قال الامام السعدي في تفسيرها: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} :
(فالأمر هنا يشمل الأمر القدري، والأمر الشرعي، فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وعاقبة النصر والظفر لأوليائه وأهل طاعته، وإن جرى عليهم ما جرى) .،
(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) فلا إيمان إلا بتعلق، ولا عبودية إلا بتعلق، ولا إسلام إلا بتعلق؛ فمدار الدين على تعلق القلب برب العالمين من جهة ربوبيته وإحاطته وحفظه وإمداده ورزقه، ومن جهة إلاهيته وحبه وعبادته؛ فقلب المؤمن معلق بربه ،مهما باشرت يده تقليب الأسباب. فتعلق قلب المؤمن بربه كتعلق الجنين بحبل أمه السري، فهو لا ينفك عنه لحظة، فغذاؤه ودواؤه وحاجات جسده كلها عن طريقه بإذن الله، فالقلب إذا تعلق بربه فخضع وخشع واعترف وتوكل وافتقر واغتنى فقد قام بعبودية التعلق بربه، وعلى قدر تعلقه بالمخلوقين وانجذابه واحتياجه إليهم يكون نقص تعلقه بربه سبحانه. والمؤمن يعلم أن الملك ملك الله، والخلق خلقه، والعبيد عبيده، فهو لا ينفك عن تعلقه بمن هذا شأنه سبحانه وبحمده.
(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) : فالمتعلق بالله لا يُخذل في أشد الأهوال ،ولا يُنسى مع تتابع الكروب، بل تتتابع عليه ألطاف الملك الوهاب، وتتوالى عليه أمداد اللطيف الخبير، وهو ذاكرٌ لربه في كل حال، حتى مع التحام الأقران بتوالي الطعان، والمتعلق بالله لا تضيق عليه المخارج عند الخطوب وتكاثف الغموم، قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: «ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً دائماً، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة وبكل وجه، فما رأيت طريقاً للخلاص، فعرَضت لي هذه الآية: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: ٢]، فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم، فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج. فلا ينبغي لمخلوق أن يتوكل أو يتسبب أو يتفكر إلا في طاعة الله تعالى، وامتثال أمره، فإن ذلك سبب لكل فرج. ثم ينبغي للمتقي أن يعلم أن الله كافيه فلا يعلق قلبه بالأسباب، فقد قال عز وجل: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: ٣].
(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) : والمتعلق بالله بصير بحاله، عليم بعاقبة أفعاله، يعلم من أين يؤتى لذلك قلت ذنوبه، وهو حسن الظن بالمولى لذلك كثرت ضراعته وعظمت رغائبه، ويعلم أن لمولاه حِكَماً في تأخير إجابة دعواته أحياناً، (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) :ومن فضائل التعلق بالله دون سواه أن مَن تعلق بربه ومولاه ربِّ كل شيء ومليكه؛ كفاه ووقاه، وحفظه وتولاه؛ فهو نعم المولى ونعم النصير. ومَن تعلق بغيره وَكَلَه إلى مَن تعلق به؛ وخَذَلَه، قال وهبُ بن منبه: «أوحى الله تبارك وتعالى إلى نبيه داوُد عليه السلام: يا داوُد! أما وعزّتي وعظمتي لا يعتصم بي عبدٌ من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن مخرجاً، أما وعزّتي وعظمتي لا يعتصم عبدٌ من عبادي بمخلوقٍ دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعتُ أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدمه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك»
(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) :والمتعلق بالله لا يخشى غيره ولا يخاف سواه، لعلمه أن المخلوقين مهما أوتوا من قوة وخبرة وسلطان وبطش فلا يخرجون عن قَدَره وقُدرته طرفة عين، ولو اجتمعوا على أن ينفعوا أو يضروا أحداً فلا يكون لمرادهم وقوع إلا إن شاء الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ،وقال شيخ الإسلام: «العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره؛ فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله؛ فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو في شربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يُشرَك به شيء» ، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: «والله ما صدق اللهَ في عبوديته مَنْ لأحد من المخلوقين عليه ربَّانية».، وقال ابن القيم رحمه الله: «إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده، تحمَّل الله سبحانه حوائجه كلها، وحَمَل عنه كل ما أهمه، وفرَّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته. وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم؛ فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره. فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته»
وللتعلق بالله تعالى علامات ومنارات ،فمنها:
الخضوع والخشوع لربه: فإذا تعلّق المؤمن بربّه فإنه يذل لأمره ويخضع ويخشع، ويعلم أن الأمر كله لله، وأن الدين دينه، فمهما جرت به رياح الأحكام فهو جارٍ معها رخيّةً كانت عليه أو شديدة، فالله خلقه ليبتليه وليظهر رسوخ قدمه في التسليم لأمره وشرعه. ومن علامات تعلق العبد بربه :الاستعداد للرحيل: ذلك أن المتعلق بالله مستعدٌّ للرحيل على الدوام، حازمٌ أمره قبل الموت، حاملٌ زاده قبل الفوت، حبلُ أمله في الدنيا أقصر من كراع نملة، وفي الآخرة أوسع من شعاع الشمس. ومن علامات تعلق العبد بربه : تجديد التوبة النصوح: فالمتعلق بالله محسن لمتابه، فهو يعلم أن قلبَه محلُّ نظر ربه تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يخرج شيء عن حكمه وتدبيره، والحذرَ الحذر من المعاصي، فإن عواقبَها سيئة. ومن علامات تعلق العبد بربه : إحسان الظن بالمولى الكريم: فالمتعلق بربه كله أمل في فضله وكرمه وسعة رحمته، وتهش نفسه وتطرب لسماع البشارات للمؤمنين سائلًا ربه أن يسلكه سبيلهم، فهو منتظر لرحمة ربه في الآخرة، راغباً راهباً محباً، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. ومن علامات تعلق العبد بربه : الفرح بالله وبشاراته: فالمتعلق بالله فرح مسرور بربه تعالى، مستبشرٌ حُسنَ العاقبة لديه، فرحٌ بالزلفى بين يديه، محتفٍ بالخير الهائل من يديه، جَذِلٌ مسرورٌ ببشارات رسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم متمثلًا تلك الأوصاف الحميدة والأخلاق الجميلة، ممتلأً قلبه بمحبته والتمسك بسنته والمسارعة لاتّباعه،
ومن علامات تعلق العبد بربه :حراسة الوقت من الضياع: فالمتعلق بالله يعلم أن عمره قصير، وأن سنينه مهما امتدت وبسطت فمناه وآماله أكبر وأبعد من أن تحتويها، لذلك فهو يعمر الباقية ولو بخراب الفانية، فيجعل الدنيا معينة على تحصيل فوز الآخرة وفلاح الباقية، مجتهد في عمارة وقته بذكر الله وما والاه، مقدمٌ الأهم على المهم، متكامل في توزيع جهده، منظمٌ في ترتيب وقته، يقطع بحسن نيته وقوة عزيمته ما لا يقطعه الأفذاذ من أقرانه، متعلق بكليته بالله واثقٌ به متوكلٌ عليه مفوض أموره إليه. ومن علامات تعلق العبد بربه : توحيد التعلق بالله دون من سواه: وهذه أخص سمات المتعلق الحقيقي، ومن مقتضيات تحقيق العبودية لله تعالى إفراده سبحانه بالتعلق، فمع بذل الأسباب الظاهرة لا بد أن يكون القلب متعلقاً بمسببها سبحانه، فالخير كله بيديه وهو على كل شيء قدير. ومن علامات تعلق العبد بربه : شدةُ الحرص على موارد حياة القلب ودفع أسباب ضعفه وموته، فلما كان القلب هو قطب رحى الإرادة، وصندوق ذخائر الإيمان، وبصلاحه صلاح النفس وفلاح المصير؛ كان له المحل الأرفع في استصلاحه وتنمية موارد الخير فيه والعمل على حراسته من غوائل الشيطان. ومن كان هذا حاله فهو البصير حقاً والعاقل صدقاً، وعلى قدر صلاح القلب تكون نسبة تحسسه من دغل الذنوب وتفرسه في مآلاتها في حاله ومآله.
ومن أمارات التعلق بالله: تعلقُ القلب ببيوت الله، فلما تعلق قلبه بربه هفت نفسه لبيوت الله التي رُفعت لذكره: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 36، 37]، فالمسجد هو قطب رحى راحة المؤمن فإذا خرج منه أحس ببَضعة منه بقيت خلفه فلا يطمئن حتى يعاودها، فهو ينتقل من صلاة لقراءة لذكر لتفكر لدعاء حتى اختلط حب المسجد بلحمه ودمه وعصبه، وكذلك المؤمنة في مصلاها في قعر بيتها، فسلوتها وراحتها في صلاتها وذكرها ودعائها، ويكفي المؤمن الذي أمسى بهذا الحنين لموطن السجود بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله
أيها المسلمون
فسلم لربك يا طالب الوصول إلى الله, فالأمر كله لله ،فكم من أناس في هذه الدنيا لا هم لهم إلا أنفسهم ،وسلموا أمرهم لأنفسهم لا لله ،وقديما قالوا : من عاش لنفسه عاش صغيرا ،ومات حقيرا ،فسلم نفسك لله وحده ،يأمرها وينهاها بما هو أنفع وأصلح لها ,فهو سبحانه عليم حكيم ،وضع يديك ورجليك في قيود الشريعة الفضية ،لتتحرر من ذل العبودية لغير الله، فسلم تسلم، فالأمر كله لله ،أطع ربك ،نفذ أوامره ,فالأمر كله له لا لمن تخاف منهم ,فالذي أمرك الله سيحفظك وينجيك ,وإن ابتلاك فسيرضيك ،قال ابن القيم رحمه الله: ” اصدق الله ,فإذا صدقت عشت بين عطفه ولطفه , فعطفه يقيك ما تحذره ,ولطفه يرضيك بما يقدره ” ،فسوف تعيش وتحيا بين العطف واللطف ،فكل ما تخاف منه لن يحدث ,لأنه سبحانه هو الملك – فلا يجري في الكون شيء إلا بقدره وإذنه ومشيئته ,فسيحميك بعطفه، وإذا قدر عليك شيئا تكرهه فسيرضيك بلطفه ،كن لله كما يريد ,يحميك ويرضك ،فسلم تسلم لتصل إليه ،فالأمر كله لله .
الشيخ حامد ابراهيم