قد يراه حسنًا، فذلك انحراف في التصور والسلوك، وقد يكون بسبب تسلُّط الشيطان عليه، أو تسلط نفسه الأمَّارة بالسوء، فيزهو حينها بنفسه كِبْرًا وغُرورًا، وقد يظن في نفسه أنه هو الفاهم الذكي ويحتقر غيره في سوء فهمهم وقلة علمهم، ولم يعلم المسكين أن الله تعالى هو الذي علمه ورزقه الفهم والدراية، وفي أية لحظة فإن الله تعالى قادر على أن يسلبه ذلك؛ ولذلك جاءت الشريعة السمحة بتوجيهات عدة بتحريم الكبر واحتقار الآخرين، قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، قال ابن باز رحمه الله: "ينبغي للمؤمن أن يحذر أن يعجب بعمله، أو نفسه، أو أن يتكبَّر على إخوانه، يجب الحذر من ذلك، فإن الإنسان محلُّ الخطر، فينبغي له أن يُحاسب نفسه، وأن يُجاهدها حتى لا يقع في قلبه التكبُّر على إخوانه والعجب بنفسه فيهلك".
سادسًا: يحتاج المؤمن بصفة دائمة إلى محاسبة نفسه ومراجعتها للتأكد من مدى سلامة سيره على الصراط المستقيم، وبخاصة في الأمور المهمة التي تحتاج إلى تأنٍّ وحكمةٍ، وتأتي في مقدمتها شرائع الدين وأحكامه، ومن توجيهات الشريعة السمحة في محاسبة النفس، قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]، قال السعدي رحمه الله: "هذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه"، وقال صلى الله عليه وسلم: «الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها، وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ»؛ (الترمذي، حديث رقم: 2459، ابن ماجه، حديث رقم: 4260)، قال ابن عثيمين رحمه الله: "من دان نفسه"؛ يعني: من حاسبها ونظر ماذا فعل من المأمورات، وماذا ترك من المنهيات هل قام بما أُمر به؟ هل ترك ما نُهي عنه؟ إذا رأى من نفسه تفريطًا في الواجب استدركه إذا أمكن استدراكه، وقام به أو ببدنه إذا رأى من نفسه انتهاكًا لمحرم أقلع عنه وندم وتاب واستغفر".


سابعًا: يقع على عاتق الأسرة دور مهم في صياغة الفكر السليم والسلوكيات الإيجابية وتربية النشء عليها ليكونوا معاوِلَ بناء في المجتمع، وكلما كانت تربية النشء في داخل الأسرة تربية إسلامية أصيلة متكاملة، كان المجتمع أكثر استقرارًا ونضوجًا ورقيًّا، وتختفي معه الكثير من الظواهر السلبية، وإن ظهر بعضها في وقت معين يسهل علاجها والقضاء عليها، ومن أبرز من ينبغي أن يركز عليه الوالدان لتجنب أولادهما الوقوع في تزيين سوء أعمالهم ورؤيتها حسنة، ما يلي:
غرس القيم والمبادئ الإسلامية والأخلاق الفاضلة في نفوس النشء، وعرضها بأساليب تربوية مشوقة، وأن يكون الوالدان قدوةً حسنةً لأولادهم في شؤونهم كلها، فهذا أدعى لترسيخها والالتزام بها.
التعريف بالحق والباطل، والتمييز بينهما، والتحذير من شياطين الجن والإنس، وما يقومون به من ترويج للشُّبُهات والشهوات، وتحريف وتأويل فاسد لبعض النصوص الشرعية لكي يزينوا السوء ويقبحوا الحسن.
تحصين النشء بتقوية الإيمان بالله تعالى لديهم والتوكل عليه، ليكونوا سدًّا منيعًا أمام ترويج المعاصي والمنكرات من قبل أهل الشر والفساد.
الحرص التام على الأعمال الصالحة، وفي مقدمتها المحافظة على الصلوات، وتلاوة القرآن الكريم، والأذكار الشرعية، والتوبة والاستغفار من الذنوب والخطايا، والتذكير دائمًا بالآخرة والحساب والجزاء يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ثامنًا:من أقوى ما يُعين الإنسان على السلامة والابتعاد عن الزيغ والضلال والانحراف في الفكر والسلوك، ورؤية الأعمال السيئة حسنة؛ الإكثار من الدعاء، ومن الأدعية الشرعية المفيدة في هذا الجانب ما يلي:
الحديث الأول: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قالَ لي رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بالهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْم»؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 2725)، قال النووي رحمه الله: "معنى (سدِّدْني): وفِّقني واجعلني منتصبًا في جميع أموري مستقيمًا، وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمور، وأما الهدى هنا فهو الرشاد، ومعنى «وَاذْكُرْ بالهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْم»؛ أي: تذكر في حال دعائك بهذين اللفظين؛ لأن هادي الطريق لا يزيغ عنه، ومسدد السهم يحرص على تقويمه، ولا يستقيم رميه حتى يقومه، وكذا الداعي ينبغي أن يحرص على تسديد علمه وتقويمه، ولزومه السنة"؛ (شرح النووي على صحيح مسلم، ج 17، ص 43-44).
الحديث الثاني:قال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهمَّ ألْهِمني رُشْدي، وقِني شرَّ نَفْسي»؛ (أحمد، المسند، 33/197، الترمذي، حديث رقم: 19992)؛ قال ابن عثيمين رحمه الله في معرض حديثه عن فضل الدعاء، وما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر به: «اللَّهمَّ ألْهِمني رُشْدي وقِني شرَّ نَفْسي»، «ألهمني رشدي»؛ يعني: اجعلني موفقًا للرشد، والرشد ضد الغي، والغي هو المعاصي والشر والفساد، والإنسان إذا وفق للرشد فإنه موفق، وهذا هو غاية المؤمنين الذين قال الله عنهم: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ [الحجرات: 7].


الحديث الثالث: دعاء: «اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل»، (دعاء مأثور، ابن شاهين، مذاهب أهل السنة، 38)، قال ابن عثيمين رحمه الله في فتوى لسائل في الحرم المكي الشريف؛ عام 1418 هـ، ختمها رحمه الله بقوله: "واسألوا الله دائمًا قولوا: «اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطلَ باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل»، ادْعُ اللهَ دائمًا بهذا، وادْعُ الله دائمًا أن يثبتكم على الحق أحياءً وأمواتًا، فإن الله يقول: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27].
تاسعًا: من الأمور المهمة التي ينبغي الإشارة إليها، ويجب أن تكون حاضرة في عقل ووجدان كل مسلم لتجنب المصادمات والصراعات بين الناس وما ينتج عنها من فُرقة وتشتُّت في منظومة العلاقات الاجتماعية؛ القناعة التامة بوجود اختلافات في وجهات النظر بين الناس حول موضوعات وقضايا معينة، فلا نسقط الآية موضوع المقال على كل عمل يخالف رأينا، فالاختلاف سنة اجتماعية معتبرة، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [هود: 118]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: ولا يزال الخُلف بين الناس في أديانهم، واعتقادات مِلَلهم، ونِحلهم، ومذاهبهم، وآرائهم"، وهنا ينبغي أن تكون هناك مساحة من اتساع الفكر وقبول واحترام وجهات النظر المخالفة، ما دام في إطار الأصول والقواعد الشرعية، ولها مسوغ شرعي معتبر، حفاظًا على سلامة المجتمع من التشتُّت والخصام، ولكي لا تكون هناك فرصة مواتية لشياطين الإنس والجن لبذر بذور التناحُر والقطيعة بين أبناء المجتمع الواحد.


عاشرًا: الخطأ والتقصير وسوء الفهم من لوازم الطبيعة البشرية، وهي بحاجة دائمة إلى التذكيروالتناصح بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن تيقَّن حقَّ اليقين رؤية تقصير معين عند أخيه المسلم، فالواجب نصحه وتذكيره، قال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ»؛ (صحيح مسلم، رقم: 55)، وقال عليه الصلاة والسلام: «المؤمِنُ مرآةُ أخيهِ، المؤمنُ أخو المؤمنِ يَكُفُّ عليهِ ضَيْعَتَه ويحوطُه مِن ورائِه»؛ (الألباني، صحيح الأدب المفرد، رقم: 178)، قال ابن باز رحمه الله: "أنت مرآة لأخيك وهو مرآة لك، إذا رأيت شيئًا يشينه نبهته برفق وحكمة وإظهار المودة والنصح حتى يزيل ذلك الشيء الذي يشينه وينقصه، وهو كذلك إذا رأى فيك ما يشينك نبهك بلطف ورفق ومحبة وعدم عنف حتى تزيل ما يشينك وما يقدح فيك من أخلاق وأعمال".


الحادي عشر:هناك ملمح مهم؛ فعندما يُوجه للإنسان نصيحة لأي أمر كان، ينبغي احترام القائل وقبول النصيحة، فقد تكون النصيحة في محلها، والمبادرة بمراجعة النفس، فلآخرون لهم القدرة على رؤية وملاحظة ما في غيرهم بما لا يراه الشخص في نفسه، فلا تواجه بعنف أو اشمئزاز أو تعالٍ، ويكون شعار المنصوح مقولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "رحم الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي"؛ (الغزالي، إحياء علوم الدين، 3/64)، والواجب أيضًا القبول الحسن والرد الحسن، ولعل الآية الكريمة: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34] تؤكد هذا المعنى، فإذا كان الذي أخطأ في حقك الأولى تقابله بالتي هي أحسن، فكيف بمن أسدى إليك نصيحة! فيكون القبول أعظم والرد أفضل، قال ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "يعني إذا أساء إليك إنسان فلا تقابله بإساءة، ولا تقابله بحسنة أيضًا، قابله بما هو أحسن".


الثاني عشر: ينبغي على الإنسان التأني والتثبت قبل الحكم على أعمال الآخرين، فلا يصدر حكمًا على شخص لمجرد رؤية صورة واحدة من شخصيته، فالحكمُ على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، فالعاقل الموفق يتجنب سرعة الانتقاد لأعمال الآخرين، فيحفظ لسانه، ويترك الأمر لأهل العلم كل بحسب اختصاصه للتصدي لمعالجة القضايا والظواهر السلبية بالطرق المناسبة من غير إفراط أو تفريط.


الثالث عشر:قد يغلب على ظن البعض أحيانًا تبني قول لموضوع محدد، أو قضية معينة استنادًا على فهم غير مكتمل، ثم يظهر خلاف ذلك، ورجوحه بدليل أقوى، فالتراجعُ إلى القول الأقوى دليلًا خيرٌ من التمادي في الخطأ، وهذ من التوفيق والحكمة وكمال العقل، فالعلم بحر لا ساحل له، قال تعالى: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76]، قال الطبري رحمه الله: "وفوق كل عالم من هو أعلم منه، حتى ينتهي ذلك إلى الله".
هذا ما يسَّر الله إيراده، والله أسأل بمنه وكرمه أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


شبكة الالوكة



أدوات الموضوع


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
تفسير الربع الأول و الثاني من سورة النساء بأسلوب بسيط امانى يسرى القرآن الكريم
ملف كامل عن تفسير الاحلام لابن سرين ♥ احبك ربى ♥ منتدى تفسير الاحلام
تفسير رؤية الافعى في المنام للنابلسي وإبن سيرين فراشة المنتدي منتدى تفسير الاحلام
المواعظ الغالية راجين الهدي المنتدي الاسلامي العام
في الحلم رؤيا النار وأدواتها وما اتصل بذلك زاهرة الياياسمين منتدى تفسير الاحلام


الساعة الآن 03:27 PM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل