السعادة يا رعاكم الله: أمر لا يقاس بالكم ولا يشترى بالدنانير، لا يملك بشر أن يعطيها، كما أنه لا يملك
أن ينتزعها ممن أوتيها.
السعادة: دين يتبعه عمل، ويصحبه حمل النفس على المكاره، وجبلها على تحمل المشاق والمتاعب، وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر، والشدائد بالجلد، والسعيد من آثر الباقي على الفاني {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [(96) سورة مريم].
السعادة: هي الرضا بالله والقناعة بالمقسوم والثقة بالله واستمداد المعونة منه، من ذاق طعم الإيمان ذاق طعم السعادة، قال رسول الله : ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا)) [رواه مسلم].
السعادة: هي الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً وإتباع هذا الرضا بركعات وسجدات وخضوع وتسليم لله.
السعادة والفلاح عباد الله: في الإسلام الذي هو الاستسلام الكامل لله - جل وعلا -، والخضوع له والخلوص له
من الشرك والأنداد، والخروج عن داعية الهوى إلى داعية الرحمن {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [(97) سورة النحل].
السعادة: وجدها نبي الله يونس بن متى وهو في ظلمات ثلاث في بطن الحوت، في ظلمة اليم، في ظلمة الليل، حين انقطعت به الحبال إلا حبل الله، وتمزقت كل الأسباب إلا سبب الله، فهتف من بطن الحوت بلسان ضارع حزين: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [(87) سورة الأنبياء] فوجد السعادة.
السعادة: وجدها موسى - عليه السلام - وهو بين ركام الأمواج في البحر، وهو يستعذب العذاب في سبيل الواحد الأحد: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [(62) سورة الشعراء].
السعادة: وجدها محمد - عليه الصلاة والسلام - وهو يطوّق في الغار بسيوف الكفر، ويرى الموت رأي العين، ثم يلتفت إلى أبي بكر ويقول مطمئناً: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [(40) سورة التوبة].
السعادة: وجدها يوسف - عليه السلام - وهو يسجن سبع سنوات فيسألونه عن تفسير الرؤى، فيتركها، ثم يبدأ بالدعوة فيقول: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [(39) سورة يوسف]
فيعلن الوحدانية فيجد السعادة.
السعادة: وجدها أحمد بن حنبل في الزنزانة، وهو يجلد جلداً لو جُلده الجمل لمات كما قال جلاّدوه، ومع ذلك يصر على مبدأ أهل السنة والجماعة فيجد السعادة.
السعادة: وجدها شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يُكبّل بالحديد، ويُغلِق عليه السجان الباب، داخل غرفة ضيقة مظلمة، فيقول ابن تيمية: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [(13) سورة الحديد] ثم يلتفت إلى الذين هم خارج السجن، فيرسل لهم رسالة، وينشد لهم نشيداً، وينقل لهم نبأً وخبراً من السجن فيقول: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة".
هذه هي السعادة، وهذه بعض أحوال السعداء، ولا يكون ذلك إلا في الإيمان والعمل الصالح، الذي بُعث به الرسول - عليه الصلاة والسلام -، فمن سكن القصر بلا إيمان، كتب الله عليه:
{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [(124) سورة طـه].
ومن جمع المال بلا إيمان، ختم الله على قلبه: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}. ومن جمع الدنيا وتقلد المنصب بلا إيمان، جعل الله خاتمته {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}.
قال أهل السير والتاريخ: لما استقر هارون الرشيد في الخلافة، وتولاها بعد أبيه أنفق الكنوز والقناطير المقنطرة في عمارة قصر على نهر دجلة، يدخل النهر من شمال القصر، ويخرج من جنوبه، وعمّر الحدائق التي تطل وتتمايل على النهر، ثم رفع الستور، وجلس للناس، فدخل الناس يهنئونه بقصره وبحدائقه، وكان فيمن دخل أبو العتاهية، فوقف أمام هارون الرشيد وقال له:
عش ما بدا لك سالماً ***- في ظل شاهقة القصور
فارتاح هارون لهذا الكلام وقال: زد، فقال:
يُجرى عليك بما أردت ***- مع الغدوّ مع البكور
أي: يأتيك الخدم والجواري بالأطعمة والأشربة وكل ما أردت صباحاً ومساءً قال: زد، فقال:
فإذا النفوس تغرغرت ***- بزفير حشرجة الصدور
فهنـاك تعلم موقناً ***- ما كنت إلا في غرور!
قال: أعد أعد. فقال: فإذا النفوس تغرغرت، يعني إذا حضرت سكرات الموت، وحان الأجل، وبلغت الروح التراقي: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [(27) سورة القيامة] والتُمس الطبيب، وذلك الذي يحيد منه العبد.
فإذا النفوس تغرغرت ***- بزفير حشرجة الصدور
فهنـاك تعلـم موقنـاً ***- ما كنت إلا في غرور!
إذا أتتك سكرات الموت، وأشرفت على الهلاك، سوف تعلم أنك كنت تضحك على نفسك، وأنك كنت
تعبث كما يعبث الصبيان.
فبكى هارون حتى وقع على الأرض، ثم أمر بالستور فهتكت، والأبواب فأغلقت، ونزل في قصره القديم،
فلم يمض عليه شهر واحد، حتى أصبح في عداد الموتى.
أيها المسلمون: من أراد السعادة فليلتمسها في المسجد: صلاةً وجلوساً وتعلقاً، من أراد السعادة فليلتمسها في المصحف: قراءةً وتدبراً وحفظاً. من أراد السعادة فليلتمسها في السنة: اتباعاً وتطبيقاً ومنهجاً. من أراد السعادة فليلتمسها في الذكر، في التلاوة، في الهداية، في الاستقامة، في الالتزام، في أتباع
محمد - صلى الله عليه وسلم -.
إن السعيد من سعد بطاعة الله، والشقي من شقي بمعصيته لله قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [(103 - 108) سورة هود].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد: ألا فاعلموا عباد الله أن لفقدان السعادة أبواباً ينبغي إحكام إغلاقها وكشف عوراتها، فمن ذلك ما يكثر من الحفلات الغنائية تحت مسمى السياحة، والغناء مزمار الشيطان، ورقية الزنا، الذي ينبت النفاق والقلق كما ينبت الماء الكلأ، يقول الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [(6) سورة لقمان].
ومن مهلكات السعادة: جعل البيت المسلم محلاً لمردة الجن وبُعد الملائكة وذلك بنشر الصور التي حرمها
الشارع على جدرانه وفي فنائه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه
كلب أو صورة)) فما بال الكثيرين يغلقون أبوابهم في وجوه الملائكة ويستدعون أسباب الشقاء والقلق
ثم هم ينشدون السعادة بعد ذلك؟.
وأيضاً من أبواب الشقاء: الذنوب والمعاصي التي قال عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) [رواه الإمام أحمد]، وقد قال الإمام أحمد - رحمه الله - في مسنده: "وجد في خزائن بني أمية حنطة، الحبة بقدر نواة التمر وهي في صرة مكتوب عليها:
هذا كان ينبت في زمن العدل".
ومن أسباب القلق أيضاً وذبح السعادة: التهاونُ بشأن الصلاة أو التقليل منها، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)). وكان إذا حزبه أمر واشتد عليه لجأ إلى الصلاة.
وأيضاً: فإن ترك الذكر والدعاء والاستغفار، محل للشقاء والهم والحزن، ولذا كان لزاماً على من ينشد السعادة ألا يغفل هذا الأمر المهم، بل عليه أن يمسك بزمامه، ويعضّ عليه بالنواجذ، وليعلم أن بالذكر والدعاء والاستغفار سيجعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.
دخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة فقال: ((يا أبا أمامة، مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟، قال: بلى يا رسول الله. قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي وقضى عني ديني)).
[رواه أبو داود].
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن
والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال....