أين تكون السعادة؟ وأين يكون الشقاء؟.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد: سؤال نبدأ به خطبتنا هذه الجمعة، وجوابه هو موضوعها:
أين تكون السعادة؟ وأين يكون الشقاء؟.
الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد
إن الحديث عن السعادة والشقاء، سيظل باقياً ما دام في الدنيا حياة وأحياء، وإن كل إنسان على هذه البسيطة ليبحث عن السعادة جاهداً، ويود الوصول إليها والحصول عليها، ولو كلفه ذلك كل ما يملك، ألا وإن جمعاً من الواهمين يعرفون السعادة بأنها لا حقيقة لها، وأنها خيال يبتدعه الوهم ويكذبه الواقع.
والحق أن هؤلاء جاهلون أو مخادعون؛ لأنه لا يعقل البتة أن يخلقنا الله ثم يريد لنا أن نشقى جميعا، كيف ذلك؟
والله يقول لنبيه : {طه* مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ} [(1 - 2) سورة طه]ويقول - جل وعلا -:
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [(123) سورة طـه].
السعادة: هي جنة الأحلام، التي ينشدها كل البشر، من المثقف المتعلم في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن السلطان في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الصغير، ولا نحسب أحداً منهم يبحث عمداً عن الشقاء لنفسه أو يرضى بتعاستها.
إن فقدان السعادة من قلب المرء، يعني بداهةً حلولَ القلق والاضطراب النفسي في شخصه، فتجتمع عليه السباع الأربعة، التي تهد البدن وتوهنه، ألا وهي: الهم والحزن والأرق والسهر.
ولا أشد من وقوع الهمّ في حياة العبد، إذ الهمّ جند من جنود الله - عز وجل - سلطه على من يشاء
من عباده ممن كان ضعيف الصلة بالله، غارقاً في المعاصي والذنوب {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [(4) سورة الفتح].
سئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: من أشد جند الله؟ قال: "الجبال، الجبال يقطعها الحديد، فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد، فالنار أقوى، والماء يطفئ النار، فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء، فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب، فالريح أقوى، والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه، فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان، فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم، فأقوى جند الله هو الهمّ يسلطه الله على من يشاء من عباده".
إذاً يا عباد الله السعادة والطمأنينة عطاء من الله ورحمة، كما أن الهمّ والقلق والضيق غضب من الله ومحنة.
السعادة تسير مع الإنسان حيث استقلت ركائبه، وتنـزل إن نزل، وتُدفن
في قبره معه.
أيها المسلمون: اختلفت مشارب الناس في فهم السعادة فتوجه كل بحسب مشربه {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [(148) سورة البقرة].
فمن الناس: من ظنّ أن السعادة في الملك كفرعون، وفعلاً مَلَك، ولكنه ملك بلا إيمان، وتسلط بلا طاعة، فتشدق في الجماهير: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} [(51) سورة الزخرف] ونسي أن الذي ملّكه هو الله، والذي أعطاه مصر هو الله، والذي جمع له الناس هو الله، والذي أطعمه وسقاه هو الله، ومع ذلك يجحد هذا المبدأ ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [(38) سورة القصص] فكان جزاء هذا العتو والتكبر والتمرد على الله، إنه لم يتحصل على السعادة التي طلبها، بل كان نصيبه الشقاء والهلاك واللعنة بعينها {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [(25) سورة النازعات] ويقول الله عنه وعن مثله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [(46) سورة غافر].
ومن الناس: من ظنّ أن السعادة في جمع المال كقارون، فمنحه الله كنوزاً كالتلال ما جمعها بجهده، ولا بذكائه، ولا بعرقه، ولا بعبقريته، وظنّ أنه هو السعيد وحده، وكفر نعمة الله، وقد حذره ربه، وأنذره مولاه مغبة تصرفاته فأبى وأصر على تجريد المال من الشكر، والسعي في الأرض فساداً، فكان الجزاء المر {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [(81) سورة القصص].
ومن الناس: من ظنّ أن السعادة في كثرة الولد، كالوليد بن المغيرة، فآتاه الله عشرة من الأبناء، كان يحضر بهم المحافل، خمسة عن يمينه، وخمسة عن يساره ونسي أن الله خلقه فرداً بلا ولد {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا} [(11 - 16) سورة المدثر]. فماذا فعل، وكيف تصرف؟ أخذ عطاء الله من الأبناء، فجعلهم جنوداً يحاربون الله إلا من رحم ربك، فقال الله فيه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}
[(26 - 30) سورة المدثر].
ومن الناس: من يظنّ بأن السعادة في الشهرة فيقضي ساعاته في توجيه الناس إليه، ليصبح معبود الجماهير كما يقال، وحديث الركبان، وشاغل الدنيا، فيقتلعه ربك من جذوره، ويمحق سعيه {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [(17) سورة الرعد].
ومن الناس: من يظنّ أن السعادة في الفن، الفن المتهتك الخليع الماجن، فيدغدغ الغرائز، ويلعب بالمشاعر، ويفتن القلوب، ويسكب الغرام في النفوس فيحمّله الله ذنوب من أغواهم، دون أن ينقص من ذنوبهم شيئاً، ويحجب الله السعادة عن كل من لم يعترف بألوهيته، ويدين بربوبيته، فيقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [(124 - 126) سورة طه].
ومن الناس: من يرون السعادة في الوظيفة والسلطة، وتغمره السعادة عندما يفسح له في المجالس ويصغى إليه عندما يتحدث، لهذا يحيى وعليه يموت، ولم يعتبر بمن قبله ممن خدع بهذه السلطة، وإذا به يفقد وظيفته فتنقلب الدنيا عليه، وتكون سعادته تلك ديناً عليه، يقضيه هماً وغماً، تضطره تلك الوظيفة بعد فقدها إلى أن يغلق باب بيته عليه، ينشد نسيان ذلك الماضي التعيس.
ومن الناس: من طلب السعادة في زوج وولد، فلما حصلهم واستووا، إذا بهم ألد أعدائه وأشد خصومه، ينغصون عليه حياته يتمنون علانية ساعة موته لينقضوا على ما بقي من تركة يقتسمونه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [(14) سورة التغابن].
ومن الناس: من ظنّ أن السعادة في الشهرة، فهو لاعبٌ ماهر، أو هو فنان قدير، أو هو شاعر رقيق، أو هو مغنٍ صفيق، أو هو كاتب ساخرٌ مرغوبٌ في القراءة له. وكل ذلك من أجل أن يُصدّر اسمه بقولهم: النجم الساطع، والكوكب اللامع. ومسكين ذلك اللاعب، وذلك المغني، وذلك الممثل، ينظر أمامه، وينظر خلفه، وعن يمينه وعن شماله، فإذا الآلاف من الناس يصفقون له ويشجعونه، وربما حملوه على الأعناق، وربما يُسِرت له المعاملات وربما التقطت معه الصور، أي تغريرٍ له أعظم من هذا التغرير؟ هل سيتفطن إلى أن بحثه عن الشهرة ربما كان سبب هلاكه؟ وهل سيتفطن إلى أن هؤلاء الذين يصفقون له ويطبلون، سينسونه يوم يوارى في التراب.
ومن الناس: من غدا يبحث عن السعادة في اللهو والعبث، فتراه تارةً في ملهى وتارة في مقهى، وأخرى على شاطئ، وغيرها في سوق، وهكذا تمر عليه الأيام والشهور والسنين. طلبوها من طرق منحرفة، فكانت هذه الطرق، سبباً لدمارهم وهلاكهم.
كل هؤلاء عباد الله كانت نظرتهم للسعادة قاصرة، لا تجاوز مواطئ أقدامهم.