أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي تأملات في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، وبعد:
فقد قال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

قال ابنُ جرير: "ليستِ اليهود - يا محمَّد - ولا النَّصارى براضيةٍ عنك أبدًا، فدعْ طلب ما يُرضيهم ويُوافقهم، وأقبِلْ على طلَب رِضا الله في دعائِهم إلى ما بعثَك الله به من الحقّ، فإنَّ الَّذي تدْعوهم إليه من ذلك لَهو السَّبيل إلى الاجتِماع فيه معك على الأُلْفة والدين القيِّم، ولا سبيلَ لك إلى إرضائِهم باتِّباع ملَّتهم؛ لأنَّ اليهوديَّة ضدّ النَّصرانيَّة، والنَّصرانيَّة ضد اليهودية، ولا تجتمع النَّصرانيَّة واليهوديَّة في شخص واحد، ولن يَجتمع فيك دينان متضادَّان في حال واحدة، وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل، فالزم هُدى الله الَّذي لجمع الخلْق إلى الأُلفة عليه سبيل"[1].

قوله: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾؛ أي: قلْ يا محمَّد: إنَّ هدى الله الَّذي بعثَني به هو الهدى؛ يعني: هو الدِّين المستقيم الصَّحيح الكامل الشَّامل.

قوله تعالى: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ﴾، فيه تهديد ووعيد للأمَّة من اتّباع طرائق اليهود والنَّصارى والتَّشبُّه بهم، بعد أن علموا القرآن والسنَّة - عياذًا بالله من ذلك - فإنَّ الخطاب للرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - والأمر لأمَّته.

وذكر الشيخ ابن عُثيمين - رحمه الله - في تفسيره فوائد للآية الكريمة:




أوَّلاً: بيان عناد اليهود والنَّصارى؛ فإنَّهم لن يرضَوا عن أحدٍ مهْما تألَّفهم وبالَغ في ذلك حتَّى يتَّبع ملَّتهم.

ثانيًا: الحذر من اليهود والنَّصارى، فإنَّ مَن تألَّفهم وقدَّم لهم تنازُلات، فإنَّهم سيطلبون المزيد، ولن يرضَوا عنه إلاَّ باتّباع ملَّتهم.

ثالثًا: أنَّ الكفَّار من اليهود والنَّصارى يتمنَّون أنَّ المسلمين يكونون مثلهم في الكُفر؛ حسدًا لهم؛ قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [البقرة: 109]، قال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89].

رابعًا: استدلَّ كثيرٌ من الفقهاء بقوله تعالى: ﴿ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ - حيث أفرد الملَّة - على أنَّ الكفر ملَّة واحدة، كقوله تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفَّار، وكل منهم يرث قريبَه، سواء كان من أهل دينِه أم لا؛ لأنَّهم كلهم ملَّة واحدة.

خامسًا: أنَّ ما علَيْه اليهود والنَّصارى ليس دينًا، بل هو هوى؛ لقوله تعالى: ﴿ أَهْوَاءَهُمْ ﴾، ولَم يقُل: ملَّتهم، كما في أوَّل الآية، ففي الأوَّل: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾؛ لأنَّهم يعتقدون أنَّهم على ملَّة ودين، ولكن بيَّن الله - تعالى - أنَّ هذا ليس بدين ولا ملَّة؛ بل هوى، وليْسوا على هدى؛ إذ لو كانوا على هُدًى لوَجب على اليهود أن يُؤمِنوا بالمسيح عيسى ابن مريم، ولوجب عليْهم جميعًا أن يُؤمنوا بمحمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم.

سادسًا: أنَّ العقوبات إنَّما تقع على العبد بعد أن يأْتيه العلم، وأمَّا الجاهل فلا عقوبةَ عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ [البقرة: 120]، وهذا الأصل يشهد له آيات متعدِّدة؛ منها قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، وقال تعالى: ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [الأحزاب: 5].

سابعًا: أنَّ منِ اتَّبع الهوى بعد العلم فهو أشدُّ ضلالة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

ثامنًا: الرَّد على أهل الكفْر بهذه الكلمة ﴿ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾، والمعنى: إنْ كان معكم هدى الله، فأنتم مهتدون، وإلاَّ فأنتُم ضالُّون.

تاسعًا: أنَّ البدَع ضلالة؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾، ولقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24]، فليس بعد الهدى إلاَّ الضَّلال، ولقول النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((كلّ بدعة ضلالة))[2].

عاشرًا: أنَّ ما جاء إلى الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - سواء كان القرآن أم السنَّة، فهو علم، فالنَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب؛ كما قال الله لنبيِّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ [العنكبوت: 48]، ولكنَّ الله تعالى أنزل عليه هذا الكتاب، حتَّى صار بذلك نبيًّا جاء بالعلم النَّافع، والعمل الصَّالح؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].

الحادي عشر: أنَّه لا أحد يَمنع ما أراد الله من خيرٍ أو شرٍّ؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، روى البخاري ومسلم من حديث المُغيرة بن شُعبة، أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((اللَّهُمَّ لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعْطِيَ لِما منعتَ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد))[3]؛ أي: لا ينفع ذا الجد - أي: الحظّ والغنى - حظُّه وغناه من الله، فاللَّه مُحيطٌ بكلِّ شيء، وقادرٌ على كل شيء، ولا ينفع العبدَ إلاَّ عملُه الصَّالح.

الثَّاني عشر: أنَّ هذا التَّحذير في قوله تعالى: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ﴾ موجَّه إلى رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فكيف بمَن دونه؟! فإنَّ هذا التَّحذير يشمله وأوْلى؛ قال تعالى لنبيِّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 74، 75].

الثالث عشر: أنَّ ما عليه اليهود والنصارى من دينٍ باطل منسوخٌ بشريعة الإسْلام؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾، وهو الإسلام، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ﴾ [آل عمران: 19]، ولقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، روى مسلم في صحيحه من حديث أبِي هُرَيرة - [IMG]https://www.**- /vb/images/smilies/rada1.gif[/IMG] - أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((والَّذي نفسُ محمَّد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة؛ يهودي ولا نصراني، ثمَّ يَموت ولم يؤْمِن بالَّذي أُرْسِلت به، إلاَّ كان من أصحاب النَّار))[4]، حتَّى عيسى - [IMG]https://www.**- /vb/images/smilies/3laih.gif[/IMG] - عندما ينزل في آخر الزمان لا يأْتِي بشرع جديد، بل يحكم بشريعة الإسلام، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - [IMG]https://www.**- /vb/images/smilies/rada1.gif[/IMG] - أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((والَّذي نفسي بيده، ليوشكَنَّ أن ينزل فيكم ابنُ مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجِزْية، ويفيض المال حتَّى لا يقبله أحد، وحتَّى تكون السَّجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها))، ثمَّ يقول أبو هريرة: "اقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 159]"[5]،[6].

والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيّنا محمَّد، وعلى آله وصحْبِه أجْمعين.

[1] تفسير ابن جرير مختصرًا (1/565).

[2] جزء من حديث في صحيح مسلم: ص 335 برقم 867.

[3] ص 172 برقم 844، وصحيح مسلم: ص 236 برقم 593.

[4] ص 85 برقم 153.

[5] ص 414 برقم 2222، وصحيح مسلم: ص 86 برقم 155 واللفظ له.

[6] تفسير سورة البقرة، للشيخ ابن عثيمين: (2/29- 34).



د. أمين بن عبدالله الشقاوي..الألوكة



إظهار التوقيع
توقيع : رووية ورهوف
#2

افتراضي رد: تأملات في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}

بارك الله فيك و جعله في ميزان حسناتك ان شاء الله

إظهار التوقيع
توقيع : nesrine
#3

افتراضي رد: تأملات في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}

تسلمي وجزاكي الله كل الخير
إظهار التوقيع
توقيع : صمت الورود
#4

افتراضي رد: تأملات في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}

الف شكر حبيبتى
وينقل لقسم القران الكريم

إظهار التوقيع
توقيع : قوت القلوب 2
#5

افتراضي رد: تأملات في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}

مبارك الله فيكى
إظهار التوقيع
توقيع : اوزاريس
#6

افتراضي رد: تأملات في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}

فوائد الشيخ ابن عثيمين جداً ثرية..

إقتباس
رابعًا: استدلَّ كثيرٌ من الفقهاء بقوله تعالى: ﴿ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ - حيث أفرد الملَّة - على أنَّ الكفر ملَّة واحدة، كقوله تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفَّار، وكل منهم يرث قريبَه، سواء كان من أهل دينِه أم لا؛ لأنَّهم كلهم ملَّة واحدة.

#7

افتراضي رد: تأملات في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}

جزآآكـ الله خيرا
رد: تأملات في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}

#8

افتراضي رد: تأملات في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}

بارك الله فيكى
إظهار التوقيع
توقيع : بائعه الورد
#9

افتراضي رد: تأملات في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}

بارك الله فيكي
إظهار التوقيع
توقيع : لولو حبيب روحي


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
60 سؤالا في أحكام الحيض والنفاس للشيخ بن عثيمين رحمه الله شوشو السكرة فتاوي وفقه المرأة المسلمة
فـتَـاوَى مُهـمَّـة للمَرأة المُسلِمَة نسيم آڸدکَريآت فتاوي وفقه المرأة المسلمة
مضمون القرآن الكريم كاملا .. متجدد بمشيئة الله .. حبيبة أبوها القرآن الكريم
سلسلة أدعية لاتصح ولايجوز نشرها اماني 2011 احاديث ضعيفة او خاطئة
تفسير اية الكرسى للعلامة العثيمين رحمه الله بياض الثلج المنتدي الاسلامي العام


الساعة الآن 07:01 PM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل