الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
شرح الكلمات:
﴿ صلاتي ﴾: المراد بها الصلوات الخمس والنوافل.
﴿ نسكي ﴾: ذبحي.
﴿ محياي ﴾: ما آتيه في حياتي.
﴿ مماتي ﴾: ما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح.
﴿ لله ﴾: خالص لوجه الله، أو المراد حياتي وموتي بيد الله، فيكون في الآية توحيد الألوهية والربوبية.
﴿ وبذلك أمرت ﴾: بالإخلاص لك أمرت.
﴿ أول المسلمين ﴾: من هذه الأمة.
الشرح الإجمالي: يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله أن صلواته وذبحه وما يفعله في الحياة من الأعمال، وما يموت عليه من الإيمان والأعمال الصالحة جميع ذلك خالصا لله دون من سواه، وأنه أول من انقاد واستسلم لطاعة الله عزوجل من هذه الأمة. وقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ ﴾ تتمة الآيات: " ﴿ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾" ختم الله هذه السورة العظيمة بهذه الآيات، لأن السورة تدور كلها على التّوحيد وبيان الشرك.
وبيان ما يفعله المشركون مع الأصنام، وما حرّموه من المزارع والأنعام لأصنامهم. وختمها سبحانه وتعالى بالبراءة من كل ما يفعله المشركون، وهذا الغالب على السور المكية، فالسور المكية غالبها، بل تكاد تكون كلها في التّوحيد والنّهي عن الشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاثة عشرة سنة يدعو إلى التّوحيد، وينهى عن الشرك، وينزل عليه القرآن في ذلك، ومن جُملة ما نزل عليه في مكة هذه السورة العظيمة:
فقوله تعالى: ﴿ قُلْ ﴾ هذا أمر من الله جل وعلا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يُعلن للناس، ليس لناس وقته فقط، بل للناس جميعاً إلى أن تقوم الساعة، وليس لناس بلده، بل لناس العالم ﴿ إنَّ صَلاتِي ﴾ الصلاة في الشرع يُراد بها: العبادة المبتدئة بالتكبير المختتمة بالتسليم، التي تشتمل على عبادات قلبيّة وقوليّة وعملية، فالصلاة تشتمل على أنواع العبادة في القلب: من الخشوع، والخشية، والإقبال على الله سبحانه وتعالى، وباللسان: من التكبير، والتحميد، والثناء على الله، وتلاوة كتابه الكريم، ومناجاة الرب سبحانه وتعالى، وبالجوارح: من القيام، والرّكوع، والسجود، والجلوس. فالصلاة عبادة عظيمة، يجتمع فيها ما لا يجتمع في غيرها من أنواع العبادات، ولذلك جعلها الله عمود الإسلام، وجعلها الركن الثاني من أركان الإسلام.
"﴿ وَنُسُكِي ﴾" النُّسُك المُراد به: ما يذبح من بهيمة الأنعام على وجه التقرّب والعبادة، كهَدْي التمتُّع والقِران، وهَدْي التطوُّع، وهَدْي الجُبران، والأضاحي، والعقيقة، هذه كلها تُسمى نُسُكاً، فما ذُبح من بهيمة الأنعام على وجه التقرّب إلى الله تعالى بذبحه، فهو النُّسُك وكان الذبح على وجه التقرُّب موجوداً في الجاهلية، كانوا يذبحون للأصنام، ويذبحون للجن، ويذبحون للكواكب، يذبحون لغير الله عزّ وجلّ الأنصاب: الأصنام.
وهُرِيق، يعني: سُفك من الدماء من جسد، يعني: من ذبيحة.فالنبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن دينه مخالف لدين المشركين، فالمشركون يذبحون لغير الله، والنبي صلى الله عليه وسلم ومَن اتبعه يذبحون لله وحده لا شريك له، كما أنهم لا يصلُّون إلاَّ لله فكذلك لا يذبحون إلاَّ لله سبحانه وتعالى، وقَرْن النُّسُك بالصلاة يدلّ على أنه عبادة عظيمة، لا يجوز صرفها لغير الله، والنسك قد تساهل فيه كثير من الناس فصاروا يذبحون للجن طاعة للمُشَعْوِذِين من أجل العلاج بزعمهم.
"﴿ وَمَحْيَايَ ﴾": ما أحيا عليه في عمري من العبادة كله لله عزّ وجلّ.
"﴿ وَمَمَاتِي ﴾": ما أموت عليه- أيضاً- لله عزّ وجلّ، فيموت على التّوحيد، فمعنى الآية: أنه يحيا على التّوحيد، ويموت على التّوحيد، ثم أكد ذلك بقوله: ﴿ لا شَرِيكَ لَهُ ﴾ في ذلك وفي سائر أنواع العبادة. ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾" الرب هو: المالك، والعالمين جمع عالَم، وهو: ما سوى الله عزّ وجلّ من المخلوقات، فكل المخلوقات ربها واحد، هو الله سبحانه وتعالى، لكن قد يُقال لمالك الشيء: ربه، مثل: رب البيت، رب الحاجة، رب السيارة، رب الدراهم، وهذا مقيّد، أما إذا قلت الرب، أو رب العالمين، فهذا لا يكون إلاّ لله سبحانه وتعالى.
أما هذه الأصنام وهذه الأوثان، فلا تستحق العبادة لأنها مملوكة لله سبحانه وتعالى، ومعبدة لله سبحانه وتعالى، والعبد لا يُعبد، حتى ولو كان من أشرف العباد كالملائكة والرسل والأولياء، كلهم عبيد لله سبحانه وتعالى.
وذكر عبادتين عظيمتين: الصلاة والنُّسُك، لأن الصلاة عبادة بدنيّة، والنُّسُك عبادة ماليّة، وهي من أفضل العبادات المالية.
قال: "﴿ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ﴾" أمرني ربي سبحانه وتعالى.
ثم قال: "﴿ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾" أي: من هذه الأمة، فالأوليّة هنا نِسْبِيَّة، وإلاَّ فالرسل والمؤمنون من قبل النبي صلى الله عليه وسلم كلهم مسلمون، بمعنى أنهم مخلصون العبادة لله عزّ وجلّ. والإسلام هو الاستسلام لله بالتّوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله، هذا هو الإسلام، وهذا دين جميع الرسل- عليهم الصلاة والسلام.
الفوائد:
1- أن الصلاة والنسك عبادة.
2- أن جميع أعمال العبد الصالحة في الحياة، إذا أراد بها التقرب إلى الله انقلبت عبادة.
3- أن العبرة بالأعمال خواتمها.
4- أن الإخلاص لله شرط لقبول العمل.
أن العبادات توقيفيّة، لا يصلح منها شيء إلاَّ بأمر الله سبحانه وتعالى.
5- تدلّ على أن الرسول أول من يبادر إلى امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يتأخر عن امتثال أمر الله سبحانه وتعالى.
6- الذبح عبادة لله جل وعلا، بل من أجل العبادات فإذا ذبحت الذبيحة تقرباً إلى الله فهي عبادة من أفضل العبادات، وقد قرنت بأشرف العبادات وأعظمها التي هي الصلاة، فيكون جعلها لغير الله جل وعلا من الشرك الأكبر.
7- إن الصلاة من أعظم الأفعال والأعمال التي يتقرب بها إلى الله؛ لأنها تشتمل على الدعاء بأنواعه، وتشتمل على القيام والركوع والسجود والقراءة والتكبير والتحميد وغير ذلك، وهي في الواقع صلة بين العبد وبين ربه.
8- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الذبح لله، وكثيراً ما يقرب القرابين لله جل وعلا، ففي حجته نحر مائة من الإبل.
9- معنى قوله ﴿ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي ﴾: ما أحيا عليه من الأعمال.
10- وآتيه كله أتقرب به إلى الله ﴿ وَمَمَاتِي ﴾ يعني: ما أموت عليه من الإيمان، والرجاء والخوف، كله لله جل وعلا نيته وفعله وباطنه وظاهره.
11- التسمية على الذبيحة من جهة المعنى استعانة، فإذا سمَّى الله : فإنه استعان في هذا الذبح بالله -جل وعلا إن لم يقصد بالذبيحة التقرب إلى الله -جل وعلا-، ولا التقرب لغيره، وإنما ذبحها لأجل أضياف عنده، أو لأجل أن يأكلها، يعني: ذبحها لقصد اللحم، لم يقصد بها التقرب، فهذا جائز، وهو من المأذون فيه؛ لأن الذبح لا يشترط فيه أن ينوي الذابح التقرب بالذبيحة إلى الله - جل وعلا-.
12- أن ذكر اسم الله على الذبيحة واجب، وأن يكون قصد الذابح بها التقرب إلى الله إن كان - قد نوي بها تقربا - وهذا مثل ما يذبح من الأضاحي.
13- أن يذبح باسم الله، ويقصد بذلك التقرب لغير الله، فيقول -مثلا-: باسم الله، وينحر الدم، وهو ينوي بإزهاق النفس، وبإراقة الدم ينوي التقرب لهذا العظيم المدفون، أو لهذا النبي، أو لهذا الصالح فهذا وإن ذكر اسم الله، فإن الشرك حاصل من جهة أنه أراق الدم تعظيما للمدفون، وتعظيما لغير الله.
مناسبة الآية للباب:
حيث دلت الآية على أن الذبح لا يصح إلا لله فيكون عبادة، وصرف العبادة لغير الله شرك.
شبكة الالوكة